بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المخطوطات الاقتصادية والفلسفية

« السابق التالي »

العمل المغترب

لقد انطلقنا من مقدمات الاقتصاد السياسي، وتقبلنا لغته وقوانينه، وافترضنا الملكية الخاصة، والانفصال بين العمل ورأس المال والأرض، وبين الأجور وربح رأس المال وريع الأرض – كما افترضنا تقسيم العمل والمنافسة ومفهوم القيمة التبادلية إلخ…، وعلى أساس الاقتصاد السياسي، وبعباراته ذاتها، أوضحنا أن العامل يهبط إلى مستوى السلعة، وأنه يصبح في الحقيقة أتعس أنواع السلع، وأن تعاسته تتناسب تناسبًا عكسيًا مع قوة وحجم إنتاجه، وأن النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في بضعة أيد، وبالتالي عودة الاحتكار في شكل أبشع، وأخيرًا أن التمييز بين الرأسمالي وصاحب ريع الأرض، تمامًا كالتمييز بين فالح الأرض وعامل المصنع، يختفي، وينقسم المجتمع كله إلى طبقتين: الملاك والعمال الذين لا يملكون شيئًا.

والاقتصاد السياسي ينطلق من حقيقة الملكية الخاصة، لكنه لا يفسرها. وهو يعبر في صيغ عامة مجردة عن العملية المادية التي تمر بها الملكية الخاصة بالفعل، ثم يأخذ هذه الصيغ كقوانين. وهو لا يدرك هذه القوانين – أي لا يوضح كيف نشأت من طبيعة الملكية الخاصة ذاتها.

والاقتصاد السياسي لا يوضح مصدر التقسيم بين العمل ورأس المال، وبين رأس المال والأرض، وهو حين يحدد مثلاً العلاقة بين الأجور والربح يجعل من مصالح الرأسماليين سببًا نهائيًا، أي أنه يأخذ كأمر مسلم ما هو مفروض أن يوضحه. وبالمثل تظهر المنافسة في كل مكان، وهي تفسر بالظروف الخارجية، أما كيف أن هذه الظروف الخارجية التي تبدو – في الظاهر – عارضة (Furtuitous) ليست سوى التعبير عن المسار الضروري للتطور فإن الاقتصاد السياسي لا يعرفنا بشيء من ذلك. وقد رأينا كيف أن التبادل ذاته يبدو له حقيقة عارضة. والعجلات الوحيدة التي يحركها الاقتصاد السياسي هي التعطش للثروة والحرب بين الأطماع – المنافسة.

وبالتحديد لأن الاقتصاد السياسي لا يدرك العلاقات داخل الحركة فقد استطاع أن يقابل مثلاً بين مبدأ المنافسة ومبدأ الاحتكار، بين مبدأ الحرية الحرفية ومبدأ النقابة الحرفية، بين مبدأ تقسيم ملكية الأرض ومبدأ الضياع الكبيرة – لأنه لم يفسر المنافسة والحرية الحرفية وتقسيم ملكية الأرض ولم يدركها إلا كنتائج عارضة عمدية عنيفة للاحتكار والنقابة الحرفية والملكية الإقطاعية وليس كنتائجها الضرورية الحتمية الطبيعية.

ومن هنا فإن علينا الآن أن ندرك العلاقة الجوهرية بين الملكية الخاصة، التعطش إلى الثروة، والانفصال بين العمل ورأس المال وملكية الأرض، وبين التبادل والمنافسة، والقيمة وهبوط قيمة البشر، والاحتكار والمنافسة إلخ.. والعلاقة بين كل هذا الاغتراب وبين النظام النقدي.

ولنحاول ألا نعود إلى ظرف أصلي خيالي كما يفعل رجل الاقتصاد السياسي حين يحاول أن يفسر. فمثل هذا الظرف الأصلي لا يفسر شيئًا. وإنما هو فحسب يدفع بالمسألة بعيدًا إلى مسافة سديمية معتمة. أنه يفترض – في شكل حقيقة أو حدث – ما هو مفروض أن يستخلصه – وهو العلاقة الضرورية بين شيئين – بين تقسيم العمل والتبادل مثلاً. وبنفس الطريقة يشرح اللاهوت مصدر الشر بسقوط الإنسان، أي أنه يفترض كحقيقة – في شكل تاريخي – ما عليه أن يشرحه.

إننا ننطلق من حقيقة اقتصادية فعلية.

إن العامل يزداد فقرًا كلما زادت الثروة التي ينتجها، وكلما زاد إنتاجه قوة ودرجة، والعامل يصبح سلعة أكثر رخصًا كلما زاد عدد السلع التي يخلقها، فمع القيمة المتزايدة لعالم الأشياء ينطلق في تناسب عكسي انخفاض قيمة عالم البشر. والعمل لا ينتج سلعًا فحسب، وإنما هو ينتج ذاته وينتج العامل كسلعة – وهو يفعل ذلك بنفس النسبة التي ينتج بها السلع عمومًا.

ولا تعبر هذه الحقيقة إلا عن أن الشيء الذي ينتجه العمل – ناتج العمل – يواجهه كشيء غريب، كقوة مستقلة عن المنتج. فناتج العمل هو عمل تجمد في موضوع، أصبح ماديًا، إنه تموضع (Objectification) العمل، فتحقق العمل هو تموضعه، وفي الظروف التي يعالجها الاقتصاد السياسي يبدو هذا التحقق للعمل فقدانًا للواقع بالنسبة للعمال، ويبدو التموضع فقدانًا للموضوع، وعبودية للموضوع، والتملك تغربًا، انسلابًا (Alienation).

ويبدو تحقق العمل فقدانًا للواقع حتى أن العامل ليفقد الواقع إلى حد الموت جوعًا، ويبدو التموضع فقدانًا للموضوع حتى أن العامل ليسلب الموضوعات الأشد ضرورة لا لحياته فحسب، بل لعمله كذلك. والحق أن العمل ذاته يصبح شيئًا لا يمكن أن يحصل عليه إلا بأكبر جهد وأشد الانقطاعات بعدًا عن الانتظام. ويبدو تملك الموضوع اغترابًا إلى حد أنه كلما زاد عدد الموضوعات التي ينتجها العامل قل ما يستطيع أن يتملكه، وزاد وقوعه تحت سيطرة ناتجه… رأس المال.

وكل هذه النتائج يحويها التعريف القائل أن العامل يرتبط بناتج عمله كما يرتبط بموضع غريب، لأنه من الواضح بحكم هذه المقدمة أنه كلما أنفق العامل نفسه زادت قوة العالم الموضوعي الغريب الذي يخلقه أمام نفسه وأصبح هو – عالمه الداخلي – أكثر فقرًا، وقل ما ينتمي إليه كشيء مملوك له. ونفس الشيء في الدين.. فكلما زاد ما يضعه الإنسان في الله قل ما يحتفظ به في نفسه. إن العامل يضع حياته في الموضوع، لكن حياته الآن لم تعد تنتمي له وإنما للموضوع. ومن هنا فكلما زاد نشاط العامل، زاد افتقاره إلى الموضوعات. وأيًا كان ناتج عمله، فإنه هو لا يوجد. ومن هنا فكلما زاد هذا الإنتاج أصبح هو ذاته أقل. ولا يعني اغتراب العامل في ناتجه أن عمله قد أصبح موضوعًا – وجودًا خارجيًا – فحسب، وإنما يعني أنه يوجد خارجه، مستقلاً عنه، كشيء غريب عنه، وأنه يصبح قوة في ذاته تواجهه، إنه يعني أن الحياة التي منحها للموضوع تواجهه كأمر معاد غريب.

ولننظر الآن بدقة أكبر إلى التموضع، إلى إنتاج العامل، ومن هنا إلى الاغتراب، إلى فقدان الموضوع، فقدان ناتجه.

إن العامل لا يستطيع أن يخلق شيئًا دون الطبيعة، دون العالم الخارجي المحسوس، إنها المادة التي يتحقق فيها عمله، التي يمارس فيها عمله، التي ينتج منها وبواسطتها.

ولكن كما تزود الطبيعة العمل بوسيلة الحياة بمعنى أن العمل لا يستطيع أن يعيش دون موضوعات يعمل عليها، فإنها من الناحية الأخرى توفر وسيلة الحياة – بالمعنى الضيق للكلمة، أي وسيلة الوجود الجسدي للعامل ذاته.

وهكذا فكلما زاد تملك العامل للعالم الخارجي – الطبيعة المحسوسة – بعمله، زاد حرمانه لنفسه من وسيلة الحياة بالمعنى المزدوج: أولاً أن العالم الخارجي المحسوس يكف أكثر فأكثر عن أن يكون موضوعًا ينتمي إلى عمله – عن أن يكون وسيلة حياة عمله، وثانيًا أن يكف أكثر فأكثر عن أن يكون وسيلة الحياة بالمعنى المباشر، وسيلة الوجود الجسدي للعامل.

وهكذا ففي هذا المجال المزدوج يصبح العامل عبدًا لموضوعه، أولاً في أنه يتلقى موضوعًا للعمل، أي أنه يتلقى عملاً، وثانيًا في أنه يتلقى وسائل المعيشة. ومن هنا فإنه يمكنه من أن يوجد أولاً كعامل وثانيًا كذات جسدية، والصورة القصوى لهذه العبودية هي أنه لا يستمر في الإبقاء على نفسه كذات جسدية إلا باعتباره عاملاً، وأنه ليس عاملاً إلا كذات جسدية.

(وتعبر قوانين الاقتصاد السياسي عن اغتراب العامل في موضوعه بالطريقة التالية: كلما زاد ما ينتجه العامل قل ما يستهلكه، وكلما زادت القيم التي ينتجها أصبح هو أكثر تفاهة وقلة شأن. وكلما تحسن شكل ناتجه زاد العامل تشوهًا، وكلما زادت مدنية موضوعه أصبح العامل أكثر وحشية وكلما زادت قدرة العمل أصبح العامل أكثر عجزًا، وكلما زاد إبداع العمل أصبح العامل أكثر غباء، وازدادت عبوديته للطبيعة).

ويخفي الاقتصاد السياسي الاغتراب الكامن في طبيعة العمل بعدم دراسته للعلاقة المباشرة بين العامل (العمل) وبين الإنتاج. صحيح أن العمل ينتج للأغنياء أشياء رائعة – لكنه ينتج للعامل الحرمان. أنه ينتج القصور – وللعامل الأكواخ، ينتج الجمال – وللعامل التشوه. يحل الآلات محل العمل – لكنه يلقي ببعض العمال إلى طراز بربري من العمل ويحول البعض الآخر إلى آلات، أنه ينتج الذكاء – وللعامل البلاهة والحماقة.

إن العلاقة المباشرة بين العمل وما ينتجه هي العلاقة بين العامل والموضوعات التي ينتجها، أما علاقة الثري بموضوعات الإنتاج بالإنتاج ذاته فليست سوى نتيجة لهذه العلاقة الأولى – وهي نتيجة تؤكدها. وسندرس هذا الجانب الآخر فيما بعد.

فحين نسأل إذن – ما العلاقة الأساسية للعمل فإنما نحن نسأل عن علاقة العامل بالإنتاج.

وحتى الآن كنا ندرس اغتراب، انسلاب، العامل في أحد جوانبه فقط أي علاقة العامل بمنتجات عمله، لكن الاغتراب لا يبدو فحسب في نتيجة الإنتاج بل في فعل الإنتاج – داخل النشاط الإنتاجي ذاته. فكيف يمكن للعامل أن يواجه ناتج نشاطه كشخص غريب لو لم يكن في عملية الإنتاج ذاتها يغترب بذاته عن ذاته؟ فليس الناتج في نهاية الأمر إلا خلاصة النشاط الإنتاجي، فإذا كان ناتج العمل هو الانسلاب فلا بد أن يكون الإنتاج نفسه انسلابًا نشطًا، انسلاب النشاط، نشاط الانسلاب، ففي اغتراب موضوع العمل إنما يتلخص الاغتراب، الانسلاب، في نشاط العمل ذاته.

فماذا إذن يشكل اغتراب العمل؟

أولاً، حقيقة أن العمل خارجي عن العامل، أي أنه لا ينتمي إلى وجوده الأساسي، وأنه بالتالي لا يؤكد ذاته في العمل وإنما ينكرها، لا يشعر بالارتياح، بل بالتعاسة، لا ينمي بحرية طاقته البدنية والذهنية وإنما يقتل جسده ويدمر ذهنه. ومن هنا فإن العامل إنما يشعر بنفسه خارج العمل، وهو في العمل يشعر بأنه خارج نفسه، إنه في مكانه حين لا يعمل، وحين يمل فإنه ليس في مكانه. ومن هنا فإن عمله ليس اختيارًا، وإنما هو قسر، إنه عمل إجباري، وهكذا فهو ليس إشباعًا لحاجة، وإنما هون مجرد وسيلة لإشباع حاجات خارجية، وتبرز طبيعته الغربية بوضوح في حقيقة أنه طالما لا يوجد إجبار مادي أو غير مادي فإن العمل يتجنب كأنه الطاعون. إن العمل الخارجي، العمل الذي ينسلب فيه الإنسان عن ذاته – هو عمل من التضحية بالنفس، من قتل النفس. وأخيرًا يبدو الطابع الخارجي للعمل بالنسبة للعامل في حقيقة أنه ليس له، وإنما هو لآخر، أنه لا ينتمي له، أنه خلاله لا ينتمي لنفسه وإنما لآخر، وكما نجد في الدين أن النشاط التلقائي للخيال البشري، وللذهن البشري، والقلب البشري، يعمل بشكل مستقل عن الفرد – كذلك فإن نشاط العامل ليس هو نشاطه التلقائي، إنه ينتمي لآخر، إنه فقدان ذاته.

وكنتيجة لذلك فإن الإنسان (العامل) لا يعود يشعر بنفسه يتصرف بحرية إلا في وظائفه الحيوانية – الأكل والشرب والتكاثر وعلى أكثر تقدير في مسكنه وملبسه إلخ… أما في وظائفه الإنسانية فإنه لا يعود يشعر إلا بأنه حيوان، فما هو حيواني يصبح إنسانيًا، وما هو إنساني يصبح حيوانيًا.

وصحيح أن الأكل والشرب والتكاثر إلخ. هي كذلك وظائف إنسانية حقة، ولكنها في التجريد الذي يفصلها عن مجال كل نشاط إنساني آخر ويحولها إلى أهداف وحيدة ونهائية، تكون حيوانية.

ولقد درسنا الآن عملية اغتراب النشاط الإنساني العملي – العمل – في جانبين. (1) العلاقة بين العامل وناتج العمل كموضوع غريب يمارس قوته عليه، وهذه العلاقة هي في نفس الوقت العلاقة بالعالم الخارجي، بموضوعات الطبيعة كعالم غريب يعارضه معارضة عدائية. (2) علاقة العمل بفعل الإنتاج داخل عملية العمل. وهذه العلاقة هي علاقة العامل بنشاطه هو كنشاط غريب لا ينمي إليه، إنها النشاط كمعاناة، والقوة كضعف، والإنجاب كعقم، إنها وجود العامل المادي ذاته، وطاقته الذهنية – أو حياته الشخصية، وإلا فما الحياة إن لم تكن النشاط؟ – يتحول ضده، ولا يعتمد عليه أو ينتمي إليه. وهنا نجد اغتراب الذات، كما رأينا من قبل اغتراب الشيء.

بيد أن أمامنا جانبًا ثالثًا للعمل المغترب نستخلصه من الجانبين السابقين.

فالإنسان كائن نوعي (Species being)، ولا يرجع هذا فحسب إلى أنه يتخذ النوع – في الممارسة وفي النظرية – موضوعًا له (نوعه فضلاً عن نوع الأشياء الأخرى) وإنما هو يرجع كذلك – وليس هذا سوى أسلوب آخر للتعبير – إلى أنه يعامل نفسه باعتباره النوع الحي الفعلي، يعامل نفسه ككائن كل وبالتالي حر.

وحياة النوع – سواء عند الإنسان أو عند الحيوان – تتألف ماديًا من حقيقة أن الإنسان (كالحيوان) يعيش على الطبيعة غير العضوية، وكلما ازدادت كلية الإنسان بالمقارنة بالحيوانات ازدادت كلية مجال الطبيعة غير العضوية التي يعيش عليها. وتمامًا كما تشكل النباتات والحيوانات والأحجار والهواء والضوء إلخ.. جزءًا من الوعي الإنساني في مملكة النظرية، جزئيًا كموضوعات للعلم الطبيعي وجزئيًا كموضوعات للفن – طبيعته الروحية غير العضوية، غذاءه الروحي الذي ينبغي عليه أولاً أن يعده كي يكون سائغًا وقابلاً للهضم – فإنها تشكل كذلك في مملكة الممارسة جزءًا من الحياة الإنسانية والنشاط الإنساني. ومن الناحية البدنية لا يعيش الإنسان إلا على منتجات الطبيعة هذه – سوا ظهرت في شكل طعام أو دفء أو ملابس أو مسكن أو أي شيء آخر. وكلية الإنسان تظهر في الممارسة بالتحديد في الكلية التي تجعل من الطبيعة بأسرها جسمه غير العضوي – سواء من حيث أن الطبيعة هي (1) وسيلته المباشرة للعيش و(2) مادة وموضوع وأداة نشاط حياته. فالطبيعة هي جسم الإنسان غير العضوي – ونحن نشير هنا إلى الطبيعة من حيث أنها ليست هي الجسم الإنساني. فكون الإنسان يعيش على الطبيعة – يعني أن الطبيعة هي جسده الذي ينبغي أن يظل البدنية والروحية ترتبط بالطبيعة يعني أن الطبيعة ترتبط بذاتها، لأن الإنسان جزء من الطبيعة.

والعمل المغترب، حين يغترب بالإنسان عن (1) الطبيعة و(2) عن ذاته، عن وظائفه النشطة، عن نشاطه حياته إنما يغترب بالنوع عن الإنسان. إنه يحول حياة النوع بالنسبة له إلى وسيلة لحياة الفرد. وهو أولاً يغترب بحياة النوع عن حياة الفرد وثانيًا يجعل حياة الفرد في شكلها المجرد هدف حياة النوع – وبالمثل في شكلها المجرد والمغترب.

وذلك في المقام الأول لأن العمل – نشاط الحياة، الحياة الإنتاجية ذاتها – يبدو للإنسان مجرد وسيلة لإشباع حاجة – الحاجة إلى المحافظة على الوجود الجسدي. غير أن الحياة الإنتاجية هي حياة النوع، إنها حياة تولد حياة، وطابع أي نوع – طابعه كنوع – يحويه طابع نشاط حياته، والنشاط الحرب الواعي هو طابع نوع الإنسان. والحياة نفسها لا تظهر إلا كوسيلة للحياة.

ويتطابق الحيوان بشكل مباشر مع نشاط حياته، وهو لا يميز نفسه عنه، إنه نشاط حياته. والإنسان يجعل نشاط حياته ذاته موضوع إرادته ووعيه. أن لديه نشاط حياة واعيًا، وهو ليس تحديدًا يندمج فيه بشكل مباشر، فنشاط الحياة الواعي يميز الإنسان بشكل مباشر عن نشاط حياة الحيوان، وهو لهذا السبب بالتحديد يعد كائنًا نوعيًا، أو هو ليس كائنًا واعيًا – أي أن حياته ذاته موضوع له – إلا لأنه كائن نوعي. ولهذا السبب وحده فإن نشاطه حر، لكن العمل المغترب يقلب هذه العلاقة  بحيث أن الإنسان – ولأنه كائن واع – يجعل نشاط حياته، وجوده الأساسي، مجرد وسيلة للوجود.

والإنسان إذ يخلق عالمًا موضوعيًا. بنشاطه العملي، وإذ يصوغ الطبيعة غير العضوية يؤكد ذاته ككائن نوعي. صحيح أن الحيوانات أيضًا تنتج، فهي تيني لنفسها أعشاشًا ومساكن مثل النحل والقندس والنمل الخ…. لكن الحيوان لا ينتج إلا ما يحتاجه مباشرة لنفسه أو لصغاره، إنه ينتج إنتاجًا أحادي الجانب في حين ينتج الإنسان إنتاجًا كليًا، أنه لا ينتج إلا تحت ضغط الحاجة الجسدية المباشرة في حين ينتج الإنسان حتى حين يكون متحررًا من الحاجة الجسدية، ولا ينتج حقًا إلا متحررًا منها. والحيوان لا ينتج إلا نفسه في حين يعيد الإنسان إنتاج الطبيعة بأسرها. وينتمي ناتج الحيوان مباشرة لجسمه المادي، في حين أن الإنسان يواجه ناتجه بحرية، والحيوان يشكل الأشياء وفقًَا لمعيار واحتياج النوع الذي ينتمي إليه، في حين يعرف الإنسان كيف ينتج وفقًا لمعايير كل نوع، ويعرف كيف يطبق في كل مكان على الموضوع، المعيار الكامن فيه. ومن هنا فإن الإنسان يشكل الأشياء كذلك وفقًا لقوانين الجمال.

وهكذا فإن الإنسان في صياغته للعالم الموضوعي يؤكد نفسه حقًا للمرة الأولى باعتباره كائنًا نوعيًا. فهذا الإنتاج هو حياته النشطة كنوع، وخلال هذا الإنتاج وبسببه تبدو الطبيعة باعتبارها عمله وواقعه. ومن هنا فإن موضوع العمل هو تموضع حياة الإنسان كنوع: لأنه يضاعف نفسه لا فكريًا فحسب – كما يحدث في الوعي – بل كذلك في الفعل – في الواقع – ومن هنا فإنه يتأمل ذاته في عالم خلقه، وهكذا فإن العمل المغترب بأبعاده عن الإنسان موضوع إنتاجه ينتزع منه حياة نوعه، موضوعيته النوعية الواقعية، ويحول ميزته على الحيوانات إلى نقيصة هي أن جسده غير العضوي – الطبيعة – ينتزع منه.

وبالمثل فإن العمل المغترب بانحطاطه بالنشاط التلقائي، النشاط الحر، يجعل حياة الإنسان كنوع وسيلة لوجوده الجسدي.

وهكذا فإن وعي الإنسان يتحول بالاغتراب بحيث تصبح حياة النوع بالنسبة له وسيلة.

وهكذا فإن العمل المغترب يحول:

(3) وجود الإنسان كنوع – كلا من الطبيعة وخصائص نوعه الروحية – إلى وجود غريب عنه، إلى وسيلة لوجوده الفردي. أنه يغترب بجسد الإنسان عنه كما يفعل بالطبيعة الخارجية وجوهره الروحي، وجوده الإنساني.

(4) ومن النتائج المباشرة لحقيقة أن الإنسان يغترب عن ناتج عمله، عن نشاط حياته، عن وجوده كنوع، اغتراب الإنسان عن الإنسان. فإذا كان الإنسان يواجه بنفسه فإنه يواجه بالإنسان الآخر. وما ينطبق على علاقة الإنسان بعمله، وبناتج عمله وبنفسه، ينطبق كذلك على علاقة الإنسان بالإنسان الآخر وبعمل الآخر وموضوع عمل هذا الآخر.

والحق أن القضية القائلة أن طبيعة الإنسان كنوع تغترب عنه تعني أن الإنسان يغترب عن الآخر، كما يغترب كل منهما عن طبيعة الإنسان الجوهرية ([1]) .

ويتحقق اغتراب الإنسان – وفي الواقع كل علاقة يقف فيها الإنسان أمام نفسه – بالدرجة الأولى ويجد تعبيرًا عنه في العلاقة التي تقوم بين الإنسان وغيره من الناس.

ومن هنا فداخل علاقة العمل المغترب يرى كل إنسان الآخر بالمعيار والوضع الذي يجد نفسه فيه كعامل.

ولقد انطلقنا في حديثنا من أحدى حقائق الاقتصاد السياسي – اغتراب العامل وإنتاجه، وصغنا مفهوم هذه الحقيقة – العمل المغترب، المنسلب – وحللنا هذا المفهوم – ومن هنا فإننا أنما حللنا حقيقة من حقائق الاقتصاد السياسي.

فلنر الآن بعد ذلك كيف ينبغي لمفهوم العمل المغترب، المنسلب، أن يغبر عن نفسه ويعرضها في الحياة الواقعية.

إذا كان ناتج العمل غريبًا عني، إذا كان يواجهني كقوة غريبة، فلمن إذن ينتمي؟

لكائن آخر غيري.

من هذا الكائن؟

الآلهة؟ صحيح أن الإنتاج الرئيسي في الأزمنة الأولى (مثل بناء المعابد الخ… في مصر والهند والمكسيك) يبدو في خدمة الآلهة، والناتج يبدو مملوكًَا للآلهة… غير أن الآلهة بذاتها لم تكن أبدًا سادة العمل. كذلك لم تكن الطبيعة. وأن تناقض كان يمكن أن يقوم لو أن الإنسان كلما زاد إخضاعه للطبيعة عن طريق عمله، وكلما أصبحت معجزات الآلهة غير ذات شأن أمام معجزات الصناعة، زاد اضطرار الإنسان إلى أن يتخلى عن بهجة الإنتاج ومتعة الناتج لصالح هذه القوى.

فالكائن الغريب، الذي ينتمي إليه العمل وناتج العمل، والذي يبذل العمل في خدمته، ويوفر ناتج العمل لمنفعته، لا ينم إلا أن يكون الإنسان نفسه.

فإذا كان ناتج العمل لا ينتمي للعامل، وإذا كان يواجهه كقوة غريبة، فهذا ليس ممكنًا إلا لأنه ينتمي إلى إنسان آخر غير العامل، وإذا كان عمل العامل عذابًا له فإنه لآخر لا بد أن يكون متعة الحياة وبهجتها، فلا الآلهة ولا الطبيعة وإنما الإنسان نفسه هو الذي يمكن أن يكون هذه القوة الغربية التي تثقل على الإنسان.

وينبغي أن نضع في ذهننا القضية التي أشرنا إليها من قبل، وهي أن علاقة الإنسان بذاته لا يصبح موضوعية وواقعية بالنسبة له إلا من خلال علاقته بالإنسان الآخر. وهكذا فإذا كان ناتج عمله – عمله المتموضع – شيئًا قويًا غريبًا معاديًا ومستقلاً عنه فإن قوام علاقته به هو أن شخصًا آخر هو سيد هذا الشيء، شخصًا غريبًا ومعاديًا وقويًا ومستقلاً عنه. وإذا كان نشاطه الخاص هو بالنسبة له نشاط غير حر فإنه إذن يعامله كنشاط يؤدي في خدمة إنسان آخر وتحت سيطرته وقسره وقهره.

ويبدو كل اغتراب ذاتي للإنسان عن ذاته وعن الطبيعة في العلاقة التي يضع فيها نفسه والطبيعة إزاء أناس آخرين غيره ومتميزين عنه. ولهذا السبب فإن الاغتراب الذاتي الديني يظهر بالضرورة في العلاقة بين الإنسان العادي والكاهم أو بينه وبين الوسيط الخ…. ما دمنا نعالج هنا العالم الفكري. وفي العالم العملي الواقعي لا يمكن أن يظهر الاغتراب الذاتي إلا من خلال العلاقة العملية الواقعية بالآخرين. والوسيط الذي يحدث الاغتراب خلاله هو ذاته وسيط عملي. وهكذا فخلال العمل المغترب لا يولد الإنسان فحسب علاقته بالموضوع ويفعل الإنتاج كقوة غريبة عنه ومعادية له، لكنه يولد كذلك العلاقة التي تربط بين غيره من الناس وبين أنتاجه وناتجه، والعلاقة بينه وبين هؤلاء الناس الآخرين. وتمامًا كما يخلق إنتاجه كفقدان لواقعه، كعقاب له، تمامًا كما يخلق ناتجه كضياع (Loss)، كناتج لا ينتمي له، فإنه يخلق كذلك سيطرة الشخص الذي لا ينتج على الإنتاج وعلى الناتج. وكما يغترب بنشاطه عن نفسه، فإنه كذلك يضفى على الغريب نشاطًا ليس له.

وحتى الآن لم ندرس هذه العلاقة إلا من زاوية العمل، وفيما بعد سندرسها أيضًا من زاوية غير العامل.

وهكذا فخلال العمل المغترب، المنسلب، ينتج العامل علاقة إنسان غريب عن العمل ويقف خارجه بهذا العمل، فعلاقة العامل بالعمل تولد علاقة الرأسمالي – أو أي أسم يختاره المرء لسيد العمل – بالعمل. وهكذا فإن الملكية الخاصة هي نتاج العمل المغترب – العلاقة الخارجية للعامل الطبيعة وبذاته – ونتيجته وعاقبته الضرورية.

وهكذا تنتج الملكية الخاصة بالتحليل عن مفهوم العمل المنسلب، أي الإنسان المنسلب، العمل المغترب، الحياة المغتربة، الإنسان المغترب.

صحيح أننا توصلنا كنتيجة لحركة الملكية الخاصة إلى مفهوم العمل المنسلب (الحياة المنسلبة) من الاقتصاد السياسي. لكننا عند تحليل هذا المفهوم يصبح من الواضح أنه رغم أن الملكية الخاصة تبدو مصدر وسبب العمل المنسلب فإنها في الحقيقة نتيجته، تمامًا كما أن الآلهة في البداية ليست سبب البلبلة الفكرية للإنسان وإنما نتيجتها وفيما بعد أصبحت هذه العلاقة تبادلية.

وعند ذروة تطور الملكية الخاصة فحسب يعود سرها هذا إلى الظهور، وهو أنها من ناحية ناتج العمل المنسلب، وإنها ثانية الوسيلة التي بها ينسلب العمل بذاته، تحقق هذا الإنسلاب.

ويلقي هذا العرض الضوء على الفور على منازعات لم تحل حتى الآن:

(1) أن الاقتصاد السياسي يبدأ من العمل باعتباره الروح الحقة للإنتاج، لكنه لا يعطي شيئًا، ويعطي الملكية الخاصة كل شيء. ومن هذا التناقض خلص برودون إلى الوقوف في صف العمل وضد الملكية الخاصة. بيد أننا ندرك أن هذا التناقض الظاهري هو تناقض العمل المغترب مع ذاته، وأن كل ما فعله الاقتصاد السياسي هو أنه صاغ قوانين العمل المغترب.

كذلك فإننا نفهم أيضًا أن الأجور والملكية الخاصة متطابقان: فحيث يدفع الناتج – موضوع العمل – مقابل العمل ذاته فإن الأجور ليست سوى نتيجة ضرورية لاغتراب العمل، لأن العمل لا يبدو في أجر العمل في نهاية الأمر كهدف في ذاته بل كخادم الآجر. وسنبسط هذه النقطة فيما بعد، أما الآن فسنكتفي باستخلاص بعض النتائج.

فرفع الأجور بالقوة (بغض النظر عن كل الصعوبات الأخرى بما فيها حقيقة أنه لا يمكن المحافظة على الأجور العالية باعتبارها شذوذًا إلا بالقوة أيضًا) لن يكون إذن إلا مقابلاً أفضل للعبد، ولن ينتزع للعامل أو للعمل وضعه الإنساني وكرامته.

والحق أنه حتى المساواة في الأجور التي يطالب بها برودون إنما تحول علاقة العامل المعاصر بعمله إلى علاقة الناس جميعًا بالعمل، وهكذا فإن المجتمع يتصور هنا باعتباره رأسماليًا مجردًا.

والأجور هي نتيجة مباشرة للعمل المغترب، والعمل المغترب هو السبب المباشر للملكية الخاصة، وانهيار أحد الجانبين لا بد أن يعني انهيار الآخر.

(2) ومن العلاقة بين العمل المغترب والملكية الخاصة ينتج كذلك أن تحرر المجتمع من الملكية الخاصة الخ….، من العبودية، يجد تعبيرًا عنه في شكل سياسي هو تحرر العمال، ولا يعني هذا أن المسألة هي مسألة تحررهم وحدهم، وإنما يعني أن تحرر العمال يحوى التحرر الإنساني الكلي – وهو يحويه لأن كل العبودية البشرية تتضمنها علاقة العامل بالإنتاج، وليست كل علاقة عبودية إلا تحويرًا (Modification) ونتيجة لهذه العلاقة.

وتمامًا كما استخلصنا مفهوم الملكية الخاصة من مفهوم العمل المغترب، والمنسلب، عن طريق التحليل فإننا نستطيع بنفس الطريقة أن نصل إلى كل مقولة للاقتصاد السياسي بمساعدة هذين العاملين، وسنجد كذلك في كل مقولة مثل التجارة والمنافسة ورأس المال والنقود مجرد تعبير محدد ومتطور عن الأسس الأولى.

ولكن فلنحاول قبل دراسة هذا الشكل أن نحل مشكلتين:

(1) أن نحدد الطبيعة العامة للملكية الخاصة كما ظهرت نتيجة العمل المغترب، في علاقتها بالملكية الاجتماعية الإنسانية حقًا.

(2) لقد تقبلنا اغتراب العمل، انسلابه، كحقيقة، وحللنا هذه الحقيقة. لكننا الآن نسأل كيف توصل الإنسان إلى أنسلاب عمله واغترابه؟ وكيف يضرب هذا الاغتراب بجذوره في طبيعة التطور الإنساني؟ ولقد مضينا بالفعل شوطًا بعيدًا في حل هذه المشكلة بتحويل السؤال عن أل الملكية الخاصة إلى مسألة علاقة العمل المنسلب بمجرى تطور البشرية. لأنه حين يتحدث المرء عن الملكية الخاصة فإنه يتصور إنه يفكر في شيء خارجي عن الإنسان. وحين يتحدث الإنسان عن العمل فإنه يتحدث مباشرة عن الإنسان ذاته. وهذه الصياغة الجديدة للمسألة تحوي بالفعل حلها.

أما عن (1): الطبيعة العاملة للملكية الخاصة وعلاقتها بالملكية الإنسانية حقًا.

فلقد حلل العمل المنسلب ذاته في عنصرين يحدد كل منها الآخر، أو ليسا سوى تعبيرين مختلفين عن نفس العلاقة. فالتملك يبدو اغترابًا، انسلابًا، والأنسلاب يبدو تملكًا، والاغتراب يبدو انعتاقًا حقًا.

لقد درسنا جانبًا واحدًا – العمل المنسلب في علاقته بالعامل ذاته، أي علاقة العمل المنسلب بذاته، أما علاقة الملكية بين غير العامل وبين العامل والعمل فقد وجدنا أنها نتاج هذه العلاقة للعمل المنسلب وحصيلتها الضرورية. والملكية الخاصة كالتعبير المادي الموجز عن العمل المنسلب تشمل كلتا العلاقتين – علاقة العامل بالعمل، وبناتج عمله، وبغير العامل، وعلاقة غير العامل بالعامل وبناتج عمله.

وإذا رأينا أن هذا التملك في علاقته بالعامل الذي يتملك الطبيعة عن طريق عمله، يبدو اغترابًا، كما يبدو نشاطه التلقائي الخاص نشاطًا من أجل آخر، ونشاطًَا لآخر، والحيوية تضحية بالحياة، وإنتاج الموضوع فقدانا للموضوع الصالح قوة غريبة، لصالح شخص غريب – فسندرس الآن علاقة هذا الشخص الغريب عن العمل والعامل بالعامل والعمل وموضوعه.

وينبغي أولاً أن نلاحظ أن كل ما يبدو في العامل نشاطًا للانسلاب، للاغتراب، يبدو لغير العامل كحالة من الانسلاب، من الاغتراب.

وثانيًا أن موقف العامل الفعلي العملي في الإنتاج ومن الناتج (كحالة ذهنية) يبدو لغير العامل الذي يواجهه كموقف نظري.

وثالثًا أن غير العامل يفعل ضد العامل كل ما يفعله العامل ضد ذاته، لكنه لا يفعل ضد ذاته ما يفعله ضد العامل.

فلندرس عن قرب أكبر العلاقات الثلاث ([2]) .

 

([1] ) طبيعة النوع (ومن قبل الكائن النوعي) Gattungswesen: طبيعة الإنسان الجوهرية – menschtichen Wesen

ويمكن للفقرات القصيرة التالية من كتاب فيورباخ “جوهر المسيحية” أن تساعد القارئ على فهم الخلفية الإيديولوجية لهذا الجزء من فكر ماركس – وبشكل عارض على أن يرى كيف تقبل ماركس – وأن أضفى عليها محتوى جديدًا – المفاهيم التي أشاعها فيورباخ فعلاً عن هيجل ورجال الاقتصاد السياسي:

  • فما هذا الفارق الجوهري بين الإنسان والحيوان؟….. أنه الوعي – وإنما الوعي بالمعنى الضيق للكلمة، لأن الوعي المتضمن في الشعور بالذات كفرد، في التمييز عن طريق الحواس، في الإدراك الحسي، وحتى الحكم على الأشياء الخارجية وفقًا لعلامات محسوسة محددة، لا يمكن أن ينكر على الحيوانات. أما الوعي بأضيق معانية فلا يوجد إلا لدى كان يكون نوعه – طبيعته الجوهرية – موضوعًا للفكر. فالحق أن الحيوان يعني نفسه كنوع… وفي الحياة العملية علينا أن نتعامل مع أفراد، أما في العلم فمع أنواع… لكن الكائن الذي يكون نوعه – طبيعته – موضوعًا للفكر لديه هو وحده الذي يستطيع أن يجعل الطبيعة الجوهرية للأشياء أو الكائنات الآخرى موضوعًا للفكر… فالحيوان ليس لديه سوي حياة بسيطة، أما الإنسان فلديه حياة داخلية وحياة خارجية. والحياة الداخلية للإنسان هي الحياة التي ترتبط بنوعه – بطبيعته العامة كشيء متميز عن طبيعته الفردية… ولا يستطيع الحيوان أن يمارس وظيفة ترتبط بنوعه دون فرد آخر خارجه، لكن الإنسان يستطيع أن يؤدي وظائف الفكر والكلام التي تتضمن تمامًا مثل هذه العلاقة دون فرد آخر… فالإنسان هو في نفس الوقت أنا وأنت، فهو يستطيع أن يضع نفسه مكان آخر لهذا السبب… أن نوعه – طبيعته الجوهرية – وليس مجرد فرديته هي بالنسبة له موضوع للفكر… والموضع الذي ترتبط به الذات ارتباطًا جوهريًا، ضروريًا، ليس سوى طبيعة هذه الذات نفسها، وإنما طبيعتها الموضوعية…

وهكذا فالعلاقة بين الشمس والأرض هي في نفس الوقت علاقة الأرض بذاتها، أو بطبيعتها لأن مقياس حجم وكثافة الضوء الذي تتملكه الشمس كموضوع للأرض هو مقياس المسافة الذي يحدد الطبيعة الخاصة للأرض… ومن هنا فالإنسان يتعرف على ذاته في الموضوع الذي يتأمله… وقوة الشيء عليه هي من هنا قوة طبيعته الخاصة (جوهر المسيحية “بقلم لودفيج فيورباخ” ترجمة ماريان ايفانز عن الطبعة الألمانية الثانية – لندن 1854 – ص 1 – 5) – الناشر.

([2] ) عند هذه النقطة ينتهي المخطوط دون أن يكتمل. الناشر.

« السابق التالي »