حول المسألة اليهودية
الفصل الثاني
-2-
«قدرة يهود و مسيحيي اليوم على التحرر»
Einundzwanzig Bogen aus der Schweiz pp.56-71
الملزمة الحادية و العشرون، ص 56-71
تحت هذه الصيغة يعالج باور (2) علاقة الدين اليهودي والمسيحي وعلاقتهما بالنقد. فعلاقتهما بالنقد هي علاقتهما « بالقدرة على أن يكونا متحررين. »
ينتج عن ذلك:
« على المسيحي أن يرتفع درجة واحدة، أن يرتقي فوق دينه، لكي يتخلى عن الدين بشكل عام »،
أي أن يصبح حرا
« أما اليهودي فليس عليه بالعكس أن ينتهي من جوهره اليهودي فقط وإنما أيضا من تطور اكتمال دينه، من تطور بقي غريبا عنه. » (ص 71)
وهكذا يحول باور مسألة تحرر اليهودي هنا إلى مسألة دينية بحتة. الشك الأخلاقي اللاهوتي في من هو الأكثر حظا في أن ينال السعادة الأبدية، اليهودي أم المسيحي، يتكرر في صيغة أكثر تنورا، أي الاثنين أكثر قدرة على التحرر؟ لم يعد السؤال مطروحا: هل تحرر اليهودية أو المسيحية الإنسان؟ بل العكس: ما الذي يحرر أكثر نفي اليهودية أم نفي المسيحية؟
«إذا أراد اليهود أن يتحرروا فإِنه لا يجوز لهم أن يعتنقوا المسيحية وإنما المسيحية الملغاة، الدين الملغى بوجه عام، هذا يعني التنوير، النقد و نتائجه، الإنسانية الحرة.» (ص 70)
لا يزال الأمر متعلقا باعتناق اليهود عقيدة ما، ولكن ليس اعتناق المسيحية وإنما المسيحية الملغاة.
يطالب باور اليهود بالتخلي عن جوِهر الدين المسيحي، وهي مطالبة كما يقول هو نفسه لا تنبثق من تطور الجوهر اليهودي.
وحيث لم يدرك باور، في نهاية المسالة اليهودية، الديانة اليهودية إلا كنقد المسيحية الديني الفج لها، فلا تكتسب لديه إلا أهمية دينية، صار من الممكن التكهن في أن يتحول تحرر اليهود لديه أيضا إلى عمل فلسفي لاهوتي.
يصوغ باور الجوهر المثالي المجرد لليهودي، أي دينه كجوهر كلي له. ويستنتج وهو في ذلك على حق:
«لا يعطي اليهودي للبشرية شيئا، حين يغفل تطبيق قانونه المحدود»، حين يلغي يهوديته بأكملها. (ص 65)
تصبح العلاقة بين اليهود والمسيحيين طبقا لذلك كما يلي: المصلحة الوحيدة للمسيحي في تحرر اليهودي هي إنسانية عامة (نظرية). فاليهودية هي واقع مهين في عين المسيحي الدينية. وحالما تكف عينه عن أن تكون دينية، يكف هذا الواقع عن أن يكون مهينا. أن تحرر اليهود في حد ذاته ليس عملا يناسب المسيحي.
وعلى العكس فلكي يحرر اليهودي نفسه ليس عليه أن يقوم بعمله فقط وإنما أيضا بعمل المسيحي، أي نقد الأناجيل الأربعة وحياة يسوع، الخ.
«عليهم أنفسهم أن يروا: سيقررون مصيرهم بأنفسهم، فالتاريخ لا يسمح أن يسخر منه.» (ص 71)
إننا نحاول أن نحطم الصيغة اللاهوتية للمسألة. تحيلنا مسألة قدرة اليهودي على التحرر إلى مسألة: ما هو العنصر الاجتماعي الخاص الذي يجب التغلب عليه لإلغاء اليهودية؟ فقدرة يهود اليوم على التحرر هي علاقة اليهودية بتحرر عالمنا الراهن. تأتي هذه العلاقة بالضرورة من الموقع الخاص لليهودية في عالمنا المستعبد الراهن.
لنتأمل اليهودي الدنيوي الواقعي، ليس يهودي السبت كما يفعل باور، وإنما اليهودي العادي.
لن نبحث عن سر اليهودي في ديِنه وإنما عن سر الدين في اليهودي الواقعي. ما هو الأساس الدنيوي لليهودية؟ الحاجة العملية، المنفعة الخاصة. ما هي العبادة الدنيوية لليهودي؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي؟ المال.
حسنا! سيكون التحرر من التجارة والمال، أي من اليهودية العملية الواقعية تحرير عصرنا لنفسه.
إن تنظيما للمجتمع يلغي التجارة، أي إمكانية التجارة، يجعل وجود اليهودي مستحيلا. سينحل وعيه الديني مثل بخار باهت في هواء الحياة ْالحقيقية للمجتمع. ومن جهة أخرى: إذا أقر اليهودي ببطلان جوهره العملي هذا وعمل على إلغائه، فإنه يعمل انطلاقا من تطوره حتى هذا الوقت، في التحرر البشري العام وينقلب ضد أقوى تعبير عملي للاغتراب الإنساني عن الذات.
وهكذا فإِننا نتعرف في اليهودية على عنصر لاإجتماعي عام راهن دُفع إلى ارتفاعه الحالي من خلال التطور التاريخي الذي أسهم فيه اليهود من هذه الناحية السيئة بحماسة، إلى ارتفاع لا بد له فيه من الانحلال.
إن تحرر اليهود هو في معناه الأخير تحرر البشرية من اليهودية.
لقد تحرر اليهودي فعلا على طريقته اليهودية.
«إن اليهودي الذي لا يُقَبَل في فيينا مثلا إلا على مضض، يتحكم من خلال سلطته المالية بمصير المملكة كلها. واليهودي الذي يمكن أن يكون بلا حقوق في أصغر دولة ألمانية يقرر مصير أوروبا. وبينما تبقى الطوائف المهنية والروابط مقفلة أمام اليهودي أو لا تميل إليه، تسخر شجاعة الصناعة من تعنت مؤسسات القرون الوسطى.» (ب. باور، “المسألة اليهودية”، ص 114)
ليست هذه حقيقة وحيدة. لقد تحرر اليهودي على الطريقة اليهودية، ليس فقط بامتلاكه سلطة المال وإنما أيضا بأن أصبح المال من خلاله وبدونه سلطة عالمية، وأصبح روح اليهودي العملية الروح العملية للشعوب المسيحية. لقد تحرر اليهود بالقدر الذي أصبح فيه المسيحيون يهودا.
يروي العقيد هاملتون على سبيل المثال:
«أن ساكن انكلترة الجديدة الورع والحر سياسيا هو نوع من الكاهن لاوكون، الذي لا يبذل أقل جهد ليتحرر من الأفاعي التي تلتف حوله. إن عبد المال هو وثنها، إنها لا تصلي له بالشفاه وحدها وإنما بكل قوى أجسامها ومشاعرها. ليست الأرض في نظرها سوى بورصة، وهي مقتنعة أن لا قدر لها في هذه الدنيا سوى أن تصبح أغنى من جيرانها. لقد سيطرت التجارة على جميع أفكارها، وأصبحت تسليتها الوحيد تغيير الأشياء. تحمل حين تسافر أمتعتها التافهة أو مكتب تجارتها على ظهورها، ولا تتحدث عن شيء غير الفوائد والأرباح. وإذا ما غابت تجارتها عن أعينها لحظة فإِنما يحدث ذلك فقط لتتجسس على الآخرين.»
نعم، لقد بلغت سلطة اليهودية على العالم المسيحي في أميركا الشمالية التعبير الطبيعي الذي لا لبس فيه حتى أن التبشير بالإنجيل نفسه ووظيفة التبشير المسيحي أصبحا بضاعة يتاجر بها، والتاجر المفلس في الإنجيل يفعل ما يفعله الإنجيلي الذي أصبح ثريا في التجارة.
«فذلك الذي يقف على رأس رهبانية محترمة قد بدأ تاجرا، ولأن تجارته أخنقه أصبح رجل دين، وبدأ آخر بوظيفة الكاهن وما أن أصبحت لديه كمية معينة من المال حتى استبدلها بالتجارة. والوظيفة الدينية هي سيرة مهنية في نظر الغالبية فعلا.» (بومون، 1، ص 185-186)
ووفقا لباور فإِنه:
«لوضع كاذب أن تحجب عن اليهودي الحقوق السياسية على الصعيد النظري، بينما يملك في الواقع العملي قوة هائلة ويمارس تأثيره السياسي الكبير حتى لو كان محددا في التفاصيل.» (المسألة اليهودية، ص 114)
إن التناقض بين السلطة السياسية العملية لليهودي وحقوقه السياسية هو التناقض بين السياسية وسلطة المال بشكل عام. فبينما تحتل الأولى نظريا مكانا فوق الثانية، فإِنها في الواقع مستعبدة لها.
لقد عاشت اليهودية إلى جانب المسيحية ليس فقط كنقد ديني للمسيحية، ليس فقط كشك متضمن في الأصل الديني للمسيحية، وإنما أيضا لأن الروح العملية اليهودية، لأن اليهودية بقيت في المجتمع المسيحي نفسه وحصلت حتى على أعلى نمو لها. فاليهودي الذي يعتبر عضوا خاصا في المجتمع البورجوازي ليس سوى الظاهرة الخاصة ليهودية المجتمع البورجوازي.
لقد بقيت اليهودية ليس رغما عن التاريخ وإنما من خلال التاريخ.
فالمجتمع البورجوازي يولد من أحشائه الخاصة اليهود دون انقطاع.
ما هو أساس الدين اليهودي في ذاته؟ الحاجة العملية، الأنانية.
ومن هنا فإن توحيد اليهودي هو تعدد الآلهة بتعدد الحاجات، هو تعدد آلهة يجعل من بيت الخلاء نفسه موضوعا للقانون الإلهي. الحاجة العملية، الأنانية، هي مبدأ المجتمع البورجوازي، وتبرز على هذا النحو حالما يكون المجتمع البورجوازي قد أتم ولادة الدولة السياسية. إن إله الحاجات العملية والمصلحة الذاتية هو المال.
المال هو إله إسرائيل المتحمس الذي لا ينبغي أن يوجد أمامه إله آخر. يحط المال من قيمة جميع آلهة الإنسان الأخرى ويحولها إلى سلعة. المال هو القيمة العامة القائمة بذاتها لجميع الأشياء. ومن هنا فقد نهب من العالم كله، عالم الإنسان والطبيعة قيمته الخاصة. المال هو الجوهر الغريب عن الإنسان وعمله ووجوده، وهذا الجوهر الغريب لا يسيطر عليه و حسب، وإنما يجعله يعبده.
لقد أصبح إله اليهود دنيويا، وصارت الصيرفة هي الإله الحقيقي لليهودي. إلهه هو الصيرفة الوهمية وحسب.
إن النظرة إلى الطبيعة، تلك التي تنشأ في ظل سيادة الملكية الفردية والمال تعني الاحتقار الحقيقي والحط العملي من قيمة الطبيعة اللذين يوجدان في الديانة اليهودية حقا، ولكنهما يوجدان في الوهم فقط.
يعلن توما مونتسر [في منشور 1524] بهذا المعنى أنه أمر لا يطاق
«أن تكون جميع المخلوقات قد حولت إلى ملكية، الأسماك في الماء، الطيور في الهواء، النباتات على الأرض – يجب أن تكون المخلوقات حرة أيضا.»
إن ما هو مجرد في الدين اليهودي هو احتقار النظرية والفن والتاريخ والإنسان كغاية بحد ذاتها، هذا هو الموقف الحقيقي الواعي، فضيلة إنسان المال. أما علاقة النوع ذاتها، العلاقة بين الرجل والمرأة ..الخ فإنها تصبح موضوعا للتجارة! تصبح المرأة بضاعة يتاجر بها.
إن القومية الخرافية لليهودي هي قومية التاجر، إنسان المال بشكل عام.
وقانون اليهودي الذي لا أساس له ليس سوى الكاريكاتير الديني للأخلاقية التي لا أساس لها وللقانون بوجه عام وللطقوس الشكلية وحسب، تلك التي يحيط عالم المنفعة الذاتية نفسه بها.
العلاقات القانونية هي هنا أيضا العلاقات الأسمى، العلاقات إزاء قوانين لا تشمله، لأنها انبثقت من إرادته وكيانه الخاصين، وإنما لأنها سائدة ولأن الخروج عليها معاقب عليه.
إن اليعقوبية اليهودية، اليعقوبية العملية نفسها التي يحيلنا باور إليها في التلمود، هي علاقة عالم المنفعة الذاتية بالقوانين السائدة فيه والتي يشكل الالتفاف الذكي عليها الفن الرئيس في هذا العالم.
أجل، إن حركة العالم ضمن قوانينه هو إلغاء حتى للقانون.
نظريا، لم تستطع اليهودية كدين أن تتطور لأن نظرة الحاجة العملية إلى العالم ضيقة الأفق بطبيعتها، تستنفد بعد وقت قصير.
لا يمكن لدين الحاجة العملية بطبيعته أن يبلغ الكمال في النظرية وإنما في التطبيق، لأن حقيقته هي التطبيق.
لم تستطع اليهودية أن تخلق عالما جديدا، وإنما استطاعت فقط أن تجتذب مبتكرات العالم الجديدة وأوضاع العالم إلى مجال نشاطها، لأن الحاجة العملية التي تكون المنفعة الذاتية عقلها، تقف موقفا سلبيا منها ولا تتسع حسب الرغبة وإنما تجد متسعها مع استمرار تطور الأوضاع الاجتماعية.
بلغت اليهودية نقطة الذروة باكتمال المجتمع البورجوازي، لكن المجتمع البورجوازي لا يكتمل إلا في العالم المسيحي. في ظل المسيحية فقط، التي تجعل جميع العلاقات الوطنية والطبيعية والأخلاقية والنظرية شيئا ظاهريا بالنسبة للإنسان استطاع المجتمع البورجوازي أن ينفصل عن حياة الدولة انفصالا تاما ويمزق جميع روابط النوع ويضع الأنانية وحاجة المنفعة الذاتية مكان رابطة النوع ويحل عالم الإنسان في عالم من أفراد مفتتين يعادىِ بعضهم بعضا.
لقد انبثقت المسيحية من اليهودية. ثم عادت وذابت في اليهودية.
لقد كان المسيحي منذ البدء هو اليهودي المنظر، واليهودي من هنا هو المسيحي العملي، وقد أصبح المسيحي العملي يهوديا ثانية.
لقد تغلبت المسيحية على اليهودية الواقعية في الظاهر فقط. وقد كانت أكثر سموا وأكثر روحانية من أن تلغي فجاجة الحاجة العملية بطريقة أخرى غير تصعيدها إلى أثير.
المسيحية هي الفكرة النبيلة لليهودية واليهودية هي الاستخدام العادي للمسيحية، ولكن هذا الاستخدام لم يستطع أن يصبح عاما إلا بعد أن استكملت المسيحية كدين ناجز اغتراب الإنسان عن نفسه وعن الطبيعة نظريا.
عند ذاك فقط استطاعت اليهودية أن تصل إلى السيطرة العامة وتبيع (تغيب) الإنسان والطبيعة المتخلى عنهما وتجعلهما قابلين للبيع، وموضوعا لعبودية الحاجة الأنانية والتجارة.
البيع [verausserung] هو الجانب العملي للتخلي (الإغتراب) [Entausserung]. كما يحول الإنسان كيانه إلى شيء ما دام أسير الدين، بأن يجعله كيانا خياليا غريبا (مغيبا)، فإِنه لا يستطيع تحت سلطة الحاجة العملية إلا أن ينشط بطريقة عملية، فينتج أشياء عملية بأن يضع منتجاته وكذلك نشاطه تحت سيطرة كائن غريب ويمنحها قيمة كائن غريب –المال–.
تتحول الأنانية الروحية المسيحية في عمله الكامل بالضرورة إلى أنانية الجسد اليهودية، الحاجة السماوية إلى حاجة أرضية، والذاتية إلى منفعة ذاتية. إننا لا نفسر صلابة اليهودي بدينه بل بالأساس البشري لدينه،الحاجة العملية، الأنانية.
ولأن الجوهر الحقيقي لليهودي قد تحقق بشكل عام في المجتمع البورجوازي، وأصبح دنيويا، لم يستطع المجتمع البورجوازي إقناع اليهودي بوهمية جوهره الديني الذي هو ليس سوى المفهوم المثالي للحاجة العملية.
وهكذا فإِننا لا نعثر على جوهر يهودي اليوم في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وفي التلمود وحسب، وإنما نجده في المجتمع الراهن، ليس كتجريد وإنما ككائن على أعلى درجة من العملية، ليس فقط كضيق أفق اليهودي وإنما كيهودية المجتمع ضيقة الأفق.
حالما ينجح المجتمع في التغلب على الجوهر العملي لليهودي، على التاجر وشروطه، يصبح وجود اليهودي مستحيلا، لأن وعيه لا يعود يملك موضوعا، ولأن القاعدة الذاتية لليهودية، وهي الحاجة العملية قد اتخذت طابعا إنسانيا، لأن النزاع بين الوجود الفردي المحسوس وبين وجود النوع البشري قد ألغي.
إن التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية.
الهوامش:
(1) برونوباور: « المسألة اليهودية » براونشفايغ 1834
(2) برونو باور: “قدرة يهود و مسيحيي اليوم على التحرر”، “واحد و عشَرون ملزمة من سويسرا” ، الناشر: جورج هيرفيه، زيوريخ و فينترتور 1843، ص 6 – 7
———————————
كتبها كارل ماركس في خريف عام 1843.
نشرت لأول مرة في شهر فبراير عام 1844 في Deutsch-Franzosische Jahrbucher (الحولية الألمانية الفرنسية) بباريس
ترجمة د. نائلة الصالحي