بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المخطوطات الاقتصادية والفلسفية

« السابق التالي »

نقد جدل هيجل وفلسفته ككل

(6) ربما كان هذا هو المكان ([1]) الذي يمكن أن نقدم فيه – كنوع من تفسير وتبرير الأفكار التي عرضناها – بعض التقديرات عن جدل هيجل عمومًا وبشكل خاص عرضه في “الفينومينولوجيا” و”المنطق” ([2]) وكذلك أخيرًا علاقة الحركة النقدية الحديثة به.

لقد كان اهتمام النقد الألماني الحديث بالماضي من القوة، واستغراقه خلال تطوره بموضوعه من الاكتمال، حتى لقد ساد موقف غير انتقادي كلية من منهج النقد، إلى جانب افتقار كامل إلى إدراك السؤال الذي يبدو شكليًا لكنه في الحقيقة سؤال حيوي: أين نقف الآن من جدل هيجل؟ ولقد كان هذا الافتقار إلى إدراك العلاقة بين النقد الحديث وبين الفلسفة الهيجلية بأسرها وبخاصة الجدل الهيجلي كبيرًا إلى حد أن نقادًا مثل شتراوس وبرونو باور ما زالوا كلية في إطار المنطق الهيجلي، الأول، بشكل كامل، والثاني ضمنيًا على الأقل في كتابة عن “الأناجيل المتوافقة” ([3]) (حيث على عكس شتراوس يحل محل جوهر “الطبيعة المجردة” وعي ذات الإنسان المجرد) وحتى في “اكتشاف المسيحية” ([4]). وهكذا نجد مثلاً في “اكتشاف المسيحية”.

“وكان وعي الذات إذ يضم العالم، يضع ما هو مختلف عنه، وهو فيما يضع إنما يضع ذاته، لأنه بدوره يلغي الفارق بين ما وضعه وبين ذاته من حيث أنه هو ذاته لا يوجد إلا في الوضع وفي الحركة – فكيف إذن لا تكون غايته في هذه الحركة؟” إلخ… أو أيضًا “أنهم (الماديون الفرنسيون) لم يستطيعوا بعد أن يروا أنه من خلال حركة وعي الذات وحدها استطاعت حركة الكون أن تصبح فعلاً لذاتها، وحققت الوحدة مع ذاتها”.

ومثل هذه التعبيرات لا تكشف حتى عن اختلاف لفظي مع المعالجة الهيجلية، بل هي بالعكس ترددها كلمة كلمة.

أما عن مدى قلة الوعي بالعلاقة بالجدل الهيجلي أثناء عملية النقد (باور “الأناجيل المتوافقة”)، وقلة تحقق هذا الوعي حتى بعد عملية النقد المادي، فهذا ما يكشف عنه باور حين يستبعد في مؤلفه “خير الحرية” ([5]) – السؤال الوقح الذي طرحه الهر جروب “وماذا عن المنطق الآن؟” بإحالته إلى نقاد المستقبل.

ولكن حتى الآن – الآن وقد طوح فيورباخ من حيث المبدأ سواء في “قضاياه” في (Anecdotis) أو بالتفصيل في “فلسفة المستقبل” – بالجدل والفلسفة القديمين، الآن وقد رأت مدرسة النقد من الناحية الأخرى – وهي العاجزة عن أداء هذه المهمة – قد رأتها مع ذلك تؤدي، وأعلنت نفسها النقد الخالص القاطع المطلق – النقد الذي استبان لنفسه، الآن وقد انتهى هذا النقد – في خيلائه الروحية – بكل عملية التاريخ إلى علاقة بين بقية العالم وبينه (وبقية العالم – في مواجهته – تندرج تحت مقولة “الكتلة”) وأذاب كل التناقضات الدوجماطيقية في تناقض دوجماطيقي واحد هو التناقض بين ذكائه وبين غباء العالم – التناقض بين المسيح النقدي وبين البشرية، الرعاع، الآن أخيرًا وقد أعلن يوم الحساب النقدي في شكل إعلان اقتراب ذلك اليوم الذي ستتجمع فيه كل الإنسانية الفانية أمامه لكي يصنفها إلى مجموعات، ويعطي لكل مجموعة شهادة فقرها، الآن وقد أعلن في كتابات مطبوعة ([6]) سموه على المشاعر الإنسانية فضلاً عن سموه على العالم الذي يجلس فوقه على عرشه في عزلة سامية، ولا تصدر عن شفاهه الساخرة من فترة إلى أخرى إلا الضحكات الرنانة لآلهة الأولمب – الآن بعد كل هذا التهريج الممتع لمثالية محتضرة تحت قناع النقد (أي للهيجلية الفتية) – حتى الآن فإنه لم يعبر عما يوحي بأن الوقت قد حان لتسوية حساب نقدية مع أم الهيجلية الفتية – الجدل الهيجلي – بل (وليس) لديه ما يقوله عن موقفه النقدي من جدل فيورباخ. إنه نقد ليس له إطلاقًا موقف نقدي من ذاته!

وفيورباخ هو الوحيد الذي اتخذ موقفًا جادًا نقديًا من الجدل الهيجلي وتوصل إلى اكتشافات حقيقية في هذا الميدان. إنه في الواقع القاهر الحقيقي للفلسفة القديمة. وإن مدى ما أنجزه، والبساطة غير المدعية التي عرضه بها على العالم، ليقفان في تناقض صارخ مع الموقف المضاد.

وكان إنجاز فيورباخ الكبير هو:

(1) البرهنة على أن الفلسفة ليست إلا الدين مقدمًا في شكل أفكار، ومعروضًا بطريقة مفكرة، وأنها بالتالي ينبغي أن تدان كشكل وأسلوب آخر لوجود اغتراب ماهية الإنسان.

(2) تأسيس المادية الحقيقية والعلم الواقعي لأن فيورباخ كذلك جعل العلاقة الاجتماعية “بين الإنسان والإنسان” المبدأ الأساسي للنظرية.

(3) معارضته لنفي النفي الذي يزعم أنه الإيجابي المطلق، بالإيجابي المستند إلى ذاته، القائم إيجابيًا على ذاته.

ويشرح فيورباخ الجدل الهيجلي (وبهذا يبرر البدء من الإيجابي، من اليقيني الحسي) بالطريقة التالية:

ينطلق هيجل من اغتراب الجوهر (في المنطق، من اللامتناهي (Infinite)، من الكلي المجرد) من التجريد المطلق الثابت، الأمر الذي يعني – بلغة شعبية – أنه ينطلق من الدين واللاهوت.

وثانيًا هو يلغي اللامتناهي، ويقيم الواقعي، الحسي، الحقيقي، المحدود، الخاص (الفلسفة – إلغاء الدين واللاهوت).

وثالثًا هو يلغي ثانية الإيجابي ويعيد المجرد، اللامتناهي – إعادة الدين واللاهوت.

وهكذا لا يتصور فيورباخ نفي النفي إلا كتناقض للفلسفة مع ذاتها – كالفلسفة التي تؤكد اللاهوت (المفارق إلخ….) بعد أن أنكرته، والتي تؤكد من ثم في معارضتها.

أن الإيجاب (Position) أو إثبات الذات (Self-affirmation) وتأكيد الذات (Self-Confirmation) الذي الذي يحويه نفي النفي يعتبر إيجابًا ليس بعد واثقًا من ذاته، ومن ثم مثقلاً بنقيضه، إيجابًا يتشكك في ذاته، ومن ثم فهو في حاجة إلى برهان، وهو إذن ليس إيجابًا يؤكد ذاته بوجوده – ليس إيجابًا يبرر ذاته، ومن هنا فإنه يواجه مباشرة وفورًا إيجاب اليقين الحسي القائم على ذاته ([7]).

ولكن لأن هيجل قد تصور نفي النفي من زاوية العلاقة الإيجابية الكامنة فيه باعتبارها الإيجابي الحقيقي والوحيد، ومن زاوية العلاقة السلبية الكامنة فيه باعتبارها الفعل الحقيقي الوحيد، وفعل تحقق الذات الوحيدي لكل وجود، فإنه لم يجد إلا التعبير المجرد المنطقي النظري لحركة التاريخ، وهذه العملية التاريخية ليست بعد التاريخ الواقعي للإنسان – للإنسان كذات معطاة، وإنما فحسب لفعل توليد الإنسان – قصة نشأة الإنسان. وسنشرح كلاً من الشكل المجرد لهذه العملية، والفارق بين هذه العملية، كما هي عند هيجل في تناقض مع النقد الحديث، أي في تناقض مع نفس العملية في كتاب فيورباخ “Wesen des Crhistentums” (جوهر المسيحية)، أو بالأحرى الشكل النقدي لهذه العملية التي لا تزال غير نقدية عند هيجل.

ولنلق نظرة على المذهب الهيجلي. وينبغي أن يبدأ المرء بفينومونولوجيا هيجل، المنبع الحقيقي للفلسفة الهيجلية وسرها.

 

([1] ) الإشارة هنا إلى القسم الختامي من الجزء الذي يسبق هذه الكلمات مباشرة والذي قدمناه هنا (لأن الفصل الخاص بهيجل الذي وصفه ماركس في المقدمة بأنه “الفصل الختامي” قد وضع في نهاية هذا الكتاب) تحت عنوان “الملكية الخاصة والشيوعية. مختلف مراحل تطور الأفكار الشيوعية، الشيوعية الفجة والشيوعية القائمة على المساواة والشيوعية كاشتراكية تتوافق مع الإنسانية” – الناشر.

([2] ) ج. ف. هيجل “System der Wissenschaft” المجلد الأول “Phanomenologie des Geistes” و”Wissenschaft der Logik” جزءان – 1812 – 1816 – الترجمات الإنجليزية “فينومينولوجيا الروح” ترجمة وتقديم ج. ب بيلي – الطبعة الثانية عام 1931 وأعيد طبعه عام 1949، و”علم المنطق. ترجمة جونستون وستروثرز – في مجلدين (كمبريدج – 1929).

([3] ) برونوباور “Kritik der evangelischen Geschichte der Synoptiker” “نقد الأناجيل المتوافقة” الجزء الأول والثاني – ليبزيج 1841، الجزء الثالث براونسشويج – 1842 وفي الكتابات الأدبية تسمى الأناجيل الثلاثة الأولى بالمتوافقة – الناشر.

([4] ) برونوباور Das Enredeckre Christentum. Eine Erinnerung des Achtzehnten Jahrhundert und eine Beitrag zur krisis des Neunzchnten

“اكتشاف المسيحية: ذكرى القرن الثامن عشر وإسهام حول أزمة القرن التاسع عشر” – زيوريخ وفينتر ثور – 1843.

([5] ) برونوباور

“Die Gute Sache der Freiheit und meine Eigene Angelegenheit”

(خير الحرية وقضيتي) – زيوريخ وفينتر ثور – 1843 – الناشر.

([6] ) الإشارة إلى صحيفة “Allgemeine Literatur – Zeitung”.

([7] ) فيورباخ ينظر إلى نفي النفي – المفهوم المحدد – باعتباره فكرًا يتخطى في الفكر، وفكرًا يريد بشكل مباشر أن يكون إدراكًا، طبيعة، واقعًا (ماركس يشير إلى ملحوظات فيورباخ النقدية عن هيجل في الفقرة 29 – 30 من كتابه “Grundsatze der Philosophie der Zukuntt” – الناشر.

« السابق التالي »