بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الإرهاب والشيوعية

« السابق التالي »

22- سلطة السوفييتات والاختصاصيون

يروي كاوتسكي: “لقد اعتقد البلاشفة في البداية أن بمقدورهم الاستغناء عن المثقفين والاختصاصيين” (ص 128). ولما اقتنعوا فيما بعد بضرورة مساهمة المثقفين، كفوا عن انتقامهم القاسي وبدؤوا بدعوة المثقفين إلى العمل بكل الوسائل، وبخاصة عن طريق الأجور العالية. ويقول كاوتسكي ساخرًا: “وهكذا فإن خير طريقة لدعوة المثقفين إلى العمل هي إساءة معاملتهم أولاً بفظاظة” (ص 129). تمامًا. وبالإذن من جميع المحدودي الفكر، فإن ديكتاتورية البروليتاريا تبدأ على وجه التحديد “بإساءة معاملة” الطبقات السائدة في الماضي لترغمها على الاعتراف بالنظام الجديد والإذعان له. ولما كان المثقفون المهنيون قد ترعرعوا على فكرة البورجوازية الفائقة القوة، فقد ظلوا مدة طويلة لا يؤمنون، ولا يستطيعون أن يؤمنوا، ولا يريدون أن يؤمنوا بأن الطبقة العاملة قادرة ومصممة على إدارة البلاد، وبأنها لم تضع يدها على السلطة عرضًا، وبأن ديكتاتورية البروليتاريا حقيقة واقعة. لقد كان المثقفون البورجوازيون ينظرون باستخفاف كبير إلى التزاماتهم تجاه الدولة العمالية حتى عندما يدخلون في خدمتها، ويعتقدون أن من البساطة بمكان في ظل النظام البروليتاري أن يسلموا الإمبرياليين الأجانب أو الحرس الأبيض الأسرار العسكرية والموارد المادية، أو أن يتلقوا مساعدات مالية من ولسون أو كليمانصو أو ميرباخ لتمويل الدعاية المناوئة للسوفييتات. وكان لا بد للبروليتاريا أن تبين لهم بالوقائع – وبحزم – أنها لم تستول على السلطة لتسمح بمثل هذا المزاح المشكوك في هدفه على حسابها.

إن صاحبنا المثالي البورجوازي الصغير يرى في تدابيرنا المتخذة تجاه المثقفين “نتائج سياسة تهدف إلى إرغام المثقفين على الانتماء لا بالإقناع بل بالكلام اللاذع…” (ص 129). إن كاوتسكي يتصور إذن بصورة جدية أنه من الممكن دفع المثقفين إلى المساهمة في البناء الاشتراكي عن طريق الإقناع وحده، وهذا بينما ما تزال تسيطر على كل البلدان الأخرى بورجوازية لا تتراجع أمام استخدام أي وسيلة لتخفيف أو ترشو أو تغري المثقفين الروس كي تجعل منهم أدوات استعباد روسيا واستعمارها.

وبدلاً من أن يحلل كاوتسكي مراحل الصراع، يقدم وصفات مدرسية بصدد المثقفين. إنه لمن الخطأ كليًا الاعتقاد بأن حزبنا قد حاول الاستغناء عن المثقفين لأنه لم يدرك دورهم في عملية إعادة التنظيم الاقتصادي والثقافي التي علينا أن نقوم بها. على العكس فبينما كان النضال من أجل الاستيلاء على السلطة وتوطيدها يبلغ أقصى درجات الحدة، وبينما كانت غالبية المثقفين تلعب دور كتيبة هجوم تحت قيادة البورجوازية، وتحاربنا علنًا أو تخرب مؤسساتنا، كانت سلطة السوفييتات تحارب بلا شفقة “الاختصاصيين” لأنها كانت تدرك قيمتهم التنظيمية الكبيرة ما داموا يكتفون بتأدية المهام التي تعهد بها إليهم إحدى الطبقات الأساسية ولا يرمون إلى أن تكون لهم سياستهم “الديمقراطية” الشخصية. ولم تتح لنا إمكانية دعوة الاختصاصيين إلى العمل إلا بعد أن تحطمت مقاومة المثقفين على إثر صراع ضار. وسرعان ما قمنا بهذه الدعوة. ولم يكن ذلك سهلاً. إذن كانت العلاقات القائمة في المجتمع الرأسمالي بين العامل ومدير المصنع، بين المستخدم والمدير، بين الجندي والضباط، قد خلفت ريبة طبقية عميقة تجاه الاختصاصيين، وهي ريبة قد ازدادت خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية. وكان هؤلاء المثقفون قد استماتوا في محاولة قتل الثورة العمالية بالجوع والبرد، ومهما كلفهم الثمن. وكان لا بد من تهدئة حقد الشغيلة، والانتقال من الصراع المحموم إلى التعاون السلمي، ولم يكن ذلك سهلاً فقد كان على الجماهير العمالية أن تتعود على أن ترى في المهندس المدني والزراعي والضباط، لا مستغل الأمس، بل متعاون اليوم النافع، الاختصاصي الضروري الموضوع تحت تصرف سلطة السوفييتات. ولقد بينا سابقًا كم يخطئ كاوتسكي حين ينسب إلى سلطة السوفييتات نية متمذهبة في استبدال الاختصاصيين بالبروليتاريين. لكن مثل هذا الميل كان لا بد حتمًا أن يتجلى لدى جماهير البروليتاريا الواسعة. إن طبقة فتية أثبتت لنفسها قدرتها على التغلب على أكبر العقبات، وقضت على هالة السحر الصرفي التي كانت تحمي سيادة الذين يملكون، واقتنعت بأن “الفنون الإنسانية ليست من صنع الآلهة”، إن طبقة ثورية كهذه الطبقة تميل بالضرورة – أو على الأقل عناصرها الأقل تطورًا – إلى المبالغة في تقدير قدرتها على حل جميع المسائل بدون اللجوء إلى مساعدة الاختصاصيين البورجوازيين المثقفين.

وفي كل مرة تجلت فيها هذه الميول وإن بصورة غامضة، حاربناها منذ اليوم الأول.

لقد قلنا في مؤتمر موسكو المديني في 28 آذار 1918: “الآن وقد توطدت سلطة السوفييتات، فإن النضال ضد التخريب يجب أن يتجه إلى تحويل مخربي الأمس إلى خدام، إلى وكلاء، إلى مديرين تكنيكيين أينما كان النظام الجديد بحاجة إلى ذلك. وإذا لم ننجح في ذلك، وإذا لم نجذب إلينا كل القوى الضرورية لنا، وإذا لم نضعها في خدمة السوفييتات فإن نضالنا بالأمس ضد التخريب العسكري والثوري سيكون قد فشل وثبت عقمه ولا جدواه”.

“إن هؤلاء التكنيكيين، هؤلاء المهندسين، هؤلاء الأطباء، هؤلاء المدرسين، وضباط الأمس أولئك، يشتملون، كالآلات الجامدة على جزء من رأسمالنا القومي، علينا أن نستثمره ونستفيد منه إذا كنا نريد أن نحل بصورة عامة المشكلات الأساسية المطروحة علينا.

“إن الدمرقطة – وهي ألف باء الأبجدية بالنسبة إلى كل ماركسي لا تقوم على نفي قيمة الكفاءات وقيمة الأشخاص المالكين لمعارف خاصة، وعلى استبدالهم دومًا بمعاهد (مكاتب) منتخبة.

“إن المكاتب المنتخبة، المكونة من خير عناصر الطبقة العاملة لكن التي لا تملك معارف تكنيكية، لا تستطيع أن تحل محل التكنيكي المتخرج من المدارس الخاصة والقادر على القيام بعمل خاص. إن نشر نظام المكاتب المنتخبة الذي نطبقه في كل الميادين، هو رد الفعل الطبيعي لطبقة فتية، ثورية، كانت بالأمس مضطهدة، ترفض السلطة الشخصية لسادتها بالأمس، ولأرباب العمل والمدراء، وتستبدلهم في كل مكان بممثليها المنتخبين. أقول أن هذا رد فعل ثوري وطبيعي تمامًا وسليم في منشأة. لكنه ليس الكلمة الأخيرة في البناء الاقتصادي للدولة البروليتارية.

“إن سيرنا اللاحق يتطلب من المكاتب المنتخبة أن تحد نفسها بنفسها. يتطلب من الطبقة العاملة أن تقوم بعملية تضيق ذاتي وسليم ومفيد لسلطاتها، تمكنها من تقرير الحالات التي يجب أن تعود فيها الكلمة الأخيرة إلى ممثل العمال المنتخب، والحالات التي ينبغي فيها أن يفسح المجال للاختصاصي، للتكنيكي المسلح بمعارف خاصة، والقابل لأن يتحمل مسؤولية كبيرة، لكن الذي لا بد في الوقت نفسه أن يخضع، على الصعيد السياسي، لرقابة مشددة. إلا أنه لا بد أن تترك للاختصاصيين حرية العمل والنشاط الخلاق، ذلك أنه ما من تكنيكي مهما كان قليل الموهبة، يستطيع أن يعمل في مجال اختصاصه إذا كان تابعًا لمكتب مكون من أشخاص معدومي الكفاءة.

“إن الذين يخشون هذه الضرورة يدللون على ريبة لا شعورية عميقة تجاه النظام السوفياتي. والذين يتصورون أننا، بعهدنا بالمناصب الفنية إلى مخربي الأمس، نعرض للخطر مقومات النظام بالذات، ينسون إن ما من مهندس وما من جنرال يستطيع أن يطوح بالنظام السوفياتي غير القابل للزعزعة اقتصاديًا وسياسيًا – هذا النظام الذي لا يمكن أن يتعثر إلا إذا عجز من نفسه عن حل مشكلات التنظيم الخلاق.

“إن من الضروري لنظامنا أن يستخلص من المؤسسات القديمة كل ما هو حي وثمين فيها، وأن يستخدم كل شيء من أجل البناء الجديد.

“وإذا لم نفعل ذلك. أيها الرفاق، فإننا لن نكون قد قمنا بمهامنا الأساسية، لأنه يستحيل علينا أن نرفض كل القوى المتراكمة في الماضي وأن نجد في وسطنا جميع الاختصاصيين الضروريين.

“وبكلمة واحدة، هذا يعني أننا نستنكف عن الاستفادة من جميع الآلات التي ساهمت حتى الآن في استغلال الشغيلة، وأن هذا لجنون. إن تشغيل الاختصاصيين الأكفاء لا يقل ضرورة بالنسبة لنا عن استملاك جميع وسائل الإنتاج والنقل، وبصورة عامة جميع ثروات البلاد. إن علينا – وبدون تأخير – أن نجند التكنيكيين الاختصاصيين وأن نخضعهم عمليًا لالتزام العمل، مقدمين لهم في الوقت نفسه مجالاً واسعًا للنشاط وفارضين عليهم الرقابة السياسية ( )”.

لقد انطرحت مسألة الاختصاصيين، منذ البداية بصورة بالغة الحدة في الميدان العسكري. وإنما في هذا الميدان حلت في البداية تحت ضغط ضرورة آسرة.

إن أشكال التنظيم الضرورية لإدارة الصناعة ووسائط النقل، لم تكتمل بعد نهائيًا إلى يومنا هذا. والسبب في ذلك يرجع إلى أننا أرغمنا في العامين الأولين، على التضحية بمصالح الصناعة والنقل لحساب الدفاع العسكري. وأن مجرى الحرب الأهلية المتقلب كان من جهة أخرى، عليه أمام علاقات طبيعية بين الاختصاصيين والسلطة السوفياتية. فلقد انضم التكنيكيون الاختصاصيون في الصناعة والنقل والأطباء والمدرسون والأساتذة إلى جيوش دينيكين وكولتشاك المتقهقرة، أو اقتيدوا بالقوة. ولم يتصالح المثقفون بمجموعهم مع السلطة السوفياتية أو لم يخضعوا أمامها إلا اليوم والحرب الأهلية تقارب نهايتها. وتأتي المشكلات الاقتصادية في الطليعة. والتنظيم العلمي للإنتاج من أهم هذه المشكلات. وأن مجالاً واسعًا للنشاط ينفتح أمام الاختصاصيين. والإدارة العامة للصناعة تتركز بين يدي الحزب البروليتاري.
——
(15) : “العمل والانضباط والنظام سننقذ جمهورية السوفييتات الاشتراكية”. موسكو 1918. إن كاوتسكي يعرف هذا المنشور الذي يستشهد به مرارًا عديدة إلا أن هذا لا يمنعه من إغفال المقاطع التي ذكرناها والتي توضح موقف سلطة السوفييتات تجاه المثقفين.

« السابق التالي »