عويل وبكاء على كرونشتاد
إن المشكلة التي تواجه الباحث الجدي تكمن في تحديد الطابع الاجتماعي والسياسي لتمرد كرونشتاد ومكانته في تطور الثورة، على أساس الظروف الموضوعية. وبدون ذالك يصبح “النقد” مجرد نواح عاطفي من النوع المسالم بروحية الكسندر بركمان وايما غولدمان وآخر مقلديهما. إن هؤلاء الكرام ليس لديهم أدني فهم لمقاييس البحث العلمي وطرقه. ويستشهدون بتصريحات المنتفضين كما يستشهد الواعظون الأتقياء بالكتابات المقدسة. وعلاوة على ذالك يشتكون أنني لا أخد بعين الاعتبار “الوثائق” أي إنجيل ماخنو [8] والرسل الآخرين. إن أخذ الوثائق بـ “عين الاعتبار” لا يعني أخذها على قيمتها الظاهرة. قال ماركس أنه يستحيل الحكم على الأحزاب أو الناس بناء على ما تقول على أنفسها. إن ميزات حزب يحددها تركيبه الاجتماعي وماضيه وعلاقته بطبقات وشرائح مختلفة أكثر بكثير مما تحددها تصريحاته الشفهية والمكتوبة، خاصة خلال ظرف حرب أهلية عصيبة، وإذا عمدنا على سبيل المثال إلى تصديق التصريحات التي لا تحصى الصادرة عن نغرين وكومبانيس وغارسيا أوليفر وشركائهم [9 ]، لتوجب علينا اعتبار هؤلاء السادة أصدقاء الاشتراكية المخلصين، لكنه في الواقع أعداؤها اللدودون.
في عامي 1917 و1918 قاد العمال الثوريون الجماهير الفلاحية ليس في الأسطول فحسب، بل في البلاد بأكملها. واستولى الفلاحون على الأراضي وقسموها غالب الأحيان تحت قيادة الجنود والبحارة عند عودتهم إلى مقاطعاتهم الأصلية. وكانت مصادرات الخبز قد بدأت توا وطالت بصورة رئيسية الملاكين الكبار والكولاك في ذلك الحين. وقد قبل الفلاحون بالمصادرات كشر مؤقت غير أن الحرب الأهلية طالت ثلاث سنوات ولم تعط المدينة شيئا عمليا تقريبا للقرية وأخذت بالمقابل تقريبا كل شيء منها لحاجات الحرب بصورة رئيسية. وتقبل الفلاحون “البلاشفة” لكنهم أصبحوا بصورة متزايدة معاديين لـ “الشيوعيين”. وإذا كان العمال في المرحلة السابقة قد قادوا الفلاحين إلى الأمام، فقد أصبح الفلاحون الآن يجرون العمال إلى الوراء. وبسبب التبدل في الموقف فقط تمكن البيض جزئيا من ان يجتذبوا الفلاحين وحتى أنصاف الفلاحين ـ أنصاف العمال في الأورال إلى جانبهم، وغذى هذا الموقف، أي العداء للمدينة، حركة ماخو الذي استولى على القطارات المرسلة إلى المصانع والمعامل والجيش الأحمر وسلبها وخرب السكك الحديدية وقتل الشيوعيين إلخ. طبعا سمى ماخنو ذلك بالنضال الفوضوي ضد “الدولة”. أما في الواقع فقد كان هذا نضال أصحاب الملكيو الصغيرة المغتاظين ضد الديكتاتورية البروليتارية. وقد قامت حركة مماثلة في عدد من المقاطعات الأخرى وخاصة في تامبوفسكي تحت راية “الاشتراكيين ـ الثوريين”. وأخيرا كانت تنشط في أنحاء مختلفة من البلاد فصائل فلاحيه مسماة بـ “الخضراء”. وكانت ترفض الاعتراف بالحمر وبالبيض على حد سواء وابتعدت على أحزاب المدينة. إن “الخضر” قد اصطدموا في بعض الأحيان بالبيض وتلاقوا ضربات شديدة منهم لكنهم لم يلقوا أي رحمة من الحمر. فكما أن البرجوازية الصغيرة مطحونة اقتصاديا بين رحى الرأسمالية الكبيرة والبروليتاريا، كذلك كانت فصائل الأنصار الفلاحية مسحوقة بين الجيشين الأحمر والأبيض. ولا يستطيع سوى امرئ سطحي كليا أن يرى في عصابات أو تمرد كرونشتاد صراعا بين المبادئ المجردة للفوضوية و”اشتراكية الدولة”. في الواقع كانت تلك الحركات انتفاضات للبرجوازية الصغيرة التي كانت تطمح لتحرير نفسها من رأس المال، ولكنها في الوقت نفسه، لم تقبل بإخضاع نفسها لديكتاتورية البروليتاريا. إن البرجوازية الصغيرة لا تدرك بالملموس ماذا تريد، ولا تستطيع أن تدركه بحكم موقعها، وهذا ما يفسر لماذا غلفت بلا تردد غموض مطالبها ومطامحها تارة بالراية الفوضوية، وتارة أخرى بالشعبية وتارة أيضا بـ “الخضراء” فقط. وقد حاولت، واقفة بوجه البروليتاريا وملوحة بهذه الرايات جميعها، أن تعيد دولاب الثورة إلى الوراء.