النظرية اللينينية في التنظيم
إذا فهمنا أن نظرية التنظيم اللينينية تحاول إعطاء جواب على مسألة حالية الثورة والذات الثورية ندرك كذلك الصلة بين هذه النظرية ومهمة تربية تاريخية: هي مشكلة تحويل الوعي الطبقي الكامن، التريديونيوني إلى وعي طبقي حقيقي، سياسي وثوري. لا يمكن حل هذه المشكلة إلاّ على ضوء تفريع الطبقة العاملة المحدد أعلاه -جمهور الشغيلة، الشغيلة المتقدمين، الكوادر الثورية المنظمة. لبلوغ الوعي الطبقي، تحتاج كل شريحة إلى تربية خاصة بها، وتتبع سيرورة تكوينها الخاصة بها، وتشترط شكلا خاصا من الاتصال بالطبقة العاملة وبالانتاج النظري. يمكن تلخيص الدور التاريخي للحزب الثوري الطليعي الذي تصوره لينين بتمفصل صيغ التربية الثلاث تلك.
لا تتعلم الجماهير العريضة إلاّ عبر العمل: إن إرادة “تلقينها” الوعي الثوري عبر الدعاية تبقى دون فعالية ودون أفق. لكن وإن كانت الجماهير لا تتعلم إلاّ عبر العمل، فإنه ما كل عمل يسمح بالضرورة بتنمية جماعية لوعي طبقي ثوري. إن أعمالا تتناول أهدافا اقتصادية وسياسية تبغي تحقيقها مباشرة ويمكن بلوغها في إطار النظام الاجتماعي الرأسمالي لا تخلق وعيا طبقيا ثوريا. كان ذلك أحد الأوهام الكبرى للاشتراكيين-الديموقراطيين “المتفائلين” ومن بينهم إنجلس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرنالعشرين الذين كانوا يعتقدون أن نجاحات جزئية في الحملات الانتخابية وفي الاضرابات قد تفتح طريقا واسعة لتطور وعي طبقي ثوري ولتدعيم روح القتال عمليافي توطيد وعي الذات وإرادة النضال لدى البروليتاريا[65] (كان الفوضويون مخطئين عندما يرفضون هذه النضالات الجزئية بصورة جازمة)، لكنها لم تكن تهيئ العمال للنضالات الثورية. إن افتقار الطبقة العاملة الألمانية للخبرة في النضالات الثورية من جهة، ووجود مثل هذه الخبرة لدى الطبقة العاملة الروسية، من جهة أخرى، كان الفارق الأكثر أهمية بين وعي الطبقتين عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد ساهم هذا الفارق بشكل حاسم في النتائج المتباينة لثورتي 1917-1919 في كل من روسيا وألمانيا. وبما أن هدف الأعمال الجماهيرية عموما هو إرضاء الحاجات مطالب لم يعد بالإمكان دمجها بالنظام الاجتماعي الرأسمالي وتفجر دينامية ثورية تؤدي إلى امتحان القوة بين الطبقتين الحاسمتين في المجتمع. تلك هي استراتيجية الحلول الإنتقالية التي أدخلها لينين بصورة صريحة إلى المؤتمر الرابع في برنامج الأممية الشيوعية والتي استعادها تروتسكي كجزء أساسي في برنامج الأممية الرابعة[66].
لا يمكن تطوير الوعي الطبقي الثوري إلاّ إذا راكمت الجماهير تجاري نضال لا تقتصر على المطالب الجزئية الممكنة التحقيق في إطار النظام الرأسمالي. إن إدخال هذه المطالب في نضالات كبرى لا يمكن أن ينجح إلاّ بفظل الشغيلة المتقدمين الدين يوصلون، وينشرون ويجربون في المؤسسة، في النقابات، في مجموعة المؤسسات، أهدافا سياسية -لا تنبثق عفويا من التجربة اليومية- إلى أن تصبح الحالة ناضجة لتصير هذه المطالب ذاتها موضوع إضرابات كبرى وتظاهرات كبرى.
إذا كان الوعي الطبقي للجماهير العريضة لا يتكون إلاّ عبر تجارب نظالات ثورية موضوعيا، فهو يتشكل لدى الشغيلة المتقدمين عبر تجارب الحياة والعمل ونضال لا ينبغي عموما أن يكون بالضرورة ثوريا. إنهم يستخلصون الاستنتاجات الضرورية من الصراعات الإجتماعية اليومية؛ يعترفون بإلحاح حشد القوى، والعمل الجماعي والتنظيم. إن أنماط وأشكال تلك الأعمال وذاك التنظيم لا يمكن تحديدها إلاّ من حالة إلى حالة وفقا للشروط الموضوعية والتجارب الملموسة. هنا بالضبط يتدخل نشاطالطليعة الثورية الذي يسمح للشغيلة المتقدمين باجتياز العتبة التي تفصل تجربة قصور البنى الاجتماعية القائمة عن تحويلها. بديهي أنه لا يمكن للطليعة أن تلعب دور الحفاز catalyseur هذا، لا آليا ولا بالإستقلال عن الشروط الموضوعية، لكن شريطة أن تكون هي ذاتها على مستوى مهمتها، أن يكون عمل الاعداد النظري والدعاية ونشر المنشورات الذي تقوم به يتناسب في مضمونه مع حاجتت الشغيلة المتقدمين، ويتفق مع قوانين التربية السياسية(مع تجنب كل قصوية) ويكون في الوقت ذاته مرتبطا بالنشاط العملي والآفاق السياسية التي تسمح بتصديق الاستراتيجسة الثورية كما التنظيم الذي ينشرها.
لكن حتى ولو كان نشاط الطليعة الثورية يلبي هذه المتطلبات، فمن الممكن أن لايبلغ هدفه إذا كنا في فترة جزر في النضال الطبقي وتراجع في ثقة البروليتاريا بذاتها. أولئك الذين يتخيلون أنه يكفي الدفاع عن “تكتيك سليم ” و”خط سليم” لكي تتشكل قوة ثورية وتنمو، كما بصورة عجائبية، حتى في فترة جزر في النضالات الطبقية، يفكرون في الواقع كعقلانيين بورجوازيين وليس وفقا للجدل المادي(ولنقل عابرين إن معظم الانقسامات داخل الحركة الثورية ناجم عن هذا الوهم). هذا لا يعني لذلك أن عمل الطليعة الثورية المنجز في ظروف موضوعية غير ملائمة ينبغي أن يبقى دون نجاح لدى الشغيلة المتقدمين. إنه طبعا لايلاقي نجاحا كبيرا مباشرا لكنه عمل إعدادي في غاية الاهمية، لا بل حاسم، بالنسبة للفترة التاريخية التي تشهد مواصلة النضال. إن الاعداد الصبور والممل الذي قدمته منظمة الطليعة، أحيانا خلال أعوام من العمل الصغير اليومي، يحقق ربائح غنية يوم يعود “القادة الطليعيون للطبقة”، الذين ما يزالون مترددين، فيأخذون على عاتقهم فجأة، إبان إضراب كبير، أو مظاهرة كبرى، حل الرقابة العمالية على الانتاج فيجعلون منه موضوع نضالهم[67]. من أجل القدرة على إقناع الشغيلة المتقدمين والمثقفين الجذريين لبلد ما بضرورة توسيع الصراعات الاجتماعية المهمة وبانتقالهم من مستوى الحلول الانتقالية، لا يكفي مع ذلك المنظمة الثورية الطليعية أن تنسخ باجتهاد قائمة المطالب كهذه لدى لينين وتروتسكي. ينبغي لها أكثر بكثير أن تعرف كيف تمارس تقنية مزدوجة للاقتراب من الواقع وفهمه. يجب أن تقوم من جهة بامتلاك تجارب النضالات الطبقية الثورية للبروليتاريا العالمية، ومن جهة أخرى أن تكون قادرة على تحليل الواقع الاجتماعي المعاصر- تحليل يسمح بتطبيق قراءة التاريخ على الوضع الحالي المعطى. وفقا لنظرية المعرفة الماركسية، إن الممارسة هي مقياس الامتلاك النظري الحقيقي للواقع الحاضر. وهذا يعني: أن ممارسة كهذه تفترض مسبقا تنظيما أمميا.
يستحيل أن نحدد بصورة علمية دقيقة تناقضات المجتمع الرأسمالي الجديد الحالي -في العالم أجمع أو في بلد واحد- أو التناقضات الملموسة لتطور الوعي الطبقي البروليتاري ونموذج الصراع الذي يمكن أن يؤدي إلى حالات ما قبل ثورية دون أن نمتلك التجربة التاريخية للحركة العمالية الأممية من ثورة 1848 إلى أيامنا هذه. إن التاريخ هو المختبر الوحيد للعلوم الاجتماعية. بدون معرفة دروس التاريخ، ليس ماركسي اليوم إلاّ “طالب طب” يرفض الدخول إلى غرفة التشريح.
ينبغي ضمن هذا السياق البقاء منتبهين إلى واقع أن كل محاولة لـ”تحرر” الحركة الثورية المنبعثة من “إنقسامات الماضي” تشهد على عدم فهم كلي للطبيعة الاجتماعية-التاريخية للتمايزات داخل الحركة العمالية الأممية. إذا أغضينا عن الجوانب الشخصية والعارضة التي ترافق بصورة حتمية تمايزات كهذه، يتضح أن المجادلات الكبرى للحركة العمالية الأممية منذ خلق الأممية الأولى -المجادلة بين الماركسية والفوضوية، تلك التي بين البلشفية والمنشفية، بين الممية والاشتراكية-الوطنية، بين أنصار ديكتاتورية البروليتاريا وأنصار الديموقراطية البورجوازية، بين التروتسكية والستالينية، بين الماوية والخروتشوفية- كانت تتناول المسائل الأساسية للثورة، لاستراتيجية وتكتيك النضال الثوري، التي تنبعث من طبيعة الرأسمالية بالذات، ومن طبيعة البروليتاريا والنضال البروليتاري. هذا هو السبب في كونها تبقى حالية طالما لم تجد مشكلة تحقيق مجتمع بلا طبقات حلها العملي. ما من “تكتيك” مهما يكن حذرا، ما من “انفتاح على المساومة” مهما يكن أريحيا، يمكن أن يمنع ألا تعود هذه المسائل مع الوقت فتنبعث، دائما من جديد، من الممارسة بالذات. إذا تجنبنا هذه المشكلات، تكون النتيجة الوحيدة هي التالية: بدل تحليلها وحلها عمليا وبصورة مخططة، يبقى هذا العمل غير منهجي، صدفويا ودون توجهات.
إن امتلاك المادة التاريخية للنظرية الماركسية ضروري بالتأكيد، لكن فقط من حيث هو خطوة أولى نحو تطوير وعي طبقي ثوري لدى الشغيلة المتقدمين والمثقفين المجذرين. ينبغي فوق ذلك القيام بتحليل منهجي للوقت الراهن، وإلاّ فلن تقدم النظرية الأدوات الكفيلة بكشف “الحلقات الضعيفة” في نمط الإنتاج وفي المجتمع الرأسمالي الجديد، وبصياغة الحلول الإنتقالية الملائمة (والتربية التي تناسبها). وحده دمج تحليل نقدي كلي للمجتمع المعاصر برسملة دروس تاريخ الحركة العمالية يمكنه أن يقدم الأدوات الملموسة الضرورية للسيطرة النظرية لمهام طليعة ثورية[68].
وفي غياب تجربة نضالات ثورية، لا تكتسب الجماهير العريضة وعيا طبقيا ثوريا؛ دون تدخل واع للشغيلة المتقدمين، يدخلون مطالب انتقالية في نضالات عمالية، لا تجارب ثورية للجماهير العريضة؛ دون نشر مطالب انتقالية على يد الطليعة الثورية، لا إمكانية لدى الشغيلة المتقدمين للتأثير في النضالات الجماهيرية باتجاه معاد للرأسمالية؛ دون برنامج ثوري، دون استيعاب لتاريخ الحركة العمالية، دون تطبيق دروسه على الحاضر ودون برهان عملي على قدرة الطليعة الثورية أن تلعب بنجاح دورا قياديا، على الأقل في بعض القطاعات وفي بعض الحالات، ليس ثمة إمكانية واحدة لإقناع الشغيلة المتقدمين بأهمية المنظمات الثورية، إذن ليس ثمة إمكانية واحدة (أو إمكانية غير كافية وحسب) تجعل الشغيلة المتقدمين يستوعبون الحلول الانتقالية التي تتناسب مع الوضع الموضوعي: نرى هنا كيف تتداخل العوامل المختلفة وراء تطور الوعي الطبقي وكيف تثبت حالية الفهم اللينيني للتنظيم. إن التمفصل بين سيرورةة تربية الجماهير غبر العمل، سيرورة تربية الشغيلة المتقدمين بالتجربة وسرورة تربية الكادرات الثورية عبر وساطة النظرية والممارسة الثوريتين يشكل وحدة سيرورة بناء الحزب الثوري. إن التعلم والتعليم هما هنا في تداخل متواصل، حتى لدى الكادرات الثورية التي ينبغي أن تصبح قادرة على التخلي عن الغطرسة النظرية.
هذا الفهم قائم على إدراك أن النظرية لا تبرهن على مبرر وجودها إلاّ في علاقتها بالنضال الطبقي الحقيقي وبقدرتها على تحويل الوعي الطبقي الثوري الكامن لدى الشرائح الواسعة للشغيلة إلى وعي طبقي ثوري حقا.
إن كلمة ماركس المشهورة: يحتاج المربي هو ذاته للتربية[69]، تصف بصورة دقيقة واقع الحال هذا. لا يعني هذا أنه حتى بدون تربية ثورية يكون ممكنا تحويل ثوري واع للمجتمع. يتكامل مفهوم ماركس في الواقع بالفكرة التالية: فقط “في النشاط الثوري (…) يتطابق تحويل الذات مع تحويل الظروف”[70]