بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المخطوطات الاقتصادية والفلسفية

« السابق التالي »

معني الحاجات الإنسانية حيث توجد الملكية الخاصة وفي ظل الاشتراكية

(معني الحاجات الإنسانية حيث توجد الملكية الخاصة وفي ظل الاشتراكية

الفارق بين الثروة المبددة والثروة الصناعية.

تقسيم العمل في المجتمع البورجوازي)

(7) رأينا أي دلالة تكون لثروة الاحتياجات الإنسانية – إذا افترضنا الاشتراكية – وأي دلالة تكون بالتالي لكل من أسلوب الإنتاج الجديد والموضوع الجديد للإنتاج: للتجلي الجديد لقوى الطبيعة الإنسانية والإثراء الجديد للطبيعة الإنسانية ([1]) . وفي ظل الملكية الخاصة تكون دلالتهما معكوسة: فكل امرئ يضارب على خلق حاجة جديدة لدى آخر، حتى يدفعه لتضحية جديدة، وليضعه في تبعية جديدة، وليغريه بأسلوب جديد من الإشباع ومن ثم للدمار الاقتصادي. أن كل امرئ يحاول أن يفرض على الآخر قوة غريبة، حتى يستطيع بذلك أن يجد الإشباع لحاجته الأنانية. ويصحب الزيادة في كمية الموضوعات اتساع لمملكة القوى الغربية التي يخضع لها الإنسان، ويمثل كل ناتج جديد إمكانية جديدة للخداع المتبادل والسرقة المتبادلة. أن الإنسان يصبح أكثر فقرًا كإنسان، وتصبح حاجته إلى المال عكس مع زيادة حجم الإنتاج: أي أن احتياجه ينمو مع ازدياد قوة النقود.

وهكذا فإن الحاجة إلى المال هي الحاجة الحقيقية التي ينتجها النظام الاقتصادي الحديث، وهي الحاجة الوحيدة التي ينتجها هذا النظام، وتصبح كمية المال بدرجة متزايدة هي الخاصية الوحيدة الفعالة للمال: وتمامًا كما أنه يهبط بكل شيء إلى شكله المجرد فإنه يهبط بذاته في مجرى حركته إلى مجرد شيء كمي. ويصبح الإسراف والإفراط معياره الحقيقي. ومن الناحية الذاتية فإن هذا يتجلي جزئيًا في أن أتساع المنتجات والحاجات يهبط إلى عبودية مبتدعة دائمة الحساب لرغبات غير إنسانية مترفة غير طبيعية خيالية، أن الملكة الخاصة لا تعرف كيف تغير الحاجة الفجة إلى حاجة إنسانية، ومثاليتها هي الخيال والهوى والنزوة، وما من خصي يتملق سيدة بدناءة أكبر، أو يستخدم وسائل أكثر حقارة لإثارة طاقته المتبلدة على الاستمتاع حتى يستطيع أن يختلس منفعة لنفسه، مثلما يفعل خصي الصناعة – المنتج – لكي يختلس لنفسه بضع بنسات، لكي يسحر الطيور الذهبية فتخرج من جيوب جيرانه الذين يحبهم حبًا مسيحيًا. أنه يضع نفسه في خدمة أكثر خيالات الآخر فسادًا، ويلعب دور القواد بينه بين حاجته، ويثير فيه رغبات عفنة، ويكمن منتظرًا كل وجه من أوجه ضعفه – كل ذلك حتى يستطيع عندئذ أن يطلب مالاً مقابل هذه الخدمة الودية. (فكل ناتج هو طعم يسعى به إلى اجتذاب وجود الآخر، ماله. وكل حاجة حقيقية وممكنة ضعف سيقود الذبابة إلى إناء الغراء؛ استغلال عام للطبيعة الإنسانية الجماعية. وتمامًا كما أن كل نقيصه في الإنسان هي رابطة بينه وبين السماء – طريق يصل بالكاهن إلى قلبه، فإن كل حاجة هي فرصة للاقتراب من جارك تحت قناع أقصى قدر من الود لتقول له: إيها الصديق العزيز، أني أعطيك ما تحتاجه، لكنك تعرف الشرط الذي لا مفر منه، أنت تعرف المدار الذي عليك أن توقع به لي، فأنا أنهبك بتزويدك بمتعتك).

ويتجلى هذا الاغتراب جزئيًا في أنه ينتج ترفه الحاجات ووسائلها من ناحية، وبربرية حيوانية، بساطة كاملة غير مرفهة مجردة للحاجة من ناحية أخرى، أوي بالأحرى في أنه أنما يبعث ذاته في نقيضه. فحتى الحاجة إلى الهواء الطلق تتوقف بالنسبة للحامل، ويعود الإنسان إلى العيش في الكهف الذي أصبح الآن – فضلاً عن ذلك – ملوثًا بنفس الطاعون العفن الذي تنفثه المدنية، والذي لم يعد يشغله إلا بشكل غير مستقر إذ يصبح بالنسبة له مسكنًا غريبًا يمكن أن يسحب منه في أي يوم – مكانًا يمكن أن يطرد منه في أي يوم إذا لم يدفع. وعليه أن يدفع مقابلاً لهذا القبر. أن مسكنًا في النور – الذي أشار إليه برومثيوس عند أسخيلوس باعتباره واحدًا من أعظم العطايا التي تمكن عن طريقها من أن يحول الهمجي إلى كائن إنساني – يكف عن الوجود بالنسبة للعامل. والضوء والهواء الخ… – وأبسط نظافة حيوانية – تكف عن أن تكون حاجة للإنسان. والقذارة – هذا الركود والتعفن للإنسان – بالوعة المدنية هذه (بالمعنى الحرفي تمامًا) – تصبح هي عنصر الحياة بالنسبة له. والإهمال الكامل غير الطبيعي، الطبيعة المتعفنة، تصبح هي عنصر حياته. أن واحدة من حواسه لم تعد موجودة، لا بالطريقة الإنسانية فحسب، بل حتى بطريقة غير إنسانية، ومن ثم حتى بطريقة حيوانية. وتعود ثانية أكثر أساليب (وأدوات) العمل فظاظة: أن طاحونة العبيد الرومان مثلاً هي وسيلة الإنتاج. وسيلة الوجود، لكثير من العمال الإنجليز. ولم يعد الأمر قاصرًا على أن الإنسان ليست له حاجات إنسانية – فحتى حاجاته الحيوانية تكف عن الوجود. فالأيرلندي لم يعد يعرف أي حاجة إلا الحاجة لأن يأكل. وفي الحقيقة إلا الحاجة لأن يأكل البطاطس – وبطاطس الخنازير في الواقع، أي أسوأ أنواع البطاطس. لكن لدى كل من انجلترا وفرنسا بالفعل في كل مدينة من مدنهما الصناعية أيرلندا صغيرة. أن لدى الهمجي والحيوان على الأقل الحاجة إلى الصيد، إلى التجول الخ… – الحاجة إلى الصحبة، أن العمل الآلي يبسط لكي يحول إلى عامل الكائن الإنساني الذي لا يزال في طور الصنع، الذي لا يزال غير ناضج كلية، الطفل – في حين أصبح العامل طفلاً مهملاً. وتكيف الآلة نفسها مع ضعف الكائن الإنساني لكي تحول الكائن الإنساني الضعيف إلى آلة.

أما كيف يولد تضاعف الحاجات ووسائل إشباعها غياب الحاجات والوسائل فهذا ما يوضحه رجل الاقتصاد السياسي (والرأسمالي: وينبغي أن نلاحظ أننا أنما نتحدث دائمًا عن رجال الأعمال التجريبيين حين نشير إلى رجال الاقتصادي السياسي – باعتبارهم اعترافهم وأسلوب وجودهم العلمي). وهو يوضح ذلك:

(1) بالهبوط بحاجة العامل إلى أدنى وأبأس مستوى للبقاء الجسدي، والهبوط بفاعليته إلى الحركة الميكانيكية الأكثر تجريدًا. ومن هنا فإنه يقول: ليس لدى الإنسان حاجة أخرى سواء للفاعلية أو للمتعة. لأنه يسمى حتى هذه الحياة، حياة ووجودًا إنسانيين.

(2) باعتبار أدنى مستوى ممكن للحياة (الوجود) معيارًا، وفي الحقيقة المعيار العام – وهو عام لأنه قابل للتطبيق على جمهور الناس. أنه يحول العامل إلى كائن بلا حس يفتقر إلى كل الحاجات، تمامًا كما يحول فاعليته إلى محض تجريد من كل فاعلية. ومن هنا فإن كل ترف للعامل يبدو له شيئًا يستحق اللوم، وكل ما يتجاوز الحاجة الأكثر تجريدًا – ولو كان في مملكة المتعة السلبية أو تجليًا للفاعلية – يبدو له ترفًا. ومن هنا فإن الاقتصاد السياسي – علم الثروة هذا – هو في نفس الوقت علم الإنكار، العور، التقتير، الادخار – وهو يصل في الواقع على النقطة التي يعفي فيها الإنسان من الحاجة إلى أي من الهواء الطلق أو التمارين البدنية. أن علم الصناعة الزائفة هذا هو في نفس الوقت علم الزهد، ومثله الأعلى هو البخيل الزاهد، والمرابي في نفس الوقت، والعبد الزاهد، والمنتج في نفس الوقت. ومثله الأعلى الأخلاقي هو العامل الذي يأخذ جزءًا من أجره إلى بنك الادخار، بل لقد وجد فنا دنيئًا جاهزًا يغلف فيه فكرته المفضلة هذه: لقد عرضوها غارقة في العاطفية فوق خشبة المسرح. وهكذا فإن الاقتصاد السياسي – رغم مظهره الدنيوي الشهواني – هو علم أخلاقي حقًا، أكثر العلوم أخلاقيه. فإنكار الذات، إنكار الحياة وكل الحاجات الإنسانية، هو مبدأه الرئيسي. وكلما قل ما تأكله وتشربه وتقرؤه من كتب، وقل ترددك على المسرح وقاعة الرقص والمقصف، وقل نصيبك من التفكير والحب والتنظير والغناء والرسم والمبارزة الخ… كلما زاد ما تدخره – كلما زاد كنزك الذي لا تستطيع العتة ولا الغبار أن تلتهمه – زاد رأسمالك. كلما قل وجودك زاد ما تملك، كلما قل تعبيرك عن حياتك، زادت حياتك المنسلبة – زاد رصيد وجودك المغترب. وكل ما يأخذه رجل الاقتصاد السياسي منك في الحياة الإنسانية يعطيك بدلاً منه مالاً وثروة. وكل ما لا تستطيع صنعه، يصنعه مالك. أنه يستطيع أن يأكل ويشرب ويذهب إلى قاعة الرقص والمسرح، يستطيع أن يرحل، وأن يمتلك الفن والتعليم وكنوز الماضي والسلطة السياسية – أن كل هذا يستطيع أن يمتلكه لك – أنه يستطيع أن يشترى هذا كله لك، أنه العطية الحقيقية. بيد أنه وهو كذلك، فإنه يميل إلى ألا يفعل شيئًا إلا أن يخلق ذاته. يشتري ذاته، لأن كل شيء آخر هو في نهاية الأمر خادم له. وحين أمتلك السيد فإنني أمتلك الخادم ولست في حاجة إلى خادمه، ومن هنا فإن كل العواطف وكل فاعلية لا بد أن تغرق في التعطش إلى الثروة. وليس للعامل إلا أن يكون له ما يكفيه لكي يعيش، وليس له أن يعيش إلا لكي يكون له (ما يكفيه).

وبالطبع يثور هنا جدال في مجال الاقتصاد السياسي. فأحد الأطراف (لوديرديل، مالتس… الخ…) يوصي بالترف ويلعن التقتير، والآخر (ساي، ريكاردو… الخ…) يوصي بالتقتير ويلعن الترف. لكن الطرف الأول يعترف بأنه يريد الترف حتى ينتج العمل (أي التقتير المطلق) والآخر يعترف بأنه يوصى بالتقتير لكي ينتج الثروة (أي الترف). ولدى مدرسة لوديرديل – مالتس فكرة رومانسية هي أن التعطش إلى الثروة وحده لا ينبغي أن يحدد استهلاك الغني، وهي تناقض قوانينها بتقديم الإشراف كوسيلة مباشرة للثراء. ومن هنا فإن الجانب الآخر – في مواجهتها – يثبت بحماس شديد وتفصيل بالغ أنني لا أزيد – بل أنقص – ملكياتي بالإسراف. غير أن مدرسة ساي – ريكاردو مرائية في عدم اعترافها بأن الهوى والنزوات هي بالدقة التي تحدد الإنتاج، أنها تنسى “الحاجات المرفهة”، إنها تنسى أنه لن يكون هناك إنتاج دون الاستهلاك، إنها تنسى أنه نتيجة للمنافسة فإن الإنتاج لا يمكن إلا أن يكون أكثر أتساعًا ورفاهية، إنها تنسى أن الاستعمال هو الذي يحدد قيمة الشيء، وإن “الموضة” تقرر الاستعمال، إنها لا تريد أن ترى إلا إنتاج “الأشياء المفيدة” لكنها تنسى أن أنتاج قدر عديمي الجدوى. وكلا الطرفين ينسى أن الإسراف والتقتير، والترف والحرمان، الثروة والفقر، كلها متساوية.

ولا ينبغي عليك فقط أن تقتصد في الإرضاء المباشر لحواسك، بالاقتصاد في طعامك الخ… بل عليك أن تعفي نفسك من كل مشاركة في الاهتمام العام، من كل تعاطف، من كل ثقة الخ… إذا أردت أن تكون اقتصاديًا، إذا لم ترد أن تحطمك الأوهام.

وينبغي أن تجعل كل ما لك قابلاً للبيع أن مفيدًا، فإذا أنا سألت رجل الاقتصاد السياسي: هل أنا أطيع قوانين الاقتصاد السياسي إذا انتزعت المال بتقديم جسدي للبيع بالاستسلام لشهوة آخر؟ (وعمال المصانع في فرنسا يسمون بغاء زوجاتهم وبناتهم ساعة العمل الإضافية وهو أمر صحيح حرفيًا) – أم هل أنا لا أتصرف وفق الاقتصاد لو أنني بعت صديقي للمغاربة؟ (والبيع المباشر للناس في شكل الإنجاز في المجندين الخ… يحدث في كل البلاد المتمدينة) – عندئذ سيجيبني رجل الاقتصاد السياسي: إنك لا تنتهك قوانيني، ولكن أنظر ماذا سيقول ابن عمي الأخلاق وابن عمي الدين عن ذلك. أن أخلاقي وديني الاقتصاديين السياسيين لا يأخذان عليك شيئًا ولكن – ولكن من أصدق الآن، الاقتصاد السياسي أم الأخلاق؟ أن أخلاق الاقتصاد السياسي هي الاكتساب والعمل والتقتير والاعتدال – ولكن الاقتصاد السياسي يعد بإشباع احتياجاتي. والاقتصاد السياسي للأخلاق هو ثروة الضمير المستريح والفضيلة الخ… ولكن كيف أستطيع أن أعيش فاضلاً إذا لم يكن أعيش؟ وكيف يكون لدى ضمير مستريح إذا لم أكن أعي شيئًا؟ وينبع عن ذات طبيعة الاغتراب أن كل مجال يطبق على معيارًا آخر، لأن كلا منهما اغتراب محدد للإنسان، يركز الانتباه على مجال خاص من الفاعلية الجوهرية المغتربة، وكل منهما يقف في اغتراب بالنسبة للآخر. وهكذا يأخذ ميشيل شيفالييه على ريكاردو أنه يزيل الأخلاق، لكن ريكاردو إنما بسمح للاقتصاد السياسي أن يتحدث بلغته، وإذا كان لا يتحدث أخلاقيًا فليس هذا خطأ ريكاردو، وشيفالييه يزيل الاقتصادي السياسي إلى الحد الذي يتحدث فيه أخلاقيًا، لكنه في الحقيقة وبالضرورة ينفصل عن الأخلاق إلى الحد الذي يمارس فيه الاقتصاد السياسي. وأشار الاقتصاد السياسي إلى الأخلاق، إذ لم تكن أشارة متعسفة عارضة ومن ثم غير ذات أساس وغير علمية، إذ لم تكن أشارة زائفة وإنما يراد لها أن تكون جوهرية، لا يمكن غلا أن تكون أشارة قوانين الاقتصادي السياسي إلى الأخلاق، فإذا لم تكن هناك مثل هذه العلاقة، أو إذا كان الأمر بالأحرى هو العكس – فماذا يستطيع ريكاردو أن يفعل؟ وفضلاً عن ذلك فإن التعارض بين الاقتصاد السياسي والأخلاق ليس سوى تعارض زائف، وهو لا تعارض بقدر ما هو تعارض، وكل ما يحدث هو أن الاقتصاد السياسي يعبر عن القوانين الأخلاقية بطريقته الخاصة.

وتظهر اللا حاجة كمبدأ للاقتصاد السياسي أوضح ما تظهر في نظريته عن السكان. أن هناك عددًا أكبر مما يجب من الناس. فحتى وجود الناس في مجرد ترف، وإذا كان العامل “أخلاقيًا” فإنه سيوفر في تكاثره (ويقترح ميل الثناء العلني على أولئك الذين يقتصدون في علاقاتهم الجنسية، واللوم العلني لأولئك الذي يخطئون ضد مثل هذا الزواج العقيم… أليست هذه هي الأخلاق، وتعاليم الزهد؟). أن إنتاج الناس يبدو في شكل تعاسة عامة.

والمعنى الذي للإنتاج في علاقته بالغنى ينكشف في المعنى الذي له بالنسبة للفقير. ففي القمة يكون التجلي دائمًا مرفهًا مقنعًا غامضًا – أكذوبة، وفي السفح يكون خشنًا مباشرًا صريحًا – الشيء الحقيقي. أن حاجة العامل الفجة مصدر للكسب أكبر من حاجة الغنى المرفهة، ومساكن الأقبية ف6ي لندن تجلب لمؤجريها أكثر مما تجلب القصور، أي أنها – بالنسبة للمالك – تشكل ثورة أكبر وبالتالي (إذا تحدثنا بلغة الاقتصاد السياسي) تشكل ثروة اجتماعية أكبر.

وتضارب الصناعة على رفاهية الحاجات، لكنها تضارب بنفس القدر على فجاجتها، وإنما على فجاجتها المنتجة بشكل مصطنع، والتي تكون متعتها الحقة هي التخدير الذاتي – هذا الإشباع الظاهري للحاجة – هذه المدينة المحتواة داخل البربرية الفجة للحاجة. ومن هنا فإن الحانات البريطانية هي التجسيد الرمزي للملكية الخاصة. أن ترفها يكشف العلاقة الحقيقية بين ترف الصناعة وثروتها وبين الإنسان. ومن هنا فإنها بحق متعة الأحد الوحيد للناس التي يعاملها البوليس الانجليزي بلطف على الأقل.

رأينا بالفعل كيف يقيم رجل الاقتصاد السياسي الوحدة بين العمل ورأس المال بطرق متنوعة: (1) فرأس المال عمل متراكم. (2) وغاية رأس المال داخل الإنتاج – جزئيًا تجدد إنتاج رأس المال مع الربح وجزئيًا رأس المال كمادة خام (مادة العمل) وجزئيًا باعتباره هو ذاته أداة عمل (الآلة هي رأسمال يسوى مباشرة بالعمل) – هي العمل الإنتاجي. (3) العامل رأسمالي. (4) الأجور تنتمي إلى تكاليف رأس المال. (5) بالنسبة للعمال فإن العمل هو تجدد إنتاج رأسمال حياته. (6) بالنسبة للرأسمالي فإن العمل أحد جوانب فاعلية رأسماله.

وأخيرًا (7) يفترض رجل الاقتصاد السياسي الوحدة الأصلية لرأس المال والعمل في شكل الوحدة بين الرأسمالي والعامل، وهذه هي حالة الفردوس الأصلية. والطريقة التي يقفز بها هذان الجانبان في شكل شخصين ليأخذوا بخناق بعضهما البعض هي بالنسبة لرجل الاقتصاد السياسي حادث عارض، ومن هنا لا يمكن تفسيره إلا بالرجوع إلى عوامل خارجية (أنظر ميل) ([2]) .

والأمم التي لا تزال تخلب لبها الروعة الحسية للمعادن الثمينة، ومن هنا لا تزال عابدة وثنية للنقود المعدنية، ليست بعد أممًا نقدية كاملة التطور – قارن فرنسا بانجلترا. ويتضح المدى الذي يكون فيه حل الألغاز النظرية مهمة الممارسة، ويتم من خلال الممارسة – تمامًا كما أن الممارسة الحقة هي شرط لنظرية حقيقية وإيجابية – يتضح هذا المدى على سبيل المثال في الوثنية “Fetishism” والوعي الحسي لعابد الوثن مختلف عن وعي الأغريقي لأن وجوده الحسي أيضًا مختلف. والعداء المجرد بين الحس والروح ضروري طالما أن الشعور الإنساني بالطبيعة، الحس الإنساني للطبيعة، ومن هنا الحس الطبيعي للإنسان، لم ينتجه بعد عمل الإنسان.

والمساواة ليست إلا ترجمة للعبارة الألمانية “أنا = أنا” إلى الفرنسية أي إلى الشكل السياسي. والمساواة كأساس للشيوعية هي تبريرها السياسي، وهذا هو نفس ما يحدث حين يبررها الألماني بتصور الإنسان كوعي ذات كلي. وبالطبع فإن تخطي الاغتراب ينطلق دائمًا من شكل الاغتراب الذي يكون قوة مسيطرة: في ألمانيا… وعي الذات، في فرنسا… المساواة بسبب السياسة، في انجلترا الحاجة العملية الحقيقية المادية التي تأخذ ذاتها فحسب كمقياس لذاتها. ومن هذه الزاوية ينبغي أن ينتقد برودون وأن يقدر.

إذا نحن شخصنا الشيوعية ذاتها بسبب طبيعتها كنفي للنفي، كتملك للجوهر الإنساني الذي يصالح ذاته مع ذاته مع ذاته خلال نفي الملكية الخاصة – باعتبار أنها لم تصبح بعد الوضع الحقيقي الناشئ عن ذاته، بل بالأحرى وضعًا ناشئًا عن الملكية الخاصة (…….) ([3]) .

ولما كان الاغتراب الحقيقي لحياة الإنسان يبقى في هذه الحالة ([4]) ، ويبقى بدرجة أكبر كلما زاد وعي المرء به من حيث هو اغتراب، فإنه لا يمكن أن يتحقق إلا بتطبيق الشيوعية.

ولكي نلغي فكرة الملكية الخاصة فإن فكرة الشيوعية كافية تمامًا. بيد أن الأمر يتطلب فعلاً شيوعيًا واقعيًا لإلغاء الملكية الخاصة الواقعية. وسيصل التاريخ إليه؛ وهذه الحركة التي نعرفها بالفعل في النظرية باعتبارها حركة تتخطى ذاتها ستمثل في الواقع الفعلي عملية طويلة وقاسية للغاية. لكننا ينبغي أن نعتبر من قبيل التقدم الحقيقي أننا قد كسبنا مقدمًا وعيًا بالطابع المحدود للحركة التاريخية وهدفها – ووعيًا يتجاوزها.

وحين يرتبط العاملون الشيوعيون ببعضهم البعض فإن هدفهم الأول هو النظرية، الدعاية الخ… ولكن في نفس الوقت – وكنتيجة لهذا الارتباط – فإنهم يكتسبون حاجة جديدة – الحاجة إلى المجتمع – وما يبدو كوسيلة يصبح غاية. وتستطيع أن تلاحظ هذه العملية الفعلية في أروح نتائجها حيثما شاهدت عمالاً اشتراكيين فرنسيين معًا. أن أمورًا مثل التدخين والشراب والطعام الخ… لم تعد وسيلة الاتصال أو وسيلة التقريب بينهم، فالصحبة والترابط والحديث – وهي بدورها تتخذ المجتمع هدفًا – تكفيهم، ولم تعد الأخوة بين الناس لديهم عبارة جوفاء، وإنما حقيقة من حقائق الحياة، ويشرق نبل الإنسان من أجسادهم التي صهرها العمل.

وحين يزعم الاقتصاد السياسي أن الطلب والعرض يتوازنان دائمًا، فإنه ينسى على الفور أنه وفقًا لزعمه هو (نظرية السكان) فإن عرض الناس يتجاوز دائمًا الطلب عليهم، وبالتالي فإنه في النتيجة الجوهرية لكل عملية الإنتاج – وجود الإنسان – يجد التفاوت بين الطلب والعرض أبلغ تعبير عنه.

أما المدى الذي تمثل فيه النقود – التي تبدو وسيلة – السلطة الحقة والغاية الوحيدة – المدى الذي تكون فيه هذه الوسيلة التي تعطيني الجوهر، التي تجعلني حائزًا للجوهر الموضوعي للآخرين، هدفًا في ذاتها – فنستطيع أن نراه من حقيقة أن ملكية الأرض حيثما كانت الأرض هي مصدر الحياة، والحصان والسيف حيثما يكونان الوسيلة الحقة للحياة، يعترف بها كذلك باعتبارها السلطات السياسية الحقيقية في الحياة. وفي العصور الوسطى كانت طبقة اجتماعية تعتق حالما يسمح لها بأن تحمل السيف، وبين الشعوب الرحل فإن الحصان هو الذي يجعل مني إنسانًا حرًا وشريكًا في حياة الجماعة.

قلنا من قبل أن الإنسان يرتد إلى سكنى الكهوف إلخ… لكنه يرتد إليها في شكل مغترب خبيث. فالمتوحش في كهفه – وهو عنصر طبيعي يقدم له نفسه دون مقابل لاستخدامه وحمايته – لا يشعر بنفسه غريبًا، أو بالأحرى، أنه يشعر بنفسه مطمئنًا كالسمكة في الماء. لكن مسكن القبو الذي يقطنه الفقير هو مسكن معاد، “قوة غريبة مقيدة لا تعطي نفسها له إلا بقدر ما يعطيها دمه وعرقه”، مسكن لا يستطيع أن ينظر إليه باعتباره بيته حيث يستطيع في النهاية أن يصيح “ها أنذا في بيتي”، وإنما هو يجد نفسه في منزل شخص آخر، في منزل غريب يكمن في انتظاره كل يوم، ويلقيه خارجه إذا لم يدفع الإيجار. وبالمثل فإنه يدرك أيضًا ذلك التناقض في الكيف بين مسكنه والمسكن الإنساني – المسكن الذي يوجد فيه العالم الآخر، في سماء الثروة.

إن الاغتراب لا يظهر فحسب في حقيقة أن وسائل معيشتي ملك لشخص آخر، وأن رغبتي هي حيازة آخر لا أستطيع أن أصل إليها، وإنما يظهر كذلك في حقيقة أن كل شيء هو في ذاته شيء مختلف عن ذاته – أن فاعليتي هي شيء آخر، وأخيرًا (وهذا ينطبق أيضًا على الرأسمالي) أن كل شيء يخضع لقوة غير إنسانية. وهناك شكل للثروة غير النشطة المبذرة المكرسة كلية للمتعة، والمستمتع بها يتصرف – من ناحية – كمجرد فرد زائل يبدد ذاته بجنون دون غاية، ويعرف العمل العبودي للآخرين (العرق والدم الإنسانيين) كفريسة لجشعه، ومن هنا فإنه يعرف الإنسان ذاته – وبالتالي ذاته هو – ككائن فارغ مضحى به. ومع مثل هذه الثروة يظهر احتقار الإنسان، جزئيًا كنوع من الازدهاء، وكتبديد لما يمكن أن يقيم أود مائة حياة إنسانية، وجزئيًا كوهم شائن هو أن تبذيره الجامح، واستهلاكه غير الإنتاجي الذي لا يكف هما شرطان لعمل الآخر وبالتالي لبقائه. أنه لا يعرف تحقق القوى الجوهرية للإنسان إلا كتحقق لإسرافه ونزواته وأفكاره الهوائية الغريبة. وهذه الثروة – وهي من الناحية الأخرى تعرف أيضًا الثروة كمجرد وسيلة، كشيء لا يصلح إلا للقضاء عليه، وهي من هنا في نفس الوقت عبد وسيد، في نفس الوقت كريمة ودنيئة، متقلبة، مدعية، مغرورة، مترفة، متحضرة ذكية – أن هذه الثروة لم تمارس بعد الثروة كقوة غريبة تمامًا ترزح فوقها: بل هي بالأحرى ترى فيها قوتها هي، وليس الثروة وإنما الإشباع (هو الذي يمثل) ([5]) هدفها النهائي وغايتها.

وهذا الوهم المشرق عن طبيعة الثروة، الذي تعميه المظاهر الحسية، يواجهه الصناعي المشتغل المتزن الاقتصادي النثري – المستنير تمامًا بشأن طبيعة الثروة، والذي يعرف – في ذات الوقت الذي يوفر فيه مجالاً أوسع لانغماس الآخر في ملذاته، ويوجه له ألوان التملق البغيض في منتجاته (لأن منتجاته هي عبارات إطراء وضيعة لشهوات المبدد) – يعرف كيف يتملك لنفسه في الشكل المفيد الوحيد قوة الآخر المتضائلة. ومن هنا فإذا كانت الثروة الصناعية تبدو في البداية نتيجة للثروة الخيالية المبددة، فإن حركتها، الحركة الكامنة فيها، تبعد هذه الأخيرة بطريقة نشطة أيضًا. ذلك أن هبوط الفائدة على النقود عاقبة ونتيجة ضرورية للتطور الصناعي. ومن هنا فإن وسائل المبذر الذي يعيش على الريع تتناقص يومًا بعد يوم في تناسب عكسي مع تزايد إمكانات المتعة وشراكها. وبالتالي فإن عليه أن يستهلك رأسماله ذاته وبذلك يدمر نفسه أو أن يصبح رأسماليًا صناعيًا. ومن الناحية الأخرى هناك بالطبع زيادة مستمرة دائمًا في ربع الأرض نتيجة لمجرى التطور الصناعي، ورغم هذا – فكما رأينا من قبل ([6]) – لا بد أن يأتي وقت يكون فيه على ملكية الأرض – ككل نوع آخر من الملكية – أن تقع في مقولة رأس المال الذي يجدد ذاته بطريقة مريحة – وهذا في الواقع ينشأ عن نفس التطور الصناعي. وهكذا فإن على مالك الأرض المبذر بدوره أن يستهلك رأسماله وبهذا يدمر، أو يصبح هو نفسه زارعًا لضيعته – أي صناعيًا يزرع.

وهكذا فإن تناقص الفائدة على النقود الذي أعتبره برودون إلغاء لرأس المال، واتجاهًا لتشريك رأس المال، هو في الحقيقة وبشكل مباشر مجرد أمارة على الانتصار الكامل لرأس المال العامل على الثروة المبددة – أي تحول كل ملكية خاصة إلى رأسمال صناعي. أنه انتصار كامل للملكية الخاصة على كل صفاتها التي لا يزال لها مظهر إنساني، والخضوع الكامل لمالك الملكية الخاصة لماهية الملكية الخاصة – العمل. صحيح أن للرأسمالي الصناعي أيضًا متعة، فهو لا يعود إلى بساطة الاحتياجات غير الطبيعية، لكن متعته ليست سوى موضوع جانبي، ترويح، شيء خاضع للإنتاج، وهي في نفس الوقت متعة محسوبة، وبالتالي فإنها ذاتها متعة اقتصادية، فهو يضيفها إلى الجانب المدين في دفتر حساباته، وما يبدده على متعته ينبغي ألا يزيد عما سيحل محله بربح خلال تجدد إنتاج رأس المال. ومن هنا تخضع المتعة لرأس المال، ويخضع الفرد المستمتع للفرد الذي يراكم رأس المال، في حين كان الأمر على العكس فيما مضى. وهكذا فإن هبوط معدل الفائدة ليس مظهرًا لإلغاء رأس المال إلا بقدر ما هو مظهر لحكم رأس المال في عملية إكمال ذاته – للاغتراب في عملية تحوله إلى اغتراب كامل التطور، وبالتالي في عملية إسراعه نحو إلغائه. وتلك هي في الحقيقة الطريقة الوحيدة التي يؤكد بها ما هو قائم نقيضه.

وهكذا فإن النزاع بين رجال الاقتصاد حول الترف والتقتير ليس سوى النزاع بين هذا الاقتصاد السياسي الذي وصل إلى الوضوح عن طبيعة الثروة، وذلك الاقتصاد السياسي الذي لا يزال مصابًا بذكريات رومانسية معادية للصناعة. لكن أحدًا من الجانبين لا يعرف كيف يصل بموضوع الجدال إلى عباراته البسيطة، وأحدًا منهما لا يستطيع من ثم أن يتغلب على الآخر.

وفضلاً عن ذلك فإن ريع الأرض باعتباره ريع أرض قد أطيح به، لأن الاقتصاد السياسي الحديث قد أثبت – على عكس حجة الفزيوقراط القائلة أن مالك الأرض هو المنتج الوحيد الحقيقي – أن مالك الأرض باعتباره هذا هو صاحب الريع الوحيد غير المنتج كلية. فوفقًا للاقتصاد السياسي الحديث فإن الزراعة هي عمل الرأسمالي، الذي يستخدم رأسماله فيها بشرط أن يستطيع أن ينتظر منها الربح العادي. وزعم الفزيوقراطي أن ملكية الأرض – باعتبارها الملكية الوحيدة المنتجة – هي التي ينبغي أن تدفع ضرائب الدولة وحدها، وأنها بالتالي هي التي يجب أن تقننها وأن تشارك في شئون الدولة يتحول إلى الموقف المضاد وهو أن الضريبة على ريع الأرض هي الضريبة الوحيدة على الدخل غير المنتج، وأنها من هنا الضريبة الوحيدة التي لا تضر بالإنتاج القومي. وغنى عن البيان أنه من وجهة النظر هذه فإن الامتياز السياسي لملاك الأرض لم يعد ناشئًا عن وضعهم باعتبارهم دافعي الضرائب الرئيسيين.

وكل ما يتصوره برودون على أنه حركة العمل ضد رأس المال ليس سوى حركة العمل في شكل رأسمال – في شكل رأسمال صناعي – ضد رأس المال الذي لا يستهلك باعتباره رأسمالاً – أي الذي لا يستهلك صناعيًا. وهذه الحركة تنطلق في طريقها الظافر – طريق انتصار رأس المال الصناعي. ومن هنا فإن من الواضح أنه لا يمكن التغلغل إلى العملية الاقتصادية في تحديدها الفعلي إلا حين يدرك العمل باعتباره ماهية الملكية الخاصة.

* * *

والمجتمع – كما يبدو لرجل الاقتصاد السياسي – هو المجتمع المدني، الذي يكون كل فرد فيه مجموعة من الاحتياجات، ولا يوجد بالنسبة للشخص الآخر – كما لا يوجد الآخر بالنسبة له – إلا بقدر ما يصبح كل منهما وسيلة للآخر. فرجل الاقتصاد السياسي ينتهي بكل شيء (تمامًا كما تفعل السياسة في حديثها عن حقوق الإنسان) إلى الإنسان، أي إلى الفرد الذي يجرده من كل تحديد حتى يصنفه كرأسمالي أو عامل.

وتقسيم العمل هو تعبير الاقتصاد السياسي عن الطابع الاجتماعي للعمل داخل الاغتراب. أو – ما دام العمل ليس سوى تعبير عن الفاعلية الإنسانية داخل الانسلاب، عن عيش الحياة كانسلاب للحياة – فإن تقسيم العمل ليس إذن أيضًا إلا وضع الفاعلية الإنسانية المغتربة، المنسلبة، كفاعلية حقيقية للنوع، أو كفاعلية الإنسان ككائن نوعي.

وأما عن جوهر تقسيم العمل – وبالطبع فإن تقسيم العمل ينبغي أن يدرك باعتباره القوة الدافعة الرئيسية في إنتاج الثروة حالما يعترف بالعمل باعتباره ماهية الملكية الخاصة – أي عن الشكل المغترب والمنسلب للفاعلية الإنسانية كفاعلية نوع – فإن رجال الاقتصاد السياسي غير واضحين للغاية ومتناقضين مع ذاتهم بشأنه.

“آدم سميث: ([7]) “وتقسيم العمل ليس في الأصل نتيجة لأي حكمة إنسانية. إنه النتيجة الضرورية البطيئة التدريجية للنزعة إلى مبادلة ومقايضة ناتج المرء بغيره. وربما كانت هذه النزهة إلى الإتجار نتيجة ضرورية لاستخدام العقل والمنطق. فهي مشتركة لدى كل الناس، ولا توجد لدى أي حيوان. فالحيوان حين ينمو مستقل كلية. أما الإنسان فلديه احتياج دائم إلى مساعدة الآخرين، وعبثًا ينتظرها من طيبتهم وحدها. وهو أقرب إلى الحصول عليها إذا استطاع أن يخاطب مصلحتهم الشخصية، ويريهم أن من مصلحتهم أن يصنعوا له ما يحتاجه منهم. إننا لا نخاطب إنسانية الآخرين، بل حبهم لذاتهم، ولا نتحدث إليهم أبدًا عن ضروراتنا، بل عن منافعهم.

“وكما أننا نحصل – بالاتفاق وبالمقايضة وبالشراء – من بعضنا البعض على الجانب الأكبر من هذه المساعي الحميدة المتبادلة التي نحتاجها فإن هذه النزعة إلى المقايضة ذاتها هي التي أدت في الأصل إلى نشأة تقسيم العمل. ففي قبيلة من الصيادين أو الرعاة يقوم شخص معين بصناعة الأقواس والأسهم – مثلاً – باستعداد وبراعة أكبر من أي شخص آخر. وكثيرًا ما يبادلها مع زملائه بالماشية أو لحم الحيوانات، وهو يجد في النهاية أنه يستطيع بهذه الطريقة أن يحصل على قدر من الماشية ولحم الحيوانات أكثر مما لو توجه هو نفسه إلى الميدان للحصول عليها. وهكذا فبحكم مصلحته تنمو صناعة الأقواس إلخ.. لتكون عمله الرئيسي.

“وليس الاختلاف بين المواهب الطبيعية بين مختلف الأفراد سببًا بقدر ما هو نتيجة لتقسيم العمل…. ودون نزعة المقايضة والتبادل يكون على كل إنسان أن يحصل لنفسه على كل ضرورات الحياة ووسائل الراحة. وسيكون على الجميع أن يقوموا بنفس العمل، وما كان يمكن أن يوجد مثل هذا الاختلاف في العمل الذي يمكن له وحده أن يولد أي اختلاف كبير في المواهب.

“وكما كانت هذه النزعة هي التي تشكل هذا الاختلاف في المواهب بين الناس، فإن هذه النزعة ذاتها هي التي تجعل هذه الاختلافات مفيدة. فكثير من فصائل الحيوانات من نفس النوع تستمد من الطبيعة تمييزًا عبقريًا أكبر مما يمكن أن يلاحظ بين الناس قبل العادات والتربية. فمن حيث الطبيعة لا يختلف الفيلسوف عن الحمال في الموهبة والذكاء نصف الاختلاف بين كلب من كلاب الحراسة (mastiff) وكلب من كلاب الصيد (greyhound)، أو بين كلب الصيد وكلب من نوع (Spaniel)، أو بين هذا النوع الأخير وكلب من كلاب الرعاة، غير أن هذه الفصائل المختلفة من الحيوانات وإن كانت كلها من نفس النوع لا تكاد تكون ذات فائدة لبعضها البعض. فلا يمكن لكلب من كلاب الحراسة أن يزيد من قوته بالاستفادة من سرعة كلب الصيد إلخ… فتأثيرات هذه المواهب أو درجات الذكاء المختلفة – نتيجة عدم وجود القدرة أو النزعة للمقايضة والتبادل – لا يمكن أن تشكل رصيدًا مشتركًا، ولا تسهم أدنى مساهمة في تحقيق إشباع أو راحة أفضل للنوع. وكل حيوان لا يزال مضطرًا لأن يعول نفسه ويدافع عنها، وحده وبشكل مستقل، ولا يستمد أي نوع من المزايا من هذا التنوع في المواهب الذي ميزت به الطبيعة زملاءه. أما بين الناس فعلى العكس تكون أكثر العبقريات تباينًا ذات فائدة لبعضها البعض. فالمنتجات المختلفة لمختلف المواهب – عن طريق النزعة العامة للمقايضة والتبادل – تجلب – إذا أمكن القول – إلى الرصيد المشترك، حيث يستطيع كل إنسان أن يشتري أي جزء يتاح له من ناتج صناعة الآخرين.

“وكما أن القدرة على التبادل هي التي تتيح الفرصة لتقسيم العمل، فإن مدى هذا التقسيم لا بد أن يحدده دائمًا مدى هذه القدرة، أو بعبارة أخرى مدى السوق. فحين يكون السوق صغيرًا جدًا، لا يمكن أن يجد شخص ما أي تشجيع على أن يكرس نفسه كلية لعمل واحد، لنقص القدرة على مبادلة كل هذا الجزء الفائض من ناتج عمله الذي يزيد عن استهلاكه، مقابل تلك الأجزاء التي قد يريدها من ناتج الآخرين…”

وفي حالة مجتمع متقدم “فإن كل إنسان يعيش بالتبادل، ويصبح إلى حد ما تاجرًا، وينمو المجتمع ذاته ليصبح شركة تجارية حقًا” ([8]) (أنظر ديستوت دي تراسي: ([9]) “المجتمع هو سلسلة من المبادلات، فالتجارة تحوي كل جوهر المجتمع”). ويتصاعد تراكم رؤوس الأموال مع تقسيم العمل والعكس بالعكس – ويكفي – ويكفي هذا بالنسبة لآدم سميث.

“ولو أنتجت كل أسرة كل ما تستهلكه، لاستطاع المجتمع أن يستمر رغم عدم حدوث تبادل من أي نوع، فالتبادل دون أن يكون أساسيًا إلا أنه لا غني عنه في حالتنا المتقدمة من المجتمع. وتقسيم العمل هو توزيع ماهر لقوى الإنسان، إنه يزيد إنتاج المجتمع – قوته ومتعه – كلنه ينهب ويقلل مقدرة كل شخص مأخوذًا على حدة. والإنتاج لا يمكن أن يحدث دون تبادل” – هكذا يقول ج.ب. ساي ([10]) .

“والقوى الكامنة في الإنسان هي ذكاؤه وقدرته البدنية على العمل. والقوى الناشئة عن ظروف المجتمع تتمثل في القدرة على تقسيم العمل وعلى توزيع مختلف الأعمال بين مختلف الناس للحصول على وسائل المعيشة والقدرة على تبادل الخدمات المتبادلة والمنتجات التي تشكل هذه الوسائل. والدافع الذي يدفع إنسانًا إلى أن يقدم خدماته لآخر هو المصلحة الذاتية – إنه يطلب مكافأة مقابل الخدمات التي يقدمها. وحق الملكية الخاصة المستأثرة لا غنى عنه لإقامة التبادل بين الناس” “والتبادل وتقسيم العمل يحدد كل منهما الآخر بشكل متبادل”. هكذا يتحدث سكاربيك ([11]) .

ويعرض ميل التبادل المتطور – التجارة – كنتيجة لتقسيم العمل.

“وفعل الإنسان يمكن تتبعه إلى عناصر بسيطة جدًا. فهو في الواقع لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن ينتج الحركة. إنه يستطيع أن يحرك الأشياء نحو بعضها البعض، ويستطيع أن يفصلها عن بعضها البعض، وخواص المادة تقوم بكل الباقي” “وفي استخدام العمال والآلات كثيرًا ما نجد أن النتائج يمكن أن تزيد بالتوزيع الماهر، بفصل كل تلك العمليات التي تحوى أي اتجاه لأن تعوق بعضها البعض، وبالتقريب بين كل هذه العمليات التي يمكن دفعها بأي طريقة لأن تساعد بعضها البعض. ولما كان الناس عمومًا لا يستطيعون أن يؤدوا كثيرًا من العمليات المختلفة بنفس السرعة والبراعة التي يستطيعون بها ممارسة تعلم وأداء بضع عمليات فإنها تكون دائمًا ميزة أن يحدد بقدر الإمكان عدد العمليات المفروضة على كل واحد. ومن الضروري في أغلب الحالات لتقسيم العمل وتوزيع قوات الناس والآلات بأكبر ميزة ممكنة أن نعمل على نطاق كبير، وبعبارة أخرى أن ننتج السلع بكميات أكبر. وهذه الميزة هي التي تخلق المصانع الكبيرة، التي كثيرًا ما يتولى عدد قليل منها – يقوم في أكثر المواقع ملائمة – تزويد أكثر من بلد – لا بلد واحد – بكل ما ترغب فيه من السلع المنتجة”.

هكذا يتحدث ميل ([12]) .

غير أن الاقتصاد السياسي بأسره يوافق على أن تقسيم العمل وثروة الإنتاج، تقسيم العمل وتراكم رأس المال، يرتبطان بعلاقة متبادلة، تمامًا كما يوافق على أن الملكية الخاصة المتحررة وحدها – الملكية الخاصة متروكة لذاتها – هي التي تستطيع أن تنتج أبعد وأوسع تقسيم للعمل.

ويمكن أن نلخص حجة أدم سميث كما يلي: أن تقسيم العمل يضفى على العمل طاقة إنتاجية غير محددة. وهو ينبع من النزعة إلى التبادل والمقايضة، وهي نزعة إنسانية خاصة ربما لم تكن عارضة وإنما يحددها استخدام العقل والنطق. ودافع هؤلاء الذين يعملون في التبادل ليس هو الإنسانية، بل الأنانية، وتنوع المواهب الإنسانية نتيجة – أكثر منه سبب – لتقسيم العمل – أي للتبادل. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الأخير هو الذي يجعل هذا التنوع مفيدًا. أن الاختلافات بين الصفات الخاصة التي تولدها الطبيعة الخاصة التي تولدها في القدرة والفاعلية الإنسانية. ولكن لأن الحيوانات عاجزة عن الانشغال بالتبادل، فإن أي حيوان مفر لا يستفيد من اختلاف صفات الحيوانات التي تنتمي لنفس النوع وإنما لسلالات مختلفة. والحيوانات تعجز عن الجمع بين مختلف صفات نوعها، وتعجز عن المساهمة بشيء في الصالح والراحة المشتركين للنوع. لكن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للناس، حيث تكون أكثر المواهب وأشكال النشاط تباينًا مفيدة لبعضها البعض لأنهم يستطيعون أن يضعوا منتجاتهم المختلفة في رصيد مشترك يستطيع كل منهم أن يشتري منه. وكما ينبعث تقسيم العمل من النزعة إلى التبادل، فإنه ينمو ويتحدد بمدى التبادل – بمدى السوق. وفي الظروف المتقدمة يكون كل إنسان تاجرًا والمجتمع شركة تجارية. ويعتبر ساي التبادل عارضًا لا أساسيًا. فالمجتمع يستطيع أن يعيش دونه. وهو يصبح أمرًا لا غنى عنه في حالة المجتمع المتقدمة. إلا أن الإنتاج لا يمكن أن يحدث دونه. فتقسيم العمل وسيلة مريحة مفيدة – توزيع ماهر للقوى الإنسانية من أجل الثروة الاجتماعية، لكنه يقلل مقدرة كل شخص مفرد مأخوذًا على حدة. والملحوظة الأخيرة خطوة إلى الأمام من جانب ساي.

ويميز سكاربيك بين القوى المفردة الكامنة في الإنسان – الذكاء والمقدرة البدنية على العمل – وبين القوى المستمدة من المجتمع – التبادل وتقسيم العمل اللذين يحدد كل منهما الآخر. لكن المقدمة الضرورية للتبادل هي الملكية الخاصة. ويعبر سكاربيك هنا بشكل موضوعي عما يقوله سميث وساي وريكاردو الخ… حين يحددون الأنانية والمصلحة الذاتية كأساس للتبادل، والبيع والشراء باعتبارهما الشكل الأساسي والكافي للتبادل.

ويعرض ميل التجارة كنتيجة لتقسيم العمل. وعنده تنتهي الفاعلية الإنسانية إلى حركة ميكانيكية. وتقسيم العمل واستخدام الآلات يحفزان ثروة المجتمع، وينبغي أن يعهد لكل شخص بأصغر مجال ممكن من العمليات. ويتطلب تقسيم العمل واستخدام الآلات بدورهما إنتاج الثروة – ومن ثم الناتج – بكميات كبيرة، وهذا هو السبب في ظهور المصانع الكبيرة.

ودراسة تقسيم العمل والتبادل ذات أهمية كبيرة، لأنهما تعبيران منسلبان ملموسًا عن الفاعلية الإنسانية وعن القوة الإنسانية الجوهرية كفاعلية وقوة النوع.

وتأكيد أن تقسيم العمل والتبادل يستندان إلى الملكية الخاصة ليس سوى تأكيد أن العمل هو ماهية الملكية الخاصة – وهو تأكيد لا يستطيع رجل الاقتصاد السياسي أن يثبته ونود أن نثبته له. وبالتحديد ففي حقيقة أن تقسيم العمل والتبادل هما تجسيدان للملكية الخاصة يمكن البرهان المزدود، من ناحية أن الحياة الإنسانية تطلبت الملكية الخاصة من أجل تحققها، ومن ناحية آخري أنها تتطلب الآن تخطي الملكية الخاصة.

إن تقسيم العمل والتبادل هما الظاهرتان اللتان يفخر رجل الاقتصاد السياسي بسببهما بالطابع الاجتماعي لعمله، وفي نفس اللحظة يعبر عن التناقض في علمه – أقامة المجتمع من خلال المصالح الخاصة غير الاجتماعية.

والعوامل التي علينا أن ندرسها هي: النزعة إلى التبادل التي نجد أساسها في الأنانية – والتي تعتبر السبب أو النتيجة المتبادلة لتقسيم العمل. ويعتبر ساي أن التبادل ليس أساسيًا بالنسبة لطبيعة المجتمع. ويفسر الثروة – الإنتاج – بتقسيم العمل والتبادل. ويعترف بإفقار الفاعلية الفردية وفقدها لطابعها نتيجة لتقسيم العمل. كما يعترف بالتبادل وتقسيم العمل كمصدرين للتنوع الكبير في المواهب الإنسانية – وهو تنوع يصبح بدوره مفيدًا نتيجة للتبادل. ويقسم سكاربيك قوى الإنتاج الأساسية للإنسان – أو القوى الإنتاجية – إلى قسمين: (1) القوى الفردية الكامنة فيه – ذكائه واستعداده الخاص أو طاقته على العمل. (2) تلك المستمدة من المجتمع وليس من الفرد الواقعي – تقسيم العمل والتبادل. وأكثر من هذا فإن تقسيم العمل محدود بالسوق. والعمل الإنساني مجرد حركة ميكانيكية: فاعلم الأساسي تقوم به الخواص المادية للأشياء. وأقل قدر ممكن من العمليات ينبغي أن يسند إلى أي فرد. تمزق العمل وتركيز رأس المال، تفاهة الإنتاج الفردي وإنتاج الثروة بكميات كبيرة. معنى الملكية الخاصة داخل تقسيم العمل ([13]) .

 

([1] ) قوى الطبيعة الإنسانية menschlichen wesenkraft

الطبيعة الإنسانية menschlichen wesens

([2] ) جيمس ميل “عناصر الاقتصاد السياسي” – الناشر.

([3] ) الزاوية اليسرى من أسفل الصفحة في المخطوط ممزقة، ولا يتبقى لدينا سوى النهايات المنى للسطور الستة الأخيرة مما يجعل أعادة إنشاء النص مستحيلاً . غير إنه من أن نستخلص أن ماركس ينتقد هنا “تخطي” هيجل المثالي للاغتراب.

([4] ) الكلمات المتبقية واردة في الهامش التالي – الناشر.

في حالة “تخطي” الاغتراب “بالطريقة الألمانية القديمة – طريقة فينومونولجيا هيجا” تخطيها في “وعي” الذات فحسب – الناشر.

 

([5] ) أسفل الصفحة ممزق. وهناك ثلاثة أو أربعة أسطر ناقصة – الناشر.

([6] ) أنظر “الريع” – الناشر.

([7] ) “ثروة الأمم” – الكتاب الأول الفصل الثاني والثالث (لكنه مقتبس مع بعض الإغفالات ومع نقل بعض النصوص) – الناشر.

([8] ) آدم سميث – المجلد الأول – ص 20 – الناشر.

([9] ) ديستوت دي تراسي: “عناصر الايديولوجيا. بحث عن الإرادة وأثارها” باريس 1826 ص 68 – 78 – الناشر.

([10] ) ساي – المرجع السابق ص 300 وص 76 – وما بعدها – الناشر.

([11] ) في سكاربيك “نظرية الثروات الاجتماعية يتبعها عرض لتطور الاقتصاد السياسي” – الجزء الأول والثاني – باريس 1829 ص 25 وما بعدها – الناشر.

([12] ) “عناصر الاقتصاد السياسي” بقلم جيمس ميل (لندن 1821) ص – 5 – 9 – الناشر.

([13] ) ينتهي هذا القسم من المخطوط الثالث الذي يعد ملحقًا للصفحة رقم 39 من المخطوط الثاني عند هذه النقطة في الجانب الايسر من الصفحة 38. والجانب الأيمن من الصفحة 38 خال. ثم تأتي بعد ذلك المقدمة (ص 39 – ص 40) وفقرة عن النقود (ص 41 – ص 43) – الناشر.

« السابق التالي »