المخطوطات الاقتصادية والفلسفية
(الملكية الخاصة والعمل.
آراء المذهب التجاري والفزيوقراطية وأدم سميث وريكارد ومدرسته)
حول الصفحة 36. الماهية الذاتية للملكية الخاصة – الملكية الخاصة كنشاط لذاته ([1]) ، كذات، كشخص – هي العمل. ومن هنا فمن البديهي أن الاقتصاد السياسي الذي يعترف بالعمل كمبدأ له (آدم سميث)، والذي لم يعد من ثم ينظر إلى الملكية الخاصة كمجرد ظرف خارجي عن الإنسان – أن هذا الاقتصاد السياسي وحده هو الذي ينبغي أن ينظر إليه من ناحية – كنتيجة للطاقة الفعلية والحركة الفعلية للملكية الخاصة ([2]) ، كنتاج للصناعة الحديثة – ومن ناحية أخرى كقوة أسرعت ومجدت طاقة وتطور الصناعة الحديثة، وجعلتها قوة في مملكة الوعي. وهكذا فبالنسبة لهذا الاقتصاد السياسي المستنير – الذي أكتشف داخل الملكية الخاصة الماهية الذاتية للثروة – يبدو أنصار المذهب النقدي والتجاري الذين لا ينظرون إلى الملكية الخاصة إلا الجوهر ([3]) موضوعي يواجه الناس عبدة أصنام ووثنيين وكاثوليك ومن هنا كان انجلز على حق حين سمى آدم سميث لوثر الاقتصاد السياسي ([4]) . فكما أعترف لوتر بالذين – الإيمان – كجوهر للعالم الخارجي، وبالتالي وقف معارضًا للوثنية الكاثوليكية – وكما تجاوز ([5]) التدين الخارجي بجعل التدين الجوهر الداخلي للإنسان، وكما نفى الكهنة خارج الإنسان العادي لأنه غرس الكاهن في قلوب الناس العاديين… هكذا تمامًا كان الأمر مع الثروة: فقد الغيث الثروة كشيء خارج الإنسان ومستقل عنه، ومن ثم كشيء لا يمكن أن يحفظ أو يؤكد إلا بطريقة خارجية، أي أن هذه الموضوعية الخارجية اللا معقولة للثروة قد ألغيت، إذ أصبحت الملكية الخاصة متجسدة في الإنسان نفسه، والإنسان نفسه يعتبر ما هية لها. ولكن نتيجة لذلك يجلب الإنسان إلى داخل مدار الملكية الخاصة، تمامًا كما جلب – عند لوثر – إلى داخل مدار الدين. وتحت مظهر الاعتراف بالإنسان لم يعد الاقتصاد السياسي حقًا – ومبدؤه هو العمل – أكثر من التحقق المنسق لإنكار الإنسان، لأن الإنسان ذاته لم يعد يقف في علاقة خارجية من التوتر مع الجوهر الخارجي للملكية الخاصة، بل أصبح هو ذاته هذه الماهية المتوترة للملكية الخاصة. وما كان من قبل خارجيًا بالنسبة للذات – تخارج الإنسان في الشيء ([6]) – قد أصبح مجرد فعل التخارج – عملية الانسلاب. وهكذا فإذا كان هذا الاقتصاد السياسي يبدأ بالتظاهر بالاعتراف بالإنسان (استقلاله وتلقائيته الخ..)، وإذا كان يحدد موضع الملكية الخاصة في وجود الإنسان ذاته، فإنه لم يعد يمكن أن يظل محددًا بالخصائص المحلية أو القومية أو غيرها من خصائص الملكية الخاصة، وكأنها شيء يوجد خارجه، وإذا كان هذا الاقتصاد السياسي يكشف بالتالي عن طاقة كوزموبوليتية، كلية، تطيح بكل قيد ورابطة حتى تضع نفسها مكانها باعتبارها السياسة الوحيدة، والكلية الوحيدة، والقيد الوحيد، والرابطة الوحيدة، فإن عليه أن يطرح جانبًا هذا النفاق في مجرى تطوره المقبل، وأن يبرز بكل تبجحه. وهو يفعل ذلك – دون أن تزعجه كل التناقضات الظاهرة التي ينغمس فيها – بتطوير فكرة العمل تطويرًا أكثر أحادية، ومن ثم أكثر أنساقًا، باعتباره الماهية الوحيدة للثروة: بإثباته أن نتائج هذه النظرية لا إنسانية في طابعها، على عكس المعالجة الأخرى الأصلية وأخيرًا بتوجيه اللطمة الساحقة للريع – آخر شكل فردي طبيعي للملكية الخاصة، وآخر مصدر للثورة يوجد مستقلاً عن حركة العمل، هذا التعبير عن الملكية الإقطاعية، وهو تعبير أصبح اقتصاديًا تمامًا في طابعه، وبالتالي عاجزًا عن مقاومة الاقتصاد السياسي (مدرسة ريكاردو). وليست هناك فحسب زيادة نسبية في تبجح الاقتصاد السياسي منذ سميث وخلال ساي حتى ريكاردو وميل الخ… بقدر ما تبدو نتائج الصناعة أكثر تطورًا وأكثر تناقضًا في أعين هؤلاء الأخيرين، بل أن هؤلاء الاقتصاديين الأخيرين تقدموا بثبات ووعي إلى أبعد من أسلافهم بصورة إيجابية في تغربهم عن الإنسان. غير أنهم إنما يفعلون ذلك لأن علمهم يتطور باتساق وأصالة أكبر. ولأنهم يجعلون الملكية الخاصة في شكلها النشط الذات، وبذلك يجعلون الإنسان في نفس الوقت – والإنسان كشيء غير ما هوى – الماهية، فإن تناقض الواقع يتجاوب كلية مع الماهية المتناقضة التي يقبلونها كمبدأ لهم. وعالم الصناعة الممزق يؤكد مبدأهم الممزق داخليًا ولا يدحضه. ومبدأهم هو – في نهاية الأمر – مبدأ هذا التمزق.
ويشكل مذهب الفزيوقراط الذي وضعه الدكتور كيسناي الشكل الانتقالي من المذهب التجاري إلى آدم سميث. والفزيوقراطية هي بشكل مباشر ذوبان الملكية الإقطاعية في الاقتصاد السياسي، لكنها كذلك وبنفس الصورة المباشرة تحولها وعودتها في الاقتصاد السياسي، فيما عدا أن لغتها الآن لم تعد لغة إقطاعية بل اقتصادية. فكل الثروة تحلل إلى أرض وزراعة. والأرض ليست بعد رأسمالاً: إنها لا تزال شكلاً خاصًا لوجوده، يفترض أن صحته تكمن وتستمد من خصوصيته الطبيعية. غير أن الأرض عنصر طبيعي عام في حين أن المذهب التجاري لا يعترف بالثروة إلا في شكل معدن ثمين. وهكذا فإن موضوع الثروة – مادتها – قد أتخذ صراحة أعلى درجة من العمومية داخل حدود الطبيعة، من حيث أنه بشكل مباشر ثروة موضوعية حتى كطبيعة. والأرض لا توجد بالنسبة للإنسان إلا من خلال العمل، من خلال الزارعة. وهكذا فإن الماهية الذاتية للثروة قد حولت إلى العمل. ولكن في نفس الوقت فالزراعة هي العمل الإنتاجي الوحيد. ومن هنا فإن العمل لا يفهم بعد في عموميته وتجريده: فهو لا يزال انسلابًا نوعيًا، خاصًا، للإنسان، تمامًا كما أن ناتجه لا يدرك إلا كشكل نوعي للثروة، يرجع إلى الطبيعة أكثر مما يرجع إلى العمل ذاته. ولا تزال الأرض تدرك هنا كظاهرة طبيعية مستقلة عن الإنسان – وليس وبعد كرأسمال أي كمظهر للعمل ذاته. وبالأحرى أن العمل يبدو كمظهر للأرض. ولكن ما كانت وثنية الثروة الخارجية القديمة – والثروة التي توجد كموضوع فقط – قد ردت على عنصر طبيعي بسيط للغاية، ولما كانت ما هيتها – ولو جزئيًا فحسب وفي شكل خاص – قد أدركت داخل وجودها الذاتي، فإن هناك الخطوة الضرورية إلى الأمام من حيث أن الطبيعة العامة للثروة قد اتضحت، وأن العمل بالتالي – في إطلاقه الكلي (أي في تجريده) – قد أثير وأقر باعتباره المبدأ. ويرد على الفزيوقراطية بأن الزراعة من وجهة النظر الاقتصادية – أي من وجهة النظر الصحيحة الوحيدة – لا تختلف عن أي صناعة أخرى، وأن منفعية الثروة من هنا ليست شكلاً نوعيًا للعمل مرتبطًا بعنصر خاص – تعبيرًا خاصًا عن العمل – وإنما هي العمل عمومًا.
وتنكر الفزيوقراطية الثروة الخاصة الخارجية الموضوعية فحسب بإعلانها أن العمل هو ماهية الثروة. لكن العمل عند الفزيوقراطية ليس منذ البداية الأولى إلا الماهية الذاتية لملكية الأرض (فهي تنطلق من طراز الملكية الذي يبدو تاريخيًا الطراز المسيطر المعترف به) وهي أنما تحول ملكية الأرض إلى إنسان منسلب. وهي تلغي طابعها الإقطاعي بإعلان أن الصناعة (الزراعة) هي ماهيتها. لكن موقفها من عالم الصناعة هو موقف الإنكار، وهي تعترف بالنظام الإقطاعي بإعلان أن الزراعة هي الصناعة الوحيدة.
ومن الواضح أنه إذا كانت الماهية الذاتية للصناعة قد أدركت الآن (للصناعة في مواجهة ملكية الأرض أي الصناعة وهي تشكل ذاتها كصناعة) فإن هذه الماهية تشمل نقيضها. فتمامًا كما تجسد الصناعة ملكية الأرض الملغاة فإن الماهية الذاتية للصناعة تجسد في نفس الوقت الماهية الذاتية لملكية الأرض.
وتمامًا كما أن ملكية الأرض هي أول أشكال الملكية الخاصة، وأن الصناعة قد واجهتها في البداية تاريخيًا كمجرد شكل خاص للملكية – أو بالأحرى كعبد أعنق لملكية الأرض – فإن هذه العملية تكرر ذاتها على مستوى الإدراك العلمي للماهية الذاتية للملكية الخاصة، للعمل. ويبدو العمل في البداية كعمل زراعي فحسب، لكنه بعدئذ يؤكد ذاته كعمل عمومًا.
لقد أصبحت كل الثروات ثروات صناعية، ثروة العمل، والصناعة عمل منجن، تمامًا كما أن نظام المصنع هو ماهية الصناعة – العمل – وقد توصلت إلى النضج، وتمامًا كما أن رأس المال الصناعي هو الشكل الموضوعي المنجز للملكية الخاصة.
ونستطيع الآن أن نرى كيف أنه عند هذه النقطة فحسب تستطيع الملكية الخاصة أن تكمل سيطرتها على الإنسان، وتصبح في أكثر أشكالها عمومية قوة تاريخية عالمية.
([1] ) “لذاته” (fuer sich) تعبير هيجلي يستخدم نقيضًا لعبارة “في ذاته” (an sich). وتعني “في ذاته” بالتقريب “كامن” أو حتى “غير واعي”، وبالمثل يمكن فهم “لذاته” على أنها تعني “موجود لذاته” أو “بوعي” – الناشر.
([2] ) أنه حركة للملكية الخاصة تصبح مستغلة لذاتها في الوعي – أنه الصناعة الحديثة كذات.
([3] ) “Wesen” ترجمت هنا إلى substance (جوهر) وترجمت في مكان آخر في نفس الصفحة “Essence” (ماهية) – المترجم.
([4] ) أنظر ف. أنجلز “تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي” الملحق بهذا الكتاب – المترجم.
([5] ) “superseded” تجاوز “aufhob” (ترجمت في نهاية الفقرة “الفيت”) – المترجم.
([6] ) تخارج الإنسان في الشيء reale Entauscerung des Menschen عملية الانسلاب Verasserung