بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الإرهاب والشيوعية

« السابق التالي »

30- القيادة الجماعية والقيادة الشخصية

إن المنشفيك يغامرون أيضًا على مسألة أخرى. مسألة تبدو وكأنها تتيح لهم الفرصة للتقرب من جديد من الطبقة العاملة. إننا نريد أن نتكلم عن شكل قيادة المشاريع الصناعية: أقيادة جماعية أم شخصية؟ يقال لنا أن تسليم المصانع إلى مدير واحد بدلاً من مكتب جريمة ضد الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية. وأنه لمن المدهش على كل الأحوال أن أشد المتحمسين دفاعًا عن الثورة الاشتراكية ضد النظام المعتمد على الشخص الواحد هم أولئك المنشفيك أنفسهم الذين كانوا، إلى عهد قريب، يعتبرون الكلام عن الثورة الاشتراكية سخرية من التاريخ وجريمة بحق الطبقة العاملة.

وبموجب هذا المنطق فإن مؤتمر حزبنا الشيوعي مذنب كبير تجاه الثورة الاشتراكية، لأنه أعلن تأييده لعودة نظام الشخص الواحد في قيادة الصناعة، وقبل كل شيء في المصانع والمعامل. إلا أنه من الخطأ الكبير أن نعتبر أن هذا القرار يمكن أن يلحق ضررًا بنشاط الطبقة العاملة. إن نشاط الشغيلة لا يتحدد ولا يقاس بكون المصنع مدارًا من قبل ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل بعوامل ووقائع أهم شأنًا وأعمق بكثير: بإنشاء الأجهزة الاقتصادية مع مساهمة النقابات الإيجابية، وبإنشاء جميع الأجهزة السوفياتية التي تتكون منها مؤتمرات السوفييتات والتي تمثل عشرات الملايين من الشغيلة؛ وبدعوة العمال إلى المساهمة في القيادة (أو الإشراف على القيادة). وإنما في هذا يكمن نشاط الطبقة العاملة. وإذا ما توصلت الطبقة العاملة، خلال تجربتها الخاصة، بواسطة أجهزة مؤتمرات الحزب والسوفييتات والنقابات، إلى الاستنتاج بأنه من الأفضل أن يتولى إدارة المصنع مدير واحد بدلاً من مكتب جماعي، فهذا قرار أملاه عليها نشاطها. وقد يكون صحيحًا أو خاطئًا من وجهة نظر التكنيك الإداري. لكن ما من أحد يفرضه، في أي حال من الأحوال، على البروليتاريا. إنما تمليه عليها إرادتها الخاصة. وأنه لمن الخطأ الفادح أن نخلط مسألة سلطة البروليتاريا مع سلطة المكاتب العمالية التي تسير المصانع. إن ديكتاتورية البروليتاريا تعبر عن نفسها بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وسيطرة إرادة الجماهير الجماعية على كل الآلة السوفياتية، لا بأشكال إدارة المشاريع المختلفة.

وقبل أن نمضي إلى أبعد من ذلك، لنفند ههنا تهمة أخرى موجهة إلى أنصار إدارة الشخص الواحد. إن الخصوم يعلنون: إنهم العسكريون السوفياتيون الذين يحاولون أن ينقلوا تجدربتهم من الميدان العسكري إلى الميدان الاقتصادي. ومن الممكن أن يكون مبدأ إدارة الشخص الواحد ممتازًا في الجيش، لكنه لا يساوي شيئًا في الاقتصاد. إن هذا التوكيد خاطئ من كل الجوانب فليس صحيحًا البتة أولاً أننا بدأنا في الجيش تطبيق نظام الشخص الواحد. ونن لم نطبقه فيه بشكل تام حتى هذه الساعة. ومن الخطأ أيضًا التأكيد بأننا لم نبدأ بالدفاع عن أشكال إدارة الشخص الواحد معه مساهمة الاختصاصيين في المشاريع الاقتصادية إلا اعتمادًا على تجربتنا العسكرية. والواقع أننا انطلقنا وننطلق في هذه المسألة من مفهوم ماركسي خالص للمشكلات الثورية ولمهام البروليتاريا حين تستولي على السلطة.

لقد فهمنا، لا منذ بداية الثورة بل قبل تشرين الأول بمدة طويلة، ضرورة الاستفادة من معارف وتجارب الماضي التكنيكية، وضرورة استدعاء الاختصاصيين واستخدامهم على أوسع نطاق ممكن، حتى لا يتراجع التكنيك إلى الوراء بل يتابع تقدمه. وأنني لأفترض أننا كنا سنسير بصورة أعجل وبدون ألم في طريق نظام الشخص الواحد في الإدارة الاقتصادية، لو لم تخرب الحرب الأهلية أجهزتنا الاقتصادية فتحرمها من كل هو حيوي فيها، وبالتالي من المبادهة والنشاط.

إن بعض الرفاق يعتبرون أن جهاز الإدارة الاقتصادية هو قبل كل شيء مدرسة. وهذا خاطئ كل الخطأ. إن مهمة أجهزة الإدارة هي القيادة. ومن يشعر في نفسه الرغبة والقدرة على القيادة فليذهب إلى المدارس، ليحضر دروس المعلمين الخاصة ويعمل كمساعد لهم، كيما يراقب ويكتسب خبرة. لكن من يستدعي إلى إدارة مصنع من المصانع، فإنه لا يأتي ليتعلم بل ليشغل منصبًا إداريًا واقتصاديًا له مسؤولياته. لكن إذا ما نظرنا إلى هذه المسألة من الزاوية الضيقة الخاطئة، من زاوية “المدرسة” فإنني سأقول أن نظام الشخص الواحد يمثل مدرسة أفضل بعشر مرات. وبالفعل إذا كان يستحيل عليكم أن تستبدلوا شغيلاً صالحًا بثلاثة آخرين ليسوا أكفاء بما فيه الكفاية، وإذا شكلتم مع ذلك مكتبًا منهم تعهدون إليه بوظائف هامة في الإدارة، فإنكم تضعونهم بذلك في موضع يستحيل معهم عليه أن يدركوا ما ينقصهم. إن كلاً منهم يعتمد على الآخرين عند اتخاذ قرار من القرارات، وفي حال الفشل يلقون المسؤولية على بعضهم البعض.

أما أن هذه المسألة ليست مسألة مبدئية، فهذا ما يثبته خصوم نظام الشخص الواحد علنًا، باعتبار أنهم لا يطالبون بنظام المكاتب الجماعية للورشات والتعاونيات والمناجم. بل أنهم يذهبون إلى حد القول أنه من الجنون المطالبة بأن يدير ورشة من الورشات ثلاثة أو خمسة أشخاص: فهم يرون أن الإدارة ينبغي أن تكون في يد مدير مهني. لماذا؟ إذا كانت الإدارة الجماعية مدرسة، فلماذا لا نقبل أيضًا بمدرسة ابتدائية مماثلة؟ لماذا لا ندخل الإدارة الجماعية إلى الورشات أيضًا؟ لكن إذا لم يكن نظام المكاتب شرطًا ضروريًا للورشات، فلم يكون ضروريًا للمصانع؟

لقد قال آبرامو فيتش هنا أنه ما دامت روسيا تفتقر إلى الاختصاصيين – ويزعم بدوره بعد كاوتسكي أن هذه غلطة البلاشفة – فمن الضروري استبدالهم بمكاتب عمالية. إن هذه لسذاجات خالصة. إن ما من مكتب مؤلف من أشخاص يجهلون المهنة، يستطيع أن يحل محل رجل كفؤ. إن جماعة – أو مكتبًا – من الحقوقيين لا تستطيع أن تحل محل مستخدم التحويل في السكك الحديدية. وإن جماعة – أو مكتبًا – من المرضى لا تستطيع أن تحل محل طبيب. إن الفكرة نفسها خاطئة. إن المكتب لا يستطيع أن يعلم الجاهل شيئًا من تلقاء نفسه. إنه لا يستطيع إلا أن يخفي جهله. وإذا عهد إلى شخص بمنصب إداري هام، فستتاح له الإمكانية ليرى بوضوح، لا لدى الآخرين فحسب بل لدى نفسه أيضًا، ما يعرفه وما يجهله. لكن لا شيء أسوأ من مكاتب جاهل، مؤلف من شغيلة لم يهيئوا للوظيفة المعهود بها إليهم والتي تتطلب معارف خاصة. إن أعضاءه سيكونون بالتالي محتارين دومًا ومستائين من بعضهم البعض، وهذا ما سيزرع الفوضى في عملهم. إن الطبقة العاملة تهتم اهتمامًا عميقًا بتوسيع قدراتها على القيادة، أي بالتثقف. لكنها لا تستطيع أن تنجح في الميدان الصناعي إلا إذا كانت الإدارة تتناول بنشاطها كل جهاز المصنع، وتستفيد من هذه الفرص لتخضع للمناقشة خطة العمل الاقتصادية السنوية أو الشهرية. إن جميع العمال الذين يهتمون اهتمامًا جديًا بمسألة التنظيم الصناعي يلاحظون من قبل مدراء المشروع أو من قبل اللجان، ويرسلون لتلقي دروس خاصة وثيقة الارتباط بالعمل التطبيقي في المصنع نفسه. ويعينون فيما بعد في مناصب ثانوية الأهمية، لرفعهم من ثم إلى وظائف أهم. هكذا دربنا الآلاف وسندرب أيضًا عشرات الآلاف.

إن مسألة الإدارة من قبل ثلاثة أو خمسة أشخاص لا تهم الجماهير العاملة، بل البيروقراطية العمالية السوفياتية الأكثر تخلفًا والأضعف والأقل قدرة على العمل المستقل. إن المدير المتقدم، الحازم والواعي، يميل بالطبع إلى أن يأخذ بلين يديه المصنع كله، ويثبت بالتالي لنفسه وللآخرين أنه قادر على الإدارة. لكن إذا كان المدير ضعيفًا، فإنه سيسعى إلى الاتحاد مع آخرين حتى يخفي ضعفه. إن نظام المكاتب الجماعية كثير الأخطار بسبب اختفاء المسؤولية الشخصية فيه. وإذا كان العامل قادرًا لكن قليل التجربة، فإنه بحاجة إلى مدير. وهو سيكتسب، تحت إدارته، المعارف التي تنقصه، وسنستطيع في الغد أن نجعل منه بدوره مدير مصنع صغير. هكذا سيشق طريقه. لكن إذا ما حدث له أن وقع في مكتب جماعي لا تتجلى فيه قوة كل فرد أو ضعفه بصورة واضحة، فإن شعوره بالمسوؤلية سيتلاشى حتمًا.

بديهي أن قرارنا لا ينص على الاعتماد الدائم الإجباري على إدارة الشخص الواحد المعين بضربة قلم. فثمة مجال للكثير من التركيبات والفروق. فحين يستطيع العامل أن يصل إلى مستوى جدير بمهمته، فإننا سنجعل منه مدير المصنع مضيفين إليه مساعدًا اختصاصيًا. وإذا كان الاختصاصي رجلاً ذا قيمة، فإنه هو الذي سنعينه مديرًا مضيفين إليه اثنين أو ثلاثة من العمال المساعدين. وإذا ما أثبت المكتب الجماعي أخيرًا قدرته على العمل، فإننا سنحتفظ به. وتلك هي الصورة الجديدة الوحيدة في فهم المسألة، ولن نستطيع بأي طريقة غيرها أن نتوصل إلى التنظيم النظامي للإنتاج.

هناك أيضًا اعتبار آخر ذو طابع اجتماعي وتربوي يبدو لي هامًا للغاية. إن النخبة القيادية من الطبقة العاملة في روسيا قليلة العدد. ولقد عرفت هذه النخبة العمل السياسي اللا مشروع. وخاضوا النضال الثوري مدة طويلة من الزمن. ولقد أقامت في بلدان أجنبية. ولقد قرأت كثيرًا في السجون والمنفى، واكتسبت خبرة سياسية جيدة وسعة أفق في وجهات النظر. إنها تمثل زهرة الطبقة العاملة. ويقف خلفها الجيل الفني الذي ساهم عن وعي في الثورة منذ 1917. وأينما وجهنا أبصارنا – إلى البناء السوفياتي، إلى النقابات، إلى عمل الحزب، إلى جبهة الحرب الأهلية – وجدنا دومًا أن الدور القيادي إنما تلعبه نخبة من البروليتاريا هذه. لقد كان العمل الحكومي الرئيسي للسلطة السوفياتية، خلال العامين ونصف العام المنصرمين، يقوم على المناورة بتوجيه هذه النسب من الشغيلة من جبهة إلى أخرى. وأن الفصائل الأعمق من الطبقة العاملة، ذات الأصل الفلاحي، ما تزال فقيرة بالمبادهة، رغم روحها الثورية. فمم يشكو فلاحنا الروسي الموجيك؟ من داء القطيع، من غياب القومية، أي على وجه التحديد مما تغني به أصحابنا النارودينك الروجعيون. ومما مجده تولستوي في شخص أفلاطون كاراتاييف: فالفلاح ينحل في جماعته ويخضع للأرض. وواضح أن الاقتصاد الاشتراكي لا يقوم على أمثال أفلاطون كاراتاييف، بل على الشغيلة الذين يفكرون، المتمتعين بروح المبادهة والواعين لمسؤولياتهم. إن علينا أن نطور روح المبادهة بأي ثمن لدى العامل. إن صفة البورجوازية الأساسية هي المذهب الفردي الشرء وروح المنافسة. أما الصفة الأساسية للطبقة العاملة فليست متنافية مع التضامن والتعاون الأخوي. إن التضامن الاشتراكي لا يمكن أن يقوم على غياب كل فردية وعلى اللا وعي الحيواني. وإنما غياب الفردية هذا هو الذي يختفي على وجه التحديد واء نظام المكاتب والإدارة الجماعية.

« السابق التالي »