بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

النظرية اللينينية في التنظيم

« السابق التالي »

المثقفون العلميون، العلم الاجتماعي والوعي الطبقي البروليتاري

إن إعادة الادخال الكثيفة للعمل الذهني في سيرورة الإنتاج التي ولدتها الثورة الصناعية الثالثة، التي توقعها ماركس والتي تمد جذورها في الثورة الصناعية الثانية[60]، قد خلقت الشروط الاجتماعية لوعي جديد، لدى قسم كبير من المثقفين العلميين، لاستيلابهم الخاص بهم، الذي يخضعون له كأي كان في المجتمع الرأسمالي، لكن الذي كانوا قد توقفوا عن الشعور به حين تم استبعادهم من سيرورة الانتاج المباشر لفائض القيمة فتحولوا إلى مستهلكين مباشرين أو غير مباشرين لها. هذه التغرات تشكل القاعدة المادية ليس فقط للتمردات الطلابية في البلدان الامبريالية بل كذلك لتنامي عدد العلميين والتقنيين الذين أصبح ممكنا دمجهم في الحركة الثورية.

قبل الحرب العالمية الأولى، كانت مساهمة المثقفين في الحركة الاشتراكية الكلاسيكية، تتبع عموما خطا منحنيا متناقضا: وإذا كانت ضخمة في البدء فهي قد ضاقت كلما توطدت الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة. عام 1910، وفيمحاجة غير مشهورة ضد ماكس أدلر، أبرز تروتسكي الخطوط العريضة لتحليل ماركسي من بدايات هذا التطور: التبعية الاجتماعية المتنامية للمثقفين حيال البرجوازية الكبرى والدولة البورجوازية؛ عجز الحركة العمالية، المنظمة في “مجتمع-مضاد”، عن مواجهة المجتمع البورجوازي بخيار معادل. كان تروتسكي يتنبأ بأن هذا الوضعسيتعدل على الأرجح بصورة سريعة في المرحللة الثورية، عشية الثورة البروليتارية[61].

إلاّ أنه كان بدأ يستخلص من مقدمات صحيحة خلاصات تكتيكية خاطئة، مهملا مثلا بعكس لينين إنبعات الحركة الطلابية حوالي 1908-1909 في عز إنتصار الثورة المضادة الذي كان يرى فيه لينين مؤشرا سابقا للصعود اللاحق للحركة الجماهيرية الثورية (التي لم تنفجر إلاّ عام)1912). توصل تروتسكي حتى إلى الإعتقاد أنه كان “خطأ” المثقفين الثوريين القادة الاشتراكية-الديموقراطية الروسية إذا كان يمكن أن تنشر داخلها “كل خصوصياتهم الاجتماعية: الروح العصبوية، الفردوية الثقافية، التيمية الايديولوجية”[62]. كان إذ ذاك يبخس، كما اعترف فيما بعد، تقدير الأهمية السياسية-الاجتماعية لصراع الأجنحة بين البلاشفة والمصفين الذي لم يكن يفعل غير تشكيل امتداد للصراع السابق بين البلاشفة والمناشفة. إن التاريخ قد كشف إن هذا الصراع لم يكن بنتاج “لعصبوية المثقفين” بل للفصل بين وعي اشتراكي ثوري وبورجوازية صغيرة إصلاحية[63].

إلاّ أنه صحيح أن مساهمة المثقفين الثوريين الروس في بناء الحزب الثوري للبروليتاريا الروسية تحققت انطلاقا من اختيار فردي على وجه الحصر ودون جذور اجتماعية عميقة. وقد انعكس ذلك(وكان سينعكس) بصورة حتمية، بعد أكتوبر، ضد الثورة البروليتارية لأن جمهور المثقفين التقنيين لم يكن قادرا على الانتقال إلى معسكر الثورة، لأنهم خرجوا في البدء جهاز الإنتاج الإقتصادي وجهاز التنظيم الاجتماعي، بحيث انتهى ذلك “بشراء” تعاونهم بأجور مرتفعة، وبتحولهم أخيرا إلى محركين لبقرطة هذه الثورة وانحطاطها.

بما أن مكانة المثقفين التقنيين في سيرورة الانتاج المادي -قبل كل شيء من هم الفئة (2) المشار إليها أعلاه- تعدلت بصورة حاسمة، وبما أن المثقفين التقنيين كانوا يصبحون تدريجيا جزءا لا يتجزأ من الطبقة المأجورة، فإن مساهمتهم في السيرورة الثورية وفي بناء مجتمع جديد هي البوم أكثر احتمالا بكثير مما في الماضي. سبق وأوضح فريدريك إنجلز دورهم التاريخي الحاسم: “لكي نتملك وسائل الانتاج ونستثمرها، نحتاج إلى جمهور من الناس المعدمين تقنيا.ليسوا في متناولنا (…) أتوقع أننا سنجند في الثماني إلى العشر سنوات القادمة، ما يكفي من التقنيين الشباب الأطباء ورجال القانون والمدرسين لنستطيع إدارة المعامل والملكيات الكبرى بواسطة رفاق في الحزب، لمصلحة الأمة. يصبح وصولنا إذ ذاك إلى السلطة جد طبيعي ويجري -نسبيا- دون صعوبات. إذ بالمقابل، وبسبب حرب، وصلنا باكرا إلى السلطة، يصبح هؤلاء التقنيون عند ذلك أعداءنا الرئيسيين، يخدعوننا ويخونوننا ما أن يتم لهم ذلك. سوف يتحتم علينا أن نستخدم ضدهم الإرهاب”[64]. كانت تلك نبوءة مأساوية عما حصل فعلا في روسيا فيما بعد.

ينبغي بالطبع أن نضيف أن البروليتاريا أصبحت خلال الثورة الصناعية الثالثة أمهر بكثير جدا وأنها تبرهن عن طاقات على إدارة المعامل أكبر بكثير مما في أيام إنجلز. لكن قدرة الرقابة السياسية-الاجتماعية للجماهير العريضة على “الاختصاصيين” (وهي قدرة كان ينسج لينين حولها الكثير من الأوهام عام 1918) تتطلب كذلك قدرات تقنية. إن الانعدام المتنامي بين المثقفين التقنيين والبروليتاريا الصناعية والمساهمة المتنامية للمثقفين الثوريين في الحزب الثوري لا يمكن إلاّ أن يسهلا سيرورة الرقابة تلك.

كلما ازدادت التناقضات بين التشريك الموضوعي للانتاج والعمل من جهة والتملك الفردي من جهة أخرى (أي أزمة علاقات الانتاج الرأسمالية) -ونحن الآن نجرب شكلا جديدا وحادا لهذا التناقض تعطينا صورة عنه أحداث 8 ماي 1968 في فرنسا والنضالات الجماهيرية في إيطاليا عام 1969- كلما حاولت الرأسمالية الجديدة أن تؤخر ساعة موتها عبر رفع مستوى استهلاك البروليتاريا، كلما أصبح العلم أكثر فأكثر قوة انتاج ثورية في وجهتين: إنه ليس فقط يُنتج، عبر الأتمتة والمراكمة المتنامية للسلع، أزمة على مستوى سيرورة الانتاج وتحقيق الرأسمال المرتكزة إلى إنتاج السلع المعمَّم، بل هو يُنمي كذلك الوعي الثوري. باختصار: إن دور كشف الزيف الذي تلعبه العلوم الاجتماعية النقدية يمكن أن يمارس وظيفة ثورية حقا في يقظة الوعي الطبقي، وذلك بالضبط لأن الحاجز الرئيسي الذي يمنع اليوم نمو وعي طبقي سياسي لدى الطبقة العاملة يمكن في واقع أنها خاضعة باستمرار لتأثيرات الإيديولوجيا والتزييفات البرجوازية الصغيرة والبرجوازية أكثر بكثير مما في بؤسها أو الضيق المفرط لأفقها الحيوي. إن هذا الدور يتطلب مع ذلك توسطا ملموسا مع البروليتاريا، لا يمكن أن يحققه إلاّ الشغيلة المتقدمون من جهة والمنظمة الثورية من جهة أخرى. وهذا يفترض مسبقا بالمقابل ألاّ يضع المثقفون العلميون أنفسهم، من موقع المازوشيين المتواضعين، في “خدمة الشعب” لدعم نضالاته على صعيد الأجور، بل أن يحملوا إلى الشغيلة النقديين المعارف العملية الضرورية التي تسمح لهم بفهم الاستغلال المقنَّع والسيطرة المستورة والنفاذ إليها بكل ما ينطويان عليه من معنى.

« السابق التالي »