عويل وبكاء على كرونشتاد
إن الثورة ” تصنعها ” بشكل مباشر أقلية. غير أن نجاح ثورة ممكن فقط حيث تجد هذه الأقلية دعما بهذا القدر أو ذاك أو على الأقل حيادا محبذا من قبل الأغلبية. وان الانعطاف في مراحل مختلفة من الصورة كالانتقال من الثورة الى الثورة المضادة تحدده مباشرة العلاقات السياسية المتغيرة بين الأقلية والأغلبية، بين الطليعة والطبقة.
كان بين بحارة كرونشتاد ثلاث شرائح سياسية : الثوريون البروليتاريون، وبعضهم قد عرف ماضيا وتجربة هامين، والأغلبية الوسطية وهي فلاحية الأصل بشكل رئيسي، وأخيرا الرجعيون أبناء الكولاك وأصحاب الدكاكين والكهنة. وفي أيام القيصرية لم يكن بالإمكان فرض النظام على البوارج البحرية وفي الحصن إلا بقدر ما كان الضباط، بعملهم من خلال الفئات الرجعية من الضباط الصغار والبحارة، يخضعون الشريحة الوسطية الواسعة لنفوذهم أو إرهابهم، عازلين بذالك الثوريين وخاصة الميكانيكيين وجنود المدفعية والكهربائيين أي عمال المدينة بصورة أساسية.
كان مجرى الانتفاضة على بارجة بوتمكين الحربية في عام 1905 مبنيا كليا على العلاقات بين هذه الشرائح الثلاث أي على الصراع بين الطرفين البروليتاري والبورجوازي الصغير الرجعي من أجل النفوذ على الشريحة الفلاحية الوسطية الأكثر عددا. والأحرى بمن لم يفهم هذه المسألة التي تخص الحركة الثورية في الأسطول ألا يتكلم عن مشاكل الثورة الروسية عامة. وذالك لأنها كانت بأكملها ولا تزال إلى حد بعيد صراعا بين البرورليتاريا والبرجوازية من أجل النفوذ على الفلاحين. فخلال الفترة السوفياتية ظهرت البرجوازية بصورة رئيسية بمظهر الكولاك (أي الشريحة العليا من البرجوازية الصغيرة ) والانتليجنسيا [5] الاشتراكية والآن بشكل البيروقراطية ” الشيوعية”. هذه هي الآلية الأساسية للثورة في كل مراحلها. وقد أخذت في الأسطول طابعا أكثر مركزية وبالتالي أكثر مأساوية.
إن التركيب السياسي لسوفيت كرونشتاد عكس تركيب الحامية والبحارة. وكانت قيادة السوفيتيات تنتمي منذ صيف 1917 إلى الحزب البلشفي الذي ارتكز على أفضل قطاعات البحارة وضم في صفوفه ثوريين عديدين من الحركة السرية تم تحريرهم من سجون الأشغال الشاقة.لكن حسبما اذكر، شكل البلاشفة أقل من نصف سوفيتات كرونشتاد، حتى في أيام انتفاضة أكتوبر. فالأغلبية كانت من الاشتراكيين –الثوريين والفوضويين. ولم يكن في كرونشتاد مناشفة إطلاقا. وكان الحزب المنشفي يكره كرونشتاد، ولم يكن موقف الاشتراكيين- الثوريين الرسميين بأفضل منه. فلم يلب الاشتراكيون-الثوريون في كرونشتاد إن انتقلوا إلى معارضة كيرنسكي وشكلوا إحدى الكتائب الصدامية لما يسمى بالاشتراكيين –الثوريين “اليساريين”. واستندوا إلى القسم ألفلاحي من الأسطول ومن حامية الشاطئ. أما فيما يخص الفوضويين فقد كانوا الجماعة الأقل تجانسا. وكان بينهم ثوريون حقيقيون أمثال دجوك ودجيليز نياكوف غير أن هؤلاء كانوا العناصر الأوثق ارتباطا بالبلاشفة. وقد مثل معظم “فوضويي” كرونشتاد البرجوازية الصغيرة المدينة وكان مستوى ثوريتهم أدنى من مستوى الاشتراكيين-الثوريين. أما رئيس السوفيتات فكان رجلا غير حزبي “مؤازرا للفوضويين” وهو في جوهره موظف صغير مسالم كان آنفا خاضعا للسلطات القيصرية وأصبح ألان خاضعا… للثورة. ان غياب المناشفة التام والطابع “اليساري” للاشتراكيين – الثوريين وصبغة البرجوازيين الصغار الفوضوية كان مردها الى حدة الصراع الثوري في الأسطول والنفوذ المهيمن للفئات البروليتارية من البحارة.