الإرهاب والشيوعية
يروي كاوتسكي: “في 19 آذار، في اللجنة المركزية للحرس القومي، كان البعض يطالب بالزحف على فرساي، والبعض الآخر يطالب بدعوة الناخبين، والبعض الثالث يطالب باللجوء إلى التدابير الثورية، وكأن كل خطوة من هذه الخطوات “كما يبين لنا ذلك مؤلفنا بروح عميقة عظيمة) ليست ضرورية أيضًا وكأن بعضها يستبعد البعض الآخر” (ص 54).
وفي السطور التالية يقدم لنا كاوتسكي، بصدد هذه الاختلافات في قلب الكوميونة، أفكارًا مبتذلة حامية عن العلاقات المتبادلة بين الإصلاحات والثورة. والواقع أن المسألة كانت مطروحة على هذا النحو: إذا كان لا بد من الهجوم على فرساي والقيام بذلك بدون إضاعة ثانية واحدة، فمن الضروري إعادة تنظيم الحرس القومي فورًا، وتسليم قيادته لأكثر العناصر نضالية من البروليتاريا الباريسية، وهذا ما كان سيؤدي إلى أضعاف مؤقت لباريس في وضعها الثوري. لكن تنظيم الانتخابات في باريس وإخراج نخبة من الطبقة العاملة من قلبها، كان أمر لا معنى له من وجهة نظر الحزب الثوري. يقينًا أن الزحف على فرساي والانتخابات في الكوميونة لا يتناقضان البتة نظريًا، لكنهما كانا يتنافيان عمليًا: فلنجاح الانتخابات كان لا بد من أرجاء الزحف على فرساي، ولنجاح هذا الزحف كان لابد من أرجاء الانتخابات. وأخيرًا، فإن البروليتاريا بقيامها بالحملة، كانت ستضعف باريس مؤقتًا، وسيتوجب عند ذاك درء جميع إمكانيات المفاجآت المناهضة للثورة في العاصمة، ذلك أن تيير ما كان ليحجم أمام أي شيء ليشعل خلف رجال الكوميونة حريق الرجعية. كان لا بد إذن من إقامة نظام أكثر عسكرية، أي أشد حزمًا، في العاصمة. كتب لا فروف: “لقد كانوا مرغمين على القتال ضد عدد كبير من الأعداء الداخليين الذين كانوا يربلون في باريس والذين كانوا بالأمس يتمردون في ضواحي البورصة وساحة فاندوم والذين كان لهم ممثلوهم في الحرس القومي ولهم صحافتهم وجمعياتهم، والذين كانوا يجرون الاتصالات في وضح النهار تقريبًا مع قوات فرساي، والذين كانوا يزدادون تصميمًا وجرأة كلما بدرت عن الكوميونة أي غفلة أو فشل” (ص 87). ولقد كان من الضروري أيضًا في الوقت نفسه اتخاذ سلسلة من التدابير الاقتصادية المالية لتلبية حاجات الجيش الثوري قبل كل شيء. إن كل هذه التدابير البالغة الضرورة للديكتاتورية ما كانت لتتفق إلا بصعوبة مع حملة انتخابية واسعة النطاق. لكي كاوتسكي لا يملك أي تفهم لماهية الثورة في الواقع. إنه يعتقد أن المصالحة نظريًا تعني التنفيذ عمليًا.
كانت اللجنة المركزية قد حددت موعد الانتخابات في الكوميونة في 22 آذار، لكنها لما كانت تفتقد إلى الثقة بالنفس وخائفة من لا شرعيتها وتبذل جهدها في التصرف بالانسجام مع مؤسسة أكثر “شرعية”، فقد باشرت المفاوضات، مفاوضات عاجزة ولا متناهية، مع الجمعية المجردة من السلطة ومن عمد ونواب باريس، المستعدة لتقاسم السلطة معها، لا لشيء إلا لمجرد الوصول إلى اتفاق. وهكذا ضاع وقت ثمين.
إن ماركس الذي يحاول كاوتسكي، حسب تقليد قديم، أن يعتمد عليه، لم يقترح، في أي حال من الأحوال، انتخاب الحكوميونة وقذف العمال في الوقت نفسه في حملة عسكرية. لقد كتب ماركس، في رسالته إلى كوجلمان بتاريخ 12 نيسان 1871، إن اللجنة المركزية للحرس القومي قد تخلت عن سلطاتها قبل الأوان لتترك المجال حرًا للكوميونة. إن كاوتسكي حسب تعبيره بالذات “لا يفهم” رأي ماركس هذا إلا أن الأمر بسيط. لقد كان ماركس يفهم على كل الأحوال أن المهمة ليست الراكض وراء الشرعية، بل تسديد ضربة قاتلة إلى العدو. ولو كانت اللجنة المركزية مؤلفة من ثوريين حقيقيين – على حد قول لا فروف الصائب – لكان عليها أن تتصرف بصورة مغايرة تمامًا. فلقد ارتكبت خطيئة لا تغتفر عندما منحت أعداءها فرصة عشرة أيام قبل الانتخابات ودعوة الكوميونة، حتى يتمكنوا من استعادة قواهم في الوقت الذي كان فيه قادة البروليتاريا يتخلون عن مهمتهم ولا يعترفون لأنفسهم بالحق بتوجيه البروليتاريا مباشرة. أن النقص الشامل في أعداد الأحزاب الشعبية قد أنتج لجنة اعتبرت تلك الأيام العشرة من اللا عمل أنها كانت إلزامية.
إن مطامح اللجنة المركزية، الراغبة في تسليم السلطة بأسرع وقت ممكن إلى حكومة “شرعية”، لم تكن تمليها عليها خرافات ديموقراطية شكلية هي متوفرة “أصلاً بل الخوف من المسؤوليات. أن اللجنة المركزية، بحجة أنها مؤسسة مؤقتة، رفضت أن تتخذ أكثر التدابير ضرورة وإلحاحًا، رغم أن كل جهاز السلطة كان مركزًا بين يديها. والحال أن الكوميونة لم تستعد كامل السلطة السياسية من اللجنة المركزية التي تابعت، بدون حرج كبير، تدخلها في الشؤون كافة وكان نتيجة ذلك وكان نتيجة ذلك ثنائية في السلطة بالغة الخطورة، وبخاصة بالنسبة إلى الوضع العسكري.
في 3 أيار، أرسلت اللجنة المركزية إلى الكوميونة مندوبًا طلب إعادة استلام إدارة الوزارة الحربية. ومن جديد – كما يقول ليساغاراي – طرحت هذه المسألة. “هل من المناسب حل اللجنة المركزية أو اعتقالها” أم ينبغي تسليمها إدارة الوزارة الحربية”.
وبصورة عامة، إن المشكلة هنا ليست مشكلة مبادئ الديمقراطية بل حاجة الطرفين إلى برنامج واضح للعمل والرغبة المشتركة، سواء ألدى التنظيم الثوري المطلق المتجسد في اللجنة المركزية أم لدى تنظيم الكوميونة “الديموقراطي”، في إلقاء المسؤوليات على عاتق الطرف الآخر، دونما تخل كامل عن السلطة. إن مثل هذه العلاقات السياسية غير جديرة بالتقليد.
يعزي كاوتسكي نفسه قائلاً:
“لكن اللجنة المركزية لم تحاول قط أن تمس المبدأ الذي ينص على أن السلطة العليا يجب أن تكون بيد المنتخبين عن طريق الانتخاب العام. وحول هذه النقطة بالذات، تتعارض كوميونة باريس تعارضًا واضحًا مع الجمهورية السوفياتية” (ص 55). إن وحدة الإدارة الحكومية لم يكن لها من وجود، وكذلك الجرأة الثورية، بل وجدت ثنائية السلطة وكانت النتيجة انهيار سريعًا ومخيفًا. وبالمقابل أليس هذا عزاء كافيًا؟ – لم يمس “مبدأ” الديمقراطية قط.