بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

النظرية اللينينية في التنظيم

« السابق التالي »

الطليعة الثورية والعمل الجماهيري العفوي

إنه أمر خاطئ وغير مبرر أن يوصف عمل لينين كـ”بخس تقدير” منهجي لأهمية الأعمال الجماهيرية العفوية (مقارنا “باعتراف” روزا لوكسمبورغ وتروتسكي بها). إذا استثنينا بعض النصوص الجدالية التي لا يمكن فهمها إلاّ في سياقها.

كان لينين يحكم على الإضرابات الجماهيرية والأعمال المتفجرة عفويا بالحماس ذاته الذي كان يحكم به تروتسكي أو روزا لوكسمبورغ[34]. وحدها البيروقراطية الستالينية زورت اللينينية باتجاه حذر متنام إزاء الحركات الجماهيرية العفوية – وهذا من السمات المميزة لكل بيروقراطية.

عندما تقول روزا لوكسمبورغ أنه ليس بالإمكان “أن نحدد مسبقا” وفقا لروزنامة زمنية، اللحظة التي ستنفجر فيها ثورة بروليتارية، فهي على حق تماما وإن لينين كان لينضم إلى رأيها هذا. كان مقتنعا مثلها أن النشاط الأولي للجماهير الذي تستحيل الثورة بدونه لا يخضع بصورة مرسومة لـ”تنظيم” أو “قيادة سلسلة” من ضباط الصف المنتظمين. كان لينين، تماما كروزا لوكسمبورغ، يعترف بروح الإبداع وبالطاقة على المبادرة اللذين يطورهما عمل جماهيري حقيقي وواسع. إن الفرق بين النظرية اللينينية في التنظيم ونظرية العفوية، كما يسمونها -التي لا يمكن نسبتها إلى روزا لوكسمبورغ إلاّ بتحفظ- لا يمكن بالتالي في تثمين مبادرة الجماهير بل فهم حدودها. إن مبادرة الجماهير قادرة على تحقيق أشياء كثيرة، لكنها عاجزة سواء عن أن تتصور هي بذاتها البرنامج الكلي لثورة اشتراكية إبان النضال بالذات، أو عن الدفع باتجاه مركزة القوى التي هي وحدها تسمح بقلب سلطة دولة وجهاز قمعها معتمدة على التثمير الكلي لميزات “خطها الداخلي”. بتعابير أخرى: حدود عفوية الجماهير تبدو بالضبط في اللحظة التي يصبح فيها جليا أن نجاح ثورة اشتراكية لا يمكن أن يرتجل ارتجالا.

فضلا عن ذلك، لا توجد عفوية “صرفة” إلاّ في كتب حكايات الحركة العمالية لكن ليس في تاريخها الحقيقي. إن ما يجب فهمه بـ”عفوية الجماهير”، إنما هو الحركات التي لم تخطط لها مقام مركزي ما. لكن لا يمكن أن نفهم بـ”عفوية الجماهير” حركات تجري دون تأثير سياسي خارجي”. ما أن نحك قليلا اللون الأزرق للـ”حركات العفوية” المزعومة، حتى نج بقية محترمة من الطلاء الأحمر البراق: هنا مناضل من “مجموعة طليعية” فجر إضرابا “عفويا”، هناك عضو قديم في تجمع “متياسر” آخر كان قادرا على الرد مباشرة فيما كان الجماهير الغفل ما يزال يتردد. في إحدى الحالات نجد أن العمل “العفوي” هو نتاج عمل طويل من المعارضة النقابية أو من مجموعة قاعدية، وفي حالة أخرى أنه نتيجة اتصالات نسجها بصبر منذ زمن طويل (وطويل دون نجاح) زملاء في العمل في مدينة مجاورة (أو مؤسسة مجاورة حيث “اليسار” أقوى. حتى في صراع الطبقات، لا تسقط القبرات “بصورة عفوية” مشوية تماما من السماء. إن ما يميز إذن الأعمال “العفوية” عن “تدخل الطليعة” ليس بالتأكيد أن كل المقاتلين في الحالة الأولى يمتلكون المستوى ذاته من الوعي بينما ترتفع الطليعة في الحالة الثانية فوق “الجماهير”. كذلك لا يكمن الفرق في واقع أنه في “الأعمال العفوية” لا “تُحمل من الخارج” الشعارات إلى صفوف الشغيلة، فيما تتصرف طليعة منظمة إزاء المطالب الأولية للجمهور بصورة “نخبوية” و”تفرض” عليه برنامجها. لم يحدث يوماً عمل “عفوي” دون نشاط طليعة.

إن الفرق بين الأعمال “العفوية” وتلك التي “تتدخل فيها طليعة ثورية” يكمن بصورة رئيسية، إذا لم يكن حصراً، في هذا الواقع: أنه في الأعمال “العفوية” يكون التدخل غير منظم، مرتجلاً، متقطعاً، غير مخطط له (أكان في مؤسسة، أو في قطاع محدد أو في مدينة) بينما يسمح وجود منظمة ثورية بتنسيق تدخل الطليعة في “النضال الجماهيري العفوي” بالتخطيط له، بتوقيته بصورة واعية، وبإعطائه باستمرار شكلاً . إن كل متطلبات “المركزية القصوى” اللينينية تقريبا ترجع إلى هذا، وإلى هذا على وجه الحصر.

فقط القدريون السادرون في غيهم (بتعبير آخر حتميون آليون) يمكنهم أن يزعموا أن كل الأعمال الجماهيرية كانت محكومة بأن تتم في اليوم الذي تمت فيه وأنه في كل الحالات الأخرى التي لم تؤد إلى أعمال جماهيرية، لم تكن هذه ممكنة الحصول. إن هذا الإستسلام القدري (وقد نشرته مدرسة كاوتسكي-باور) هو في الحقيقة كاريكاتور نظرية التنظيم اللينينية. وليس بالتأكيد صدفة أن يكون الكثيرون من أخصام اللينينية الذين يتكلمون كثيرا على “عفوية الجماهير” يدافعون عن هذه الحتمية الآلية المبتدلة ولا يريدون أن يفهموا إلى أي حد هي متناقضة مع “إعادة تقويم” لـ”عفوية الجماهير”.

إذا انطلقنا من الدورية الحتمية للأعمال الجماهيرية العفوية -منذ لحظة نضج التناقضات الإجتماعية-الاقتصادية إلى حد لا يعود يمكن معه لنمط الانتاج الرأسمالي إلاّ أن يستثير أزمات ما قبل ثورية، يبقى مع ذلك غير قابل للجدل أنه يستحيل تحديد وقتها بدقة لأن الحوادث والصراعات الجزئية والصدف تلعب دورا مهما. هذا هو السبب في أن طليعة ثورية، قادرة في اللحظة الحاسمة أن تركز قواها على “الحلقة الضعيفة” يمكنها أن تكون أكثر فعالية بما لا يضاهى من المبادرات المجزأة للكثير من الشغيلة المتقدمين الذين تنقصهم هذه القدرة على التركيز[35]. إن أكبر نضالين عماليين حدثا حتى الآن في أوروبا الغربية -ماي 68 الفرنسي وخريف 69 الايطالي- قد أثبتا وجهة النظر هذه. الإثنان بدآ بنضالات “عفوية” لم تهيئها النقابات ولا الأحزاب الكبرى الاشتراكية-الديموقراطية أو “الشيوعية”. في الحالتين لعب دورا مهما شغيلة وطلاب متجذرون بالاضافة إلى كادرات ثورية كانت تفسح للجماهير الكادحة بأن تقوم بـ”تجربة نموذجية”. وفي الحالتين أيضا ساهم في النضال ملايين الأشخاص، أي أكثر مما إبان أعظم النضالات الطبقية لما بعد الحرب العالمية الأوى: عشرة ملايين مأجور بالتمام في فرنسا، وحوالي خمسة عشر مليونا في إيطاليا.

في الحالتين كانت التطلعات تتخطى إلى حد بعيد “النزعة الاقتصادية” لاضراب نقابي صرف. برهن على ذلك في فرنسا احتلال المعامل، وفي ايطاليا مظاهرات الشوارع ورفع مطالب سياسية كما محاولات التنظيم الذاتي المستقل في أماكن العمل، أي إزدواجية السلطة: إنتخاب الـdelegate di riparto (بهذا المعنى كانت الطليعة العمالية الايطالية أكثر تقدما بكثير من الطليعة الفرنسية؛ لقد استخلصت قبل غيرها الدروس التاريخية لماي الفرنسي[36]. لكن في الحالتين لم يمكن قلب جهاز الدولة البورجوازي ونمط الانتاج الرأسمالي، أو حتى فقط استشارة تماثل الجماهير الواسعة مع أغراض النضال التي كان بإمكانها أن تسمح بهذا القلب على المدى القصير. نورد في هذا الصدد الصورة التي استعارها تروتسكي في “تاريخ الثورة الروسية”: كان البخار يتبدد لأنه لم يكن هناك أسطوانة تحصره عند النقطة الحاسمة[37]. طبعا إن القوة المحركة هي في النهاية قوة التعبئات والنضالات الطبقية وليس الأسطوانة بحد ذاتها. بدون هذا البخار، ليست الأسطوانة أكثر من أنبوب فارغ، لكن بدون الاسطوانة، حتى البخار الأكثر قوة يتبدد ولا يبلغ الهدف. ذلك هو جوهر نظرية التنظيم اللينينية.

« السابق التالي »