بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

النظرية اللينينية في التنظيم

« السابق التالي »

نظرية التنظيم، المركزية الديموقراطية وديموقراطية المجالس

يؤخذ على النظرية اللينينية في التنظيم أنها تمنع عبر مركزة مبالغ بها تطور الديموقراطية الداخلية للحزب. يستند هذا المأخذ على سوء فهم. عندما يركز لينين التنظيم حول أعضاء نشيطين، يعملون تحت رقابة جماعية، يوسع في الواقع اكثر بكثير مما يضيق هامش الديموقراطية داخل الحزب. مذ يتخطى تنظيم عمالي عددا معينا من الأعضاء، يصبح هناك نموذجان (Models) إثنان عن التنظيم ممكنين بصورة أساسية: نموذج جمعية الناخبين (أو المنظمة الإقليمية) التي تتناسب اليوم سواءا مع الأشكال التنظيمية للحزب الاشتراكي أو مع تلك التي للحزب الشيوعي، أو نموذج عصبة محاربين يستندون إلى أعضاء نشطين وواعين. صحيح أن الأول يترك نظريا هامشا معينا للمناورات إلى المعارضين، لكن فقط طالما لا يتعلق الأمر إلاّ بمسائل طفيفة. إن الجمهور العريض للأعضاء غير المسيسين والسلبيين- الذين يتبع قسم مهم منهم حتى ماديا للجهاز (أكثرية الشغيلة والمستخدمين البلديين ومستخدمي الإدارة، المستخدمون في المنظمة العمالية ذاتها، الخ)- يقدم في هذه الحالة للجهاز قاعدة استفتائية قابلة للتحريك في كل حين، لا علاقة لها في كل حال بالوعي الطبقي. أما المنظمة القتالية على العكس التي ينخرط أعضاؤها بصورة واعية ونشطة فتستند إلى مصالح كل منهم وتعطيهم على الأقل إمكانية حكم مستقل. إنه لأصعب بكثير على “طالبي وجاهة صرفين” أو على وصوليين صرفين أن يلمعوا في منظمات من مثل هذه، مما في جمعيات منخبين مبتذلة. إن التباينات تنحسم فيها بالخضوع المادي أو بإخلاص مطلق أقل بكثير مما بنقاش معمق. بالتأكيد، إن بنية تنظيمية كهذه لم تصبح حصانة كافية ضد البقرطة، لكنها تخلق مع ذلك الشروط القادية على مضايقتها[48].

إن العلاقات بين التنظيم الثوري (نواة الحزب او الحزب) والجماهير العاملة تتعدل فجأة مذ تبرز حالة ثورية. عند ذلك الحين تبدأ البذور التي نشرتها المجموعات الثورية و الأشتراكية الواعية تنبت. إذ ذاك أيضا يمكن للجماهير العريضة أن تبلغ مباشرة وعيا طبقيا ثوريا. وتستطيع المبادرات الثورية للجماهير العريضة أن تتخطى بكثير مبادرات العديد من التجمعات الثورية.

لقد أشار تروتسكي عدة مرات في “تاريخ الثورية الروسية” الى أن الشغيلة الروس كانوا يلتحقون بالحزب البلشفي في بعض اللحظات العصيبة من الثورة[49]. لا يمكن مع ذلك تعميم هذا الواقع، ينبغي قبل كل شيء تذكير أن الحزب البلشفي، ما قبل “موضوعات أبريل” للينين، كان مزودا بتصور استراتيجي غير كاف حول طبيعة وأهداف الثورة الروسية[50]. عندما بدأ هذا النقص يبرز بصورة قاسية في داخل الحزب، تدخل لينين وكتب “موضوعات أبريل”. لقد أمكنه أن يقوم بذلك بنجاح لأن أكثرية الشغيلة البلاشفة المكونين كانوا يدفعون في الاتجاه ذاته ولأن هؤلاء كانوا يعبرون من جهتهم عن التجذر الشديد للطبقة العاملة الروسية.

لا شك في أن تقويما موضوعيا وشموليا لدور تنظيم الحزب البلشفي في الثورة الروسية يتطلب صياغة مختلفة بعض الشيء. ومع أن الكوادر القيادية للحزب بدت عدة مرار كما لو كانت العائق الأساسي في وجه انتقال الحزب إلى المواقف التروتسكية للنضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا (السلطة للسوفياتات)، فلقد تكشف أن وجود منظمة مكونة من إطارات عمالية ثورية مرباة على امتداد عقدين على التنظيم والنشاط الثوري، سمح بالانعطاف الاستراتيجي الحاسم من أجل النجاح. وإذا أصرّ أحد على تبيان علاقة بين البيروقراطية الستالينية “المفهوم اللينيني عن الحزب”، كان عليه على الأقل أن يقر بهذا العنصر الحاسم في العملية: لم يكن نجاح ستالين عائدا إلى “النظرية اللينينية في التنظيم” لكن إلى اختفاء لحضة مهمة في هذا المفهوم. إن ما كان ينقص بعد موت لينين إنما هو شريحة واسعة من الكادرات العمالية الثورية المكونة، القادرة على القيام بنشاط سياسي في علاقة دقيقة بالجماهير. أن يكون المفهوم اللينيني عن الحزب أمكن تحويله إلى نقيضه، فإن لينين بالذات لم يكن ليجادل في ذلك أبدا[51]. إن نظام السوفياتات هو الجواب الوحيد الشامل التي أعطته الطبقة العاملة حتى الآن لمسألة تنظيم نشاطها المستقل أثناء الثورة وبعدها. يسمح هذا الجواب بجمع كل قوى الطبقة -وكل الشرائح المتقدمة في المجتمع- في مواجهة مفتوحة متزامنة لكل الاتجاهات المختلفة الموجودة داخل الطبقة. إن نظام سوفياتات حقيقيا -أي نظاما يجري إنتخابه بالفعل من قبل جمهور الشغيلة ولا يفرضه عليهم جهاز السلطة الخاص هذا أو ذاك- يعكس التنوع الاجتماعي والايديولوجي للشرائح البروليتارية. إن مجلسا عماليا هو في الواقع جبهة واحدة لمختلف المجموعات السياسية التي تتفق على نقطة مركزية: الدفاع المشترك عن الثورة ضد العدو الطبقي. (في الطريقة نفسها تعكس لجنة اضراب أكثر الاتجاهات المختلفة اتساعا بين العمال، مع استثناء وحيد، إنها تضم فقط تلك الاتجاهات التي تشارك في الاضراب حيث لا يوجد أي مكان لأعداء القضية العمالية في لجنة الاضراب).

لا يوجد بالتالي أي تناقض أساسي بين منظمة ثورية وفقا للنموذج اللينيني وديموقراطية سوفياتية أو سلطة سوفياتات فعلية. على العكس، فبدون عمل في التنظيم المنهجي لطليعة ثورية يسقط نظام السوفياتات تحت تأثير البيروقراطيين الإصلاحيين أو نصف الاصلاحيين (كما نظام السوفياتات الألمانية بين عامي 1918-1919) أو يفقد قوته السياسية الضاربة لأنه لا يتوصل إلى الإضطلاع بالمهام السياسية المركزية (كما اللجان الثورية الاسبانية بين يونيو 1936 وربيع 1937). إن الفكرة القائلة إن نظام السوفياتات يجعل الحزب “نافلا” هي فكرة غير معقولة؛ إما أنها تفترض مسبقا أن السوفياتات تؤدي الى انسجام الطبقة العاملة في ليلة و ضحاها، تجعل الفروق الأيديولوجية والاختلافات في المصالح تختفي، و”توحي” آليا وعفويا للطبقة بأكملها “الحلول الثورية” لكل المشكلات الاستراتيجية والتكتيكية؛ أو أنها ليست سوى لإعطاء مجموعة صغيرة من “القادة” المنصِّبين أنفسهم امكانية التلاعب بالجماهير، بمقدار ما تمنع بصورة منهجية أن تتواجه الجماهير بالمسائل الاستراتيجية والتكتيكية للثورة أي أن تناقش بحرية وتتمايز سياسيا (كما هي الحال مثلا في نظام التسيير الذاتي اليوغسلافي).

إن المنظمة الثورية تسمح بأن يضمن للشغيلة في نظام السوفياتات درجة نشاط مستقل ووعي ذاتي، إذن وعيا طبقيا أرفع بكثير مما يمكن أن يفعله نظام تمثيل غير متمايز. ينبغي دون شك أن تستثير النشاط المستقل للشغيلة باتجاه هذا الهدف. وهنا تكمن بالضبط الميزة الرئيسية لنظام السوفياتات. هل يمكن التوفيق بين درجة عالية من النشاط الذاتي للـ”قاعدة” والمفهوم الينيني عن التنظيم؟ بالتأكيد، لأن هذا المفهوم مدعوما باستراتيجية ثورية سليمة (بتقدير سليم للسيرورة التاريخية الموضوعية)، يعني شيئا آخر غير توحيد نشاط الجماهير، إنه الذاكرة الجماعية والمنسق للتجارب التي تقوم بها الجماهير.

حول هذه المسألة أيضا برهن التاريخ أن ثمة فرقا أساسيا بين حزب يسمى ثوريا وحزب ثوري هو ثوري بالفعل. عندما لا يفعل فريق موظفين غير معارضة مبادرة ونشاط الجماهير، بل يحاول بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية، أن يحطمها (فلنفكر بالمجر في أكتوبر-نوفمبر 1956.أو بتشيكوسلوفاكيا في غشت 1968) وعندما لايجد هذا الفريق أي رابطة تربطه بنظام السوفياتات المولود عفويا من النضالات الاجتماعية، بل يحطم هذا النظام بحجة الدفاع عن “الدور القائد للحزب”[52]. لا نعود أمام حزب ثوري للبروليتاريا بل أمام جهاز يدافع عن المصالح النوعية الخاصة بشريحة ذات امتيازات ومعادية للنشاط المستقل للجماهير: عنينا البيروقراطية. لإن واقع إمكان إنحطاط حزب ثوري إلى حزب للبيروقراطية لا يشكل مع ذلك حجة ضد المفهوم اللينيني عن التنظيم أثر مما يشكل واقع كون أطباء قتلوا أكثر من مريض بدلا من إنقاده حجة ضد المفهوم الفهوم الينيني الطبي. إن أي خطوة إلى وراء هذا الفهم باتجاه العفوية “الصرفة” للجماهير تقارن بعودة من العلم الطبي إلى الشعودة.

« السابق التالي »