حول الفاشية
إيطاليا: كيف انتصر موسوليني [12]
في الوقت الذي لا تعود تكفي فيه الوسائل البوليسية والعسكرية «العادية» للديكتاتورية البرجوازية، بالإضافة إلى الواجهات البرلمانية، لإبقاء المجتمع في حالة توازن –يبدأ دور النظام الفاشي. تقوم الرأسمالية، من خلال الأداة الفاشية، بتحريك جماهير البرجوازية الصغيرة المهتاجة وزمر البروليتاريا الرثة المنحطة والمحبطة- الأعداد التي لا تحصى من البشر الذين أوصلهم الرأسمال المالي ذاته إلى اليأس وحالة السعار. إن البرجوازية تطلب من الفاشية وظيفة شاملة، فعندما تلجأ إلى وسائل الحرب الأهلية تصر على تأمين السلام (الإجتماعي) لسنوات. والأداة الفاشية باستعمالها البرجوازية الصغيرة كبش قتال وبسحقها جميع المعوقات في طريقها، إنما تقوم بوظيفة شاملة. وبعد أن تنتصر الفاشية تجمع في يديها، كملزمة فولاذ، بشكل مباشر وفوري، جميع أجهزة ومؤسسات السلطة العليا والسلطة التنفيذية والإدارية والتعليمية للدولة: مجمل جهاز الدولة مع الجيش والبلديات والجامعات والمدارس والصحافة والنقابات والتعاونيات.. وعندما تصبح الدولة فاشية، ذلك لا يعني أنه ستتغير فقط أشكال وأساليب الحكومة وفقا للنمط الموضوع من قبل موسوليني- إن المتغيرات في هذا الحقل هي في الأخير ذات أهمية ثانوية، لكنها تعني قبل كل شيء وفي أغلب الأحوال أن منظمات العمال قد أبيدت، وأن البروليتاريا قد أختزلت إلى حالة هلامية غير متماسكة، وأنه تم تشكيل نظام إداري متغلغل بعمق بين الجماهير يمنع أي تبلور مستقل للبرولبتاريا. هنا بالضبط يكمن لب الفاشية..
كانت الفاشية الإيطالية النتيجة المباشرة لخيانة الإصلاحيين للانتفاضة البروليتارية الإيطالية. فمنذ انتهاء الحرب (الحرب الأولى) كان هناك ميل صاعد للحركة الثورية في إيطاليا، أدى في سبتمبر/(أيلول) 1920 إلى الاستيلاء على المصانع والصناعات من قبل العمال. كانت ديكتاتورية البروليتاريا حقيقة فعلية، كل ما كان ينقصها هو تنظيمها واستخلاص جميع الاستنتاجات الضرورية منها. لكن الاشتراكية الديموقراطية ارتعبت وتراجعت. ووقفت البروليتاريا تواجه الفراغ، بعد مجهودها المقدام و البطولي. وبات تمزق الحركة الثورية العامل الأكثر أهمية في نمو الفاشية ففي شهر شتنبر/(أيلول وصل التقدم الثوري إلى نقطة جمود، وفي شهر ديسمبر/كانون الأول) كانت أول مظاهرة رئيسية للفاشية (السيطرة على مدينة بولونيا).
صحيح أن البروليتاريا، حتى بعد كارثة سبتمبر/(أيلول)، كان بمقدورها أن تشن معارك دفاعية. لكن الاشتراكيين الديموقراطيين فكروا بشيء واحد فقط –كيف يسحبون العمال من تحت نيران الهجوم لقاء تنازل تلو الآخر. فقد أملوا أن يضع تصرف العمال الطّيع «الرأي العام» البرجوازي في مواجهة الفاشية. والأكثر من ذلك أنهم اتكلوا كثيرا على مساعدة الملك فيكتور عمانوئيل الثالث. ولغاية آخر ساعة منعوا العمال بكل قوتهم من قتال عصابات موسوليني. إلاّ أن ذلك لم ينفعهم شيئا. فالتاج انتقل مع الشريحة العليا من البرجوازية إلى جانب الفاشية. وعندما رأى الاشتراكيون الديموقراطيون في اللحظة الأخيرة أن الفاشية لا يمكن كبحها بواسطة تصرفات طيعة، قاموا بدعوة العمال لإضراب عام، إلاّ أن دعوتهم واجهت إخفاقا تاما. لقد رطبوا البارود لئلا ينفجر، وعندما قاموا أخيرا بوضع فتيل مشتعل بيد مرتجفة لم يحترق البارود.
بعد سنتين من إنطلاق الفاشية كانت في السلطة واستطاعت ترسيخ نفسها بفضل واقع أن الفترة الأولى من سيطرتها تلاقت مع فترة ازدهار اقتصادي أعقب ركود سنة 21-1922. لقد حطم الفاشيون البروليتاريا المتراجعة بالقوى الهجومية للبورجوازية الصغيرة، وذلك لم يتم بضربة واحدة. فحتى بعد استلام السلطة واصل موسوليني سيره باحتراس شديد: لقد كان يفتقر لنماذج جاهزة. فخلال السنتين الأوليين لم يتم حتى تعديل الدستور. و اتخذت الحكومة الفاشية طابع حكومة ائتلافية، في الوقت نفسه الذي كانت العصابات الفاشية منشغلة فيه باستعمال الهراوات والسكاكين والمسدسات. إنه فقط بشكل تدريجي انبثق إلى الوجود ذلك النظام الفاشي الذي تضمن اللجم التام لجميع المنظمات الجماهيرية المستقلة.
لقد أحرز موسوليني ذلك على حساب تبقرط الحزب الفاشي نفسه. فبعد استخدامه للقوة الضاربة للبورجوازية الصغيرة، قام بخنقها في ملزمة الدولة البورجوازية. لم يكن يستطيع أن يفعل غير ذلك، حيث أن الأوهام التي أشاعها لدى الجماهير بدأت تصبح بشكل متسارع الخطر الأكثر راهنية الماثل أمامه. فما أن تصبح الفاشية بيروقراطية حتى تتماثل بشكل وثيق مع الأشكال الأخرى من الديكتاتورية العسكرية والبوليسية. إذاك لا تعود تملك دعمها الاجتماعي السابق، حيث أن الاحتياطي الرئيسي للفاشية –البورجوازية الصغيرة- يستنفد. إن القصور الذاتي التاريخي هو وحده الذي يمكن الحكومة الفاشية من إبقاء البروليتاريا في حالة من التشتت والعجز.
ألمانيا: صعود الهتلرية
إن الفقرة الموجزة جدا، الواردة أدناه، حول الشروط المسبقة التاريخية للفاشية قد اقتطعت من آخر مقال كتبه تروتسكي مباشرة قبل مصرعه على يد قاتل ستاليني مأجور في غشت/(آب) 1940. (تم تدوينه من نص مسجل على الدكتافون) إن هذه الفقرة الموجزة تتضمن خلاصة التجربة السياسية الأوروبية بين حربين عالميتين.
لقد مرت ألمانيا في عهد جمهورية فايمر في الـ«الدورة» (التي يصفها تروتسكي) لغاية شروع النازية بمسيرتها نحو السلطة في سيرورة مواجهة لخلفيات أزمة سنة 1929 العالمية. فالحركة العمالية الألمانية، أكبر حركة عمالية في أوروبا، كانت منقسمة بين الاشتراكيين الديموقراطيين والشيوعيين. وقد ألح تروتسكي على أن تتم مواجهة الهجوم النازي بالقوة الموحدة لمجمل الطبقة العاملة وبالتالي للحزبين الاشتراكي-الديموقراطي والشيوعي والنقابات الإصلاحية والشيوعية. إن سياسة «الجبهة الموحدة» هذه قد ثم رفضها من قبل الزعماء الاشتراكيين الديموقراطيين من جهة والزعماء الشيوعيين من جهة أخرى. وقد اعتبر الأخيرون، مع ستالين، بأن النازيين والاشتراكيين الديموقراطيين (أو «الاشتراكيين الفاشيين») يجب أن ينظر إليهم ليس كأخصام بل «كتوأمين». والأكثر من ذلك أن ستالين والزعيم الشيوعي الألماني ارنست ثالمان قد أمرا الشيوعيين بالتصويت مع النازية عندما حاولوا تجريد الحكومة الاشتراكية الديموقراطية في بروسيا من حقوقها من خلال استفتاء في صيف 1930. وبدون كلل، حذر تروتسكي من الانجراف الأعمى نحو الكارثة. فقد توقع أن النازية في السلطة ستسحق الحركة العمالية الألمانية بمجملها وتطلق العنان لحرب عالمية، كما ستقوم بالهجوم على الاتحاد السوفياتي. ولقد ردت عليه الصحافة الشيوعية بإدانته كـ«شريك للاشتراكيين الفاشيين» و«تاجر مذعور» و«مغامر» و«عميل للرأسمالية الألمانية»، والخ. وفي أوائل عام 1933 استولى هتلر على السلطة دون أن يواجه مقاومة جدية، وبدأت مأساة ألمانيا تحت الصليب المعقوف تتوضح تدريجيا.
إن المختارات التالية تتناول الظواهر المختلفة لتلك التطورات. والمقتطف الثاني مأخوذ من المدخل إلى ماذا بعد؟. وكالمقتطف الثالث المأخوذ من ما هي الفاشية؟، تمت كتابته سنة 1932. أمّا النص الرابع المكتوب في يونيو/(حزيران) 1933 فيتضمن ربما أعمق تحليل لتروتسكي عن الهتلرية وتوقعا للحرب العالمية الثانية.