الأدب والثورة
[نص مداخلة تروتسكي في اجتماع نظمه في 9 أيار 1924 المكتب الصحفي للجنة المركزية حول “سياسة الحزب في ميدان الأدب”. نشر لأول مرة في موسكو في عام 1925].
تروتسكي – أعتقد أن وجهة نظر جماعة ” نابوستو”(39) قد عبر عنها بأعظم الوضوح الرفيق راسكولنيكوف – هذه واقعة لا تستطيعون حيالها شيئا، يا رفاق “نابوستو”! فبعد رحلة نائية جاء راسكولنيكوف ليتكلم هنا بكل النضارة والبراءة الافغانيتين(40)، في حين أن بعض أعضاء “نابوستو” ذاقوا قليلا من ثمار شجرة المعرفة ويجهدون لستر عريهم – وهذا بالطبع باستثناء الرفيق فاردين الذي لبث في نفس الملابس التي ولد بها.
فاردين – أنت لم تسمع حتى ما قلته هنا!
تروتسكي – صحيح، فقد قدمت متأخرا. لكني رأيت، أولا، مقالك في العدد الاخير من “نابوستو”؛ وراجعت لتوي، ثانيا، النص المختزل لخطابك؛ وينبغي أن أقول، ثالثا، أن في مقدور المرء، من دون ان يصغي اليك، أن يعلم مسبقا ما ستتقوله.(ضحك).
لكن لنعد الى الرفيق راسكولنيكوف. لقد قال: انهم يوصوننا خيرا ب”رفاق الدرب”، لكن هل نشرت “البرافدا” القديمة، التي كانت تصدر قبل الحرب، أو “زفسديا” مؤلفات ارتسيباشيف أو ليونيد اندرييف أو غيرهما ممن كانوا سيعدون اليوم بكل تأكيد “رفاق الدرب”؟ وهذه، والحق يقال، طريقة فجة وساذجة في طرح المسألة، من دون ارباك للنفس بتفكير لا طائل تحته. لكن ما دخل ارتسيباشيف واندرييف هنا؟ لم ينظر اليهما أحد قط، على حد علمي، على أنهما من “رفاق الدرب”. فقد مات ليونيد اندرييف في حالة من الحقد المسعور على روسيا السوفييات. أما أرتسيباشيف فهو الآن في الخارج، في المنفى لا أكثر ولا أقل. لا يجوز ان نخلط الأمور الى هذا الحد! ما “رفيق الدرب”؟ في الأدب، كما في السياسة، نطلق إسم “رفيق درب” على من يسير الى حد ما، وهو يعرج ويترنح، في نفس الدرب الذي نسير فيه نحن، الدرب الذي يقودنا بالطبع، أنت وأنا، الى مسافة أبعد بكثير. أما من يسير بعكسنا، فليس رفيق درب، وإنما عدو، ونحن ننفيه عند الاقتضاء، لان صالح الثورة هو في نظرنا القانون الأسمى. كيف يمكنك، في هذه الشروط، أن تقرن أندرييف بمسألة “رفاق الدرب”؟
راسكولنيكوف – حسنا، ولكن ماذا عن بلنياك في هذه الحال؟
تروتسكي – اذا كان بلنياك هو من قصدته عندما تكلمت عن ارتسيباشيف فانه لا يعود في استطاعتي والحالة هذه أن أتناقش وإياك (ضحك).
صوت – أليس الأمر سواء؟
تروتسكي – كيف، سواء؟ اذا استشهدت بأسماء، فلا بد ان تعرف عمن تتكلم. فسواء أكان بلنياك صالحا أم طالحا، صالحا في هذا أو طالحا في ذاك، فان بلنياك يبقى بلنياك، وعليك أن تتكلم عنه بصفته بلنياك، لا بصفته ليونيد أندرييف، فان تعرف فهذا معناه، بوجه عام، أن تبدأ بتمييز الأشياء والأحداث، لا أن تخلط بينها في بلبلة سديمية… يقول لنا راسكولنيكوف :”لم نستنجد قط، بالنسبة الى البرافدا وزفسديا، ب”رفاق الدرب”، بل “بحثنا، ووجدنا شعراء وكتابا بين جماهير البروليتاريا”. بحثنا، ووجدنا ! بين جماهير البروليتاريا! ولكن ماذا تنتظر في هذه الحال؟ لماذا تخفيهم عنا، أولئك الشعراء وأولئك الكتاب ؟
راسكولنيوف – إنهم موجودون. دميان بييدني، على سبيل المثال.
تروتسكي – آه حسنا، على رسلك! كنت أجهل، أقر بذلك، أنك أنت الذي اكتشفت دميان بييدني بين جماهير البروليتاريا (ضحك عام). هأنتذا ترى إذن ما العدة وبأي معارف نتطرق الى مسألة الأدب : فنحن نتكلم عن ليونيد أندرييف، في حين أننا نقصد بلنياك؛ نتباهى بأننا اكتشفنا بين جماهير البروليتاريا كتابا وشعراء، لكننا نتبين عند التحقيق أن هذه “الجماهير” لم تقدم كممثلين لها سوى دميان بييدني وحده (ضحك). هيا. هذا كله ضرب من الترهات. والمسألة تتطلب الشيء القليل من الجد.
لنحاول، بالفعل، أن نتفحص بقليل من الجد تلك المنشورات العمالية، فيما قبل الثورة، تلك الصحف والمجلات التي جاء ذكرها هنا. نحن نتذكر جميعا أننا قرأنا عددا لا بأس به من القصائد المكرسة للنضال، للاول من أيار، إلخ. هذه الأشعار كلها تؤلف، في مجموعها، وثيقة تاريخية وثقافية بالغة الأهمية وبليغة الدلالة. إنها تشهد على اليقظة الثورية والتقدم السياسي للطبقة العاملة. وبهذا المعنى، لا تقل قيمتها الثقافية والتاريخية أهمية عن قيمة مؤلفات كل ما وجد على سطح الارض من شكسبير الى مولير الى بوشكين. فمهما يكن ضعف تلك الأشعار، فان لفيها وعدا بتلك الثقافة الانسانية الجديدة، الاسمى والأرقى، التي ستبدعها الجماهير المستيقظة يوم ستستحوذ على العناصر الأساسية من الثقافة القديمة. بيد أن الأشعار العمالية المنشورة في زفسديا أو في البرافدا بعيدة عن أن تعني أن أدبا جديدا، بروليتارياً، قد ولد. إن الأشعار الخاوية من الفن على منوال درجافين(41) أو ما قبل درجافين لا يمكن البتة ان تعد أدبا جديدا، بالرغم من أن الافكار والعواطف التي تتطلع الى التعبير عن نفسها في تلك الأشعار تخص كتابا مبتدئين ينتمون الى الطبقة العاملة. إنه لمن الخطإ أن نتصور أن تطور الأدب يضارع سلسلة متصلة تشكل فيها الاشعار الساذجة، وإن الصادقة، التي نشرها عمال شبان في مستهل هذا القرن، الحلقة الأولى من “أدب بروليتاري” قادم. في الواقع، كانت تلك القصائد الثورية حدثا سياسيا، لا حدثا أدبيا. لقد أسهمت في تقدم الثورة، لا في تقدم الأدب. لقد أفضت الثورة الى انتصار البروليتاريا، ويؤدي انتصار البروليتاريا بدوره الى تحول الاقتصاد. وتحول الاقتصاد يدخل تعديلا عميقا على السيماء الثقافية للجماهير الكادحة. ويخلق تقدم الشغيلة الثقافي القاعدة الحقيقية لأدب جديد، وبوجه عام لفن جديد. لكن الرفيق راسكولنيكوف يقول لنا :”ان اللبس غير معقول. بل ينبغي ان تؤلف المقالات السياسية والقصائد في منشوراتنا كلا واحدا. فما تتميز به البلشفية هو أنها مقدودة من صخر واحد “، الخ… قد تبدو هذه الأفكار للوهلة الأولى غير قابلة للدحض، لكنها لا تعدو ان تكون في الواقع تجريدا محضا، بلا مضمون. إنها في أحسن الاحوال أمنية ورعة ليس فيها من الواقعية شيء. بالطبع، ليس أروع من أن تقترن سياستنا وأدبنا السياسي الشيوعيان بتصور بلشفي للعالم معبر عنه في شكل فني. لكن ليس هذا هو واقع الحال، وليس ذلك من باب الصدفة. وانما علة ذلك تكمن في أن الابداع الفني، بحكم ماهيته بالذات، يتأخر عن سائر وسائل تعبير الفكر الانساني، وكم بالاحرى حين يكون الأمر متعلقا بطبقة اجتماعية. إن فهم هذه الواقعة أو تلك والتعبير عنها منطقيا شيء، وشيء آخر تماما تمثل الجديد تمثلا عضويا واعادة المرء النظر في عواطفه الذاتية وايجاده تعبيرا فنيا عن هذه البنية الجديدة. إن هذه العملية الاخيرة أكثر عضوية، وأشد بطئا، وأصعب خضوعا لتأثير عمل واعٍ، متعمد، وبالتالي تكون متأخرة على الدوام عن كل الباقي. ان الفكر السياسي للطبقة العاملة يتقدم على ساقين طويلتين، بينما يعرج الابداع الفني خلفه على عكازين. على كل، لقد عبر ماركس وانجلز رائع التعبير عن فكر البروليتاريا السياسي في زمن لم تكن فيه الطبقة العاملة قد استيقظت بعد بما هي كذلك.
صوت – أجل، أجل، هذا صحيح!
تروتسكي – أشكرك كثيرا (ضحك). لكن حاول الأن أن تستخلص من ذلك الاستنتاجات الضرورية، وأن تفهم لماذا لا وجود هناك لتلك الوحدة الصخرية بين الأدب السياسي والشعر. ان ذلك سيساعدنا أيضا على أن نفهم لمَ كنا نتكاتف – أو كنا نوشك ان نتكاتف – في المجلات الماركسية القديمة الشرعية مع “رفاق درب” مثيرين للريبة أحيانا، بل وأحيانا منافقين وكاذبين لا أكثر ولا أقل. أنتم تذكرون جميعا، بالطبع، ال”نوفيا سلوفو”(42)، خير المجلات الماركسية القديمة الشرعية التي شارك في تحريرها العديد من الماركسين من الجيل القديم، بما فيهم فلاديمير إيليتش. كان لهذه المجلة، كما تعلمون، صلات ودية للغاية بأتباع المدرسة ما قبل الرمزية. لماذا؟ لأن هؤلاء كانوا يؤلفون، عصرئد، اتجاها فتيا ومضطهَدا من اتجاهات الأدب البورجوازي. وكانت معاناتهم من الإضطهاد تدفع بهم نحونا كممثلين لقوة من قوى المعارضة، معارضة مغايرة تماما في طابعها لمعارضتهم. ومهما يكن من أمر، كان ما قبل الرمزيين بالنسبة إلينا رفاق درب، ولو مؤقتا. كذلك فان المجلات الماركسية – هذا اذا لم نشأ أن نتكلم عن المجلات شبه الماركسية – التي ظهرت فيما بعد، بما فيها بروسفيشنييه(43)، لم يكن لها هي الاخرى قسم أدبي صخري الوحدة، وقد أفسحت مكانا واسعا ل”رفاق الدرب”. وقد أمكن لنا، بحسب الظرف، أن نكون أكثر تشددا أو أكثر تساهلا بهذا الخصوص، لكن كان من المتعذر علينا، بحكم غياب العناصر الفنية الضرورية، أن ننهج في ميدان الفن سياسة “الوحدة الصخرية”.
بيد أن هذا كله لا يستأثر، في الحقيقة، باهتمام راسكولنيكوف. فهو يجهل على وجه التحديد ما يجعل من الأعمال الفنية أعمالا فنية. هذا يتضح بجلاء من حكمه الذي يسترعي الانتباه عن دانتي. فقيمة “الكوميديا الإلهية” تكمن، في رأيه، في كونها تسمح لنا بأن نتفهم بسيكولوجيا طبقة معينة في عصر معين. لكن طرح المسألة على النحو يخرج “الكوميديا الإلهية” بكل بساطة من ميدان الفن. ولعل أوان ذلك قد آن، لكن لا بد في هذه الحال من فهم جوهر المسألة بوضوح وعدم الخوف من النتائج المنطقية. اذا قلت أن قيمة “الكوميديا الإلهية” تكمن في كونها تساعدني على فهم نفسية طبقات معينة في عصر معين، فإنني أجعل منها والحالة هذه محض وثيقة تاريخية، مع أن “الكوميديا الإلهية” تتوجه من حيث أنها عمل فني الى نفسيتي الخاصة، الى عواطفي الخاصة، ولابد أن تعني لها شيئا. من الممكن أن يكون ل”كوميديا” دانتي تأثير خانق، مرهق عليّ، ومن الممكن أن تنمي فيّ التشاؤم والسويداء، ومن الممكن على العكس أن تشد من عزيمتي وأن تبث في نفسي الشجاعة والحماسة… إنما في ذلك، على كل حال، يكمن جوهر العلاقة بين القارئ والأثر الفني. بديهي، ليس هناك ما يحول دون سلوك القارئ مسلك الباحث ودون رؤيته في “الكوميديا الإلهية” الوثيقة التاريخية وحدها. بيد أنه من الواضح للعيان أن هذين الموقفين ينطلقان من مستويين، لا يقوم أحدهما مقام الآخر وإن كانا مترابطين. كيف نفسر اذن امكانية وجود علاقة جمالية مباشرة، لا محض علاقة تاريخية فحسب، بين أثر من آثار العصر الوسيط الايطالي وبيننا؟ تفسير ذلك يكمن في أن جميع المجتمعات الطبقية لها، مهما تباينت، سمات مشتركة. ومن الممكن لأثر فني تم إبداعه في أحدى مدن ايطاليا في العصر الوسيط أن يُؤثر فنيا اليوم بالذات، وهذه حقيقة واقعة. ماذا يقتضي ذلك؟ قيلا من الأشياء: يكفي أن تكون النفسية والعواطف التي يفصح عنها قد وجدت تعبيرا واسعا، مكثفا، قويا، قادرا على الارتقاء بها الى ما فوق الحدود الضيقة للحياة في ذلك العصر. لا جدال في أن دانتي نتاج لوسط اجتماعي محدد. لكنه عبقري أيضا. ففنه يرفع الانفعالات الخاصة بعصره الى علو نادرا ما يمكن ادراكه. واذا كنا ننظر اليوم الى آثار اخرى من العصر الوسيط بوصفها مجرد مواضيع للدراسة، بينما نرى في “الكوميديا الإلهية” مصدرا لإدراك فني، فليس ذلك لأن دانتي كان من صغار البورجوازيين الفلورنسيين في القرن الثالث عشر، وإنما بالاحرى بالرغم من ذلك. لنأخذ على سبيل المثال شعورا فيزيولوجيا أوليا كالخوف من الموت. أن هذا الشعور ليس وقفا على الإنسان؛ فهو يساور الحيونات أيضا. وقد وجد تعبيره لدى الإنسان قي بادئ الأمر في لغة منطوقة، ثم لقي تعبيرا فنيا. وقد تنوع هذا التعبير تبعا للعصور وتبعا للاوساط الاجتماعية، أي أن بني الإنسان خافوا من الموت بصور مختلفة. بيد أن ما يقوله عن ذلك الشعور لا شكسبير أو بايرون أو غوته وحدهم، بل منشدو المزامير أيضا، قابل لا يؤثر فنيا (هتاف تعجب من قبل الرفيق ليبيدنسكي). أجل، أجل، يا رفيق ليبيدنسكي، لقد وصلت بالضبط في اللحظة التي كنت تشرح فيها للرفيق فورونسكي بالاسلوب السياسي ب + ا = با – على حد تعبيرك بالذات – الفروق في النفسيات بين مختلف الطبقات.
إن الأمر لا يقبل نقاشا في شكله العام هذا. بيد أنك لا تستطيع أن تنكر أن شكسبير وبايرون يخاطبان روحنا، روحك وروحي.
ليبيدنسكي – سيمتنعان عن ذلك عما قريب.
تروتسكي – عما قريب؟ أجهل ذلك. لكن من المؤكد أنه سيأتي زمن سيرى فيه الناس الى أعمال شكسبير وبايرون كما نرى نحن اليوم الى أعمال شعراء العصر الوسيط، أي من منظار التحليل التاريخي وحده. لكن قبل ذلك بحقبة طويلة سيأتي زمن يمتنع فيه الناس عن البحث في “رأسمال” ماركس عن ارشادات لنشاطهم العملي، ويكون فيه “الرأسمال” قد آل الى محض وثيقة تاريخية، مثله مثل برنامج حزبنا. بيد أننا لسنا على استعداد في الوقت الراهن، لا أنت ولا أنا، الى تحويل شكسبير وبايرون الى قسم الأرشيف. بل على العكس، فسوف نوصي العمال بقراءاتهم. الرفيق سوسنوفسكي، على سبيل المثال، يوصي بشدة بقراءة بوشكين لأن بوشكين يكفي، على حد قوله، لخمسين سنة اخرى. لندع جانبا مسائل الزمن. بأي معنى نستطيع أن نوصي العمال بقراءة بوشكين؟ لا وجود عنده البتة لاي وجهة نظر طبقية بروليتارية، وكم بالاحرى لتعبير مقدود من صخر واحد عن الأفكار الشيوعية ! صحيح أن لغة بوشكين رائعة – ماذا نقول أكثر من ذلك؟ – لكنه يستخدمها في التعبير عن رؤية ارستقراطية للعالم. هل سنقول للعامل: إقرأ بوشكين حتى تفهم كيف كان نبيل من رجال البلاط وملاك الاقنان يستقبل الربيع ويودع الخريف؟ من المؤكد أن هذا العنصر كان موجودا لدى بوشكين المتحدر من أصل اجتماعي محدد. لكن التعبير الذي أعطاه بوشكين لنفسيته مشبع الى أقصى حد بتجارب فنية وسيكولوجية عريقة القدم، وبكلمة واحدة كان عاما الى درجة كان كافيا معها حتى يومنا هذا وسيكفي لخمسين سنة على الأقل كما قال سوسنوفسكي. وحين يأتي أحدهم ليقول لي في هذه الحال أن قيمة دانتي الفنية تكمن بالنسبة إلينا في كونه يعبر عن حياة عصر محدد وعن تقاليده، لا يبقى لي من خيار سوى أن أهز كتفيّ. وفي الحق، إنني لعلى يقين من أن الكثيرين من الناس أمثالي لن يستطيعوا، عند قراءتهم دانتي، أن يتذكروا تاريخ ميلاده ومكانه الا اذا حمًّلوا ذاكرتهم ما فوق طاقتها، لكن هذا لا يمنعهم مع ذلك من ان يجنوا متعة فنية كبيرة، ان لم نقل من “الكوميديا” كلها، فعلى الأقل من العديد من أقسامها. وبما أنني لست مؤرخا للثقافة القوسطية، فان رد فعلي حيال دانتي ذو طبيعة فنية في المقام الأول.
ريازانوف – هذه مبالغة. “أن نقرأ دانتي، فهذا معناه أن نستحم في البحر” : هذا ما كان شيفيرييف، الذي كان هو الآخر ضد التاريخ، يرد به على بييلنسكي.
تروتسكي – لا أشك في أن سيفيرييف قال ذلك، يا رفيق ريازانوف، لكنك تخطئ بقولك أنني ضد التاريخ. لا مراء في ان تناول دانتي من وجهة النظر التاريخية أمر مشروع تماما وضروري، ولا مراء في أن ذلك يؤثر على رد فعلنا الجمالي تجاه عمله، لكننا لا نستطيع أن نستغني عن ذلك بهذا. انني لاتذكًّر هنا ما كتبه كاريئييف بصدد هذا الموضوع في مجادلة له ضد الماركسيين. فقد كان يقول: ألا فليبين لنا أولئك “الماركسيديون” (هذا هو الاسم الهزلي الذي كان يطلق يومئد على الماركسيين)، ألا فليبينوا لنا اذن ما المصالح الطبقية المزعومة التي أملت كتابة “الكوميديا الإلهية”. لكن ماركسياً ايطالياً قديما، أنطونيو لابريولا، كتب من جهة اخرى شبيه ما يلي: “الحمقى وحدهم هم الذين قد يخطر لهم أن يحاولوا تفسير نص الكوميديا الإلهية بالفواتير التي كان تجار الجوخ الفلورنسيون يرسلونها الى زبائنهم”. إنني أتذكر هذه الجملة عن ظهر قلب تقريبا، لانه سبق لي أن وجدت نفسي ملزما بالإستشهاد بها أكثر من مرة في مجادلتي ضد الذاتويين. انه ليخيل الي أن الرفيق راسكولنيكوف يتناول دانتي، بل الفن بوجه عام، لا بمعايير ماركسية، وانما بمعايير المرحوم شولياتيكوف الذي تفتق ذهنه في هذا المجال عن صورة كاريكاتورية حقيقية للماركسية. وعن هذه الصورة الكاريكاتورية قال أنطونيو لابريولا بحزم ما كان ينبغي أن يقال عنها.
“إني أقصد بالادب البروليتاري أدبا ينظر الى العالم بعيون الطليعة” إلخ، الخ. هذا ما يقوله الرفيق ليلييفيتش. وإنه لتعريف ممتاز، ونحن على استعداد لتبنيه. لكن لا يكفي أن يقدم لنا تعريف، بل ينبغي أن يقدم لنا أدب أيضا. أين هو؟ دلونا عليه!
ليلييفيتش – “كومسوموليا”. إنه خير عمل أدبي في الأزمنة الاخيرة.
تروتسكي – أي ازمنة؟
صوت – السنة الاخيرة.
تروتسكي – حسنا. السنة الاخيرة. ليس في نيتي البتة المماحكة. وان لي في أعمال بيزيمنسكي رأيا لا يمكن البتة وصفه، على ما آمل، بالسلبية. لقد أطريت أطراء بالغا كومسوموليا التي قرأتها حين كانت لا تزال مخطوطة. لكن بصرف النظر عن مسألة معرفة ما اذا كان بالامكان الكلام، بهذه المناسبة، عن ولادة أدب بروليتاري، سأقول ببساطة أن بيزيمنسكي ما كان ليرى النور كفنان لو لم يكن لدينا في الوقت الراهن ماياكوفسكي وباسترناك وحتى بلنياك.
صوت – هذا لا يبرهن على شيء.
تروتسكي – بلى، هذا يبرهن، على الأقل، على أن الابداع الفني للعصر الحاضر أشبه ما يكون بنسيج بالغ التعقيد، لا تتم حياكته آليا، بواسطة الاجتماعات والحلقات والندوات، وإنما يتكون تدريجيا، من خلال صلات معقدة بمختلف جماعات رفاق الدرب في المقام الأول. لا يمكن التهرب من هذه الحقيقة. وبيزيمنسكي لا يحاول الهرب، وإنه لعلى صواب. بل إن تأثير “رفاق الدرب” على بعض كتاباته واضح وبارز للعيان أكثر مما ينبغي. بيد أن هذه شائبة محتمة من شوائب الشباب والنمو. والحال أن الرفيق ليبيدنسكي، عدو “رفاق الدرب”، يقلد بلنياك، بل حتى بييلي. أجل، أجل. إنني ارجو معذرة الرفيق آفرباخ الذي يهز رأسه أن “لا”، وإن لم يكن عن اقتناع كبير. إن رواية ليبيدنسكي الاخيرة، “غدا”، هي قطر متوازي أضلاع يتألف ضلعاه من بوريس بنياك وأندريه بييلي. وهذا ليس عيبا في حد ذاته؛ اذ ما كان يمكن لليبيدنسكي ان يولد من ارض “نابوستو” كاتبا مكتملا.
صوت – ارض ماحلة بالاحرى!(44)
تروتسكي – سبق أن تكلمت عن ليبيدنسكي عند صدور كتابه “الأسبوع”. وأنتم تذكرون بلا ريب أن بوخارين، بما عرف به من طبع صريح وطيبة مفرطة، قد أشاد في حينه بالكتاب اشادة أفزعتني الى حد ما. إني أجد نفسي مكرها على أن ألاحط عمق تبعية ليبيدنسكي لكتاب – من رفاق الدرب وأشباه رفاق الدرب – يصب عليهم، هو وأصدقاؤه في “نابوستو”، اللعنات. هأنتمذا ترون، هنا أيضا، أن الفن والسياسة ليسا مقدودين على الدوام من صخر واحد! ليس في نيتي هنا البتة أن أصدر حكما على الرفيق ليبيدنسكي. ويخيل الي أنه من الواضح لنا جميعا أن واجبنا هو أن نعير أكبر قدر ممكن من الانتباه لكل موهبة غضة قريبة إلينا فكريا، ولاسيما أذا كان الأمر يتعلق برفيق نضال. والشرط الأول لهذا الانتباه والاعتناء هو ألا نكيل مدائح سابقة لاوانها وألا نخنق النقد الذاتي. أما الشرط الثاني فهو ألا نصدر حكما نهائيا أذا ما كبا الكاتب. إن الرفيق ليبيدنسكي لا يزال صغير السن. ولا يزال عليه أن يتعلم ويتقدم. وبلنياك أيضا ضروري.
صوت – لمن؟ لليبيدنسكي أو لنا؟
تروتسكي – قبل كل شيء لليبيدنسكي.
ليبيدنسكي – هذا يعني أنني أقلد بلنياك؟
تروتسكي – المؤسف أن الجسم البشري لا يمكن أن يتغذى الا أذا سمم نفسه بنفسه وأنمى في داخله مضادات سمومه في آن واحد. هذه هي الحياة. أما إذا جففوك كما يجفف سمك الرنكة، فلن يكون هناك تسمم، ولكن لن يكون هناك أيضا غذاء، وبوجه عام لن يكون هناك شيء البتة (ضحك).
لقد هاجمني الرفيق بلتنيف، هنا بالذات، مستشهدا بفلاديمير إيليتش، ليدافع عن تصوراته المجردة عن الثقافة البروليتارية وعن الأدب البروليتاري كجزء من هذه الثقافة. حقا، لقد ضيق الخناق عليّ! ولا بد من التوقف هنا قليلا. لقد صدر مؤخرا كتاب كامل لبلتنيف وتريتياكوف وسيزون يذودون فيه عن الثقافة البروليتارية ضد تروتسكي بشواهد من لينين. إن مثل هذه الأساليب رائجة كثيرا اليوم. وفي وسع فاردين أن يكتب حول الموضوع أطروحة كاملة. بيد أنك تعلم حق العلم، يا رفيق بلتنيف، حقيقة الأمر ما دمت قد جئت بنفسك إليّ لتحتمي من سورة غضب فلاديمير إيليتش الذي كان يتهيأ، على ما كنت تتصور، فيما يتعلق ب”الثقافة البروليتارية” لالغاء “البرولتكولت” على أساس شروط محددة. وقلت لك أيضا أنني ضدك وضد حاميك بوخارين مئة بالمئة فيما يخص تجريدات بوغدانوف حول الثقافة البروليتارية.
إن الرفيق فاردين، الذي ما عاد يتكلم الآن الا بوصفه تجسيد تقاليد الحزب بالذات، لا يخشى أن يدوس بقدميه بصورة لامتناهية الفظاظة ما كتبه لينين عن الثقافة البروليتارية. إن الرياء في هذا العالم ليس بنادر كما هو معروف: فثمة من يستشهد بلينين في كل آن، ويعظ بالضبط بالعكس. لقد أذان لينين بلا هوادة، في كلمات لا تقبل أي ضرب من التأويل، “الثرثرات بصدد الثقافة البروليتارية”. ومع ذلك، ليس أسهل من التخلص من هذه الشهادة المحرجة كأن يقول القائلون: صحيح أن لينين أدان الثرثرات بصدد الثقافة البروليتارية، لكنه أدان على وجه التحديد الثرثرات، ونحن لا نثرثر، بل نتناول الأمور بجد، بل نعقد الايدي حول الخواصر… بيد أنهم ينسون أن لينين كان يدين بأقصى الصرامة أولئك الذين يستشهدون به في كل آن على وجه التحديد. إن الرياء، أكرر ذلك، موفور: يستشهدون بلينين، ويفعلون العكس.
إن الرفاق الذين يتكلمون هنا تحت يافطة الثقافة البروليتارية يستقبلون هذه الفكرة أو تلك استقبالا متباينا بحسب موقف واضعي هذه الأفكار من حلقات “البرولتكولت”. إنني أنطق عن خبرة شخصية. فكتابي عن الادب، الذي أثار قلقا شديدا لدى بعض الرفاق، ظهر أولا، كما قد يذكر بعضهم، في شكل مقالات في البرافدا. وقد كتبت ذلك الكتاب في عامين أثناء عطلة الصيف. وهذا الظرف، كما نرى الان، له بعض الأهمية فيما يخص المسألة التي تعنينا هنا. فحين ظهر القسم الأول من الكتاب مسلسلا، وهو القسم الذي يعالج أدب “ما قبل أكتوبر” و”رفاق الدرب” و”أصدقاء الموجيك”، والذي أماط اللثام عن الطابع المحدود والمتناقض لموقف رفاق الدرب الإيديولوجي والفني، بادر أنصار “نابوستو” الى تمجيدي، فصرتم تجدون في كل مكان شواهد من مقالاتي عن رفاق الدرب. وقد نؤت، لبعض الوقت، بحمل ذلك الى حد الاعياء (ضحك). كان نقدي ل”رفاق الدرب” – أكرر ذلك – يٌعد معصوما عن كل مأخد تقريبا: حتى فاردين لم يتفوه بكلمة ضده.
فاردين – الان أيضا ليس عندي شيء ضده.
تروتسكي – هذا بالضبط ما أقوله. لكن اشرح لي، والحالة هذه، لماذا تكتفي الان بجدال غير مباشر، بكلمات مكناة، مع “رفاق الدرب”؟ ما حقيقة القصد، في خاتمة المطاف؟ قد يبدو للوهلة الأولى غير مفهوم. لكن من السهل تخمينه: ليس خطئي أنني قدمت تعريفا غير دقيق للطبيعة الاجتماعية ل”رفاق الدرب” أو لأهميتهم الفنية – فحتى هذه اللحظة ليس لدى الرفيق فاردين، كما قال لنا لتوه، شيء ضده – وانما خطئي أنني لم أخر على ركبتي راكعا أمام بيانات “أكتوبر” أو “كوزنتسا”، لم أتعرف في هذه المشاريع التمثيل الوحيد للمصالح الفنية للبروليتاريا، وبكلمة واحدة، لم أقم مماثلة بين المصالح الثقافية والتاريخية للطبقة العاملة ومهامها وبين نيات بعض الحلقات الأدبية الصغيرة ومشاريعها وادعاءاتها. ذلك هو خطئي. وحين انكشف أمره تعالت جلبة، متأخرة الى حد يبعث على الدهشة: تروتسكي مع “رفاق الدرب” البورجوازيين الصعار! أأنا مع “رفاق الدرب” أم ضدهم؟ بأي معنى مع، وبأي معنى ضد؟ إنكم تدرون الجواب على هذا كله منذ زهاء عامين، من خلال مقالاتي عن “رفاق الدرب”. لكنكم كنتم موافقين يومئذ، فما كان ينضب معين لاطرائكم وشواهدكم وتصفيقكم. لكن حين اتضح بعد سنة من الزمن أن نقدي ل”رفاق الدرب” لا يفصح البتة عن نيتي في التمجيد والإشادة بهذه الحلقة الحاضرة أو تلك من حلقات المبتدئين الأدبيين(45)، أسرع الكتاب والمحامون عن هذه الحلقة، أو بالاحرى عن هذه الحلقات، يزيحون النقاب عن “أخطاء” في أحكامي على “رفاق الدرب”. يا لها من استراتيجية! ليست جريمتي أنني أصدرت حكما خاطئا على بلنياك أو ماياكوفسكي – فأعضاء “نابوستو” لم يضيفوا شيئا بل اكتفوا بتكرار ما قلته وإن بمزيد من الإبتذال – وانما جريمتي أنني وجهت الإهانة الى معملهم الأدبي. أقول: معملهم الأدبي، وأنا أعني ما أقول! فليس في كل نقدهم الشرس قلامة ظفر من وجهة نظر طبقية. هناك فقط وجهة نظر المزاحمة بين الحلقات الأدبية، ولا شيء سوى ذلك.
لقد أتيت بذكر “أصدقاء الموجيك”، ولقد سمعنا هنا أعضاء “نا بوستو” يعربون عن موافقتهم على هذا الفصل بوجه خاص. لكن الموافقة وحدها لا تكفي، بل ينبغي أيضا الفهم. ما كنه القضية؟ كنهها أن رفاق الدرب من “أصدقاء الموجيك” لا يشكلون البتة ظاهرة عارضة، مؤقتة، عديمة الدلالة. تنازلوا فتذكروا أن دكتاتورية البروليتاريا قائمة عندنا في بلد يسكنه في جله الموجيك. وبين هذه الطبقتين تجد الانتلجانسيا نفسها وكأنها مطحونة بين حجري رحى، لكنها تعاود الولادة ولا يمكن طحنها الى النهاية، أي أنها ستحافظ على وجودها ك”انتلجانسيا” لحقبة طويلة من الزمن أيضا، الى أن تدرك الاشتراكية ملء تطورها والى أن تنهض نهوضا حاسما ثقافة مجمل سكان البلاد. إن الانتلجانسيا تعمل في خدمة الدولة العمالية والفلاحية، تنصاع للبروليتاريا عن خوف من جانب وعن وعي من جانب آخر، تتردد وستتردد بحسب سير الأحداث، وتبحث لترددها عن نقطة استناد ايديولوجية في صفوف الفلاحين. من هنا كان أدب “أصدقاء الشعب” السوفياتي. ما منظوراته؟ أهو مناوئ لنا جذريا؟ هل الطريق الذي يسلكه يفضي إلينا أم يتناءى عنا؟ هذا رهن بالصورة العامة التي ستتطور بها الأمور. إن مهمة البروليتاريا، فضلا عن محافظتها في جميع الميادين على هيمنتها على الفلاحين، أن تقود هؤلاء الى الاشتراكية. وإذا منينا بفشل على هذا الطريق، أي إذا حدثت قطيعة بين البروليتاريا والفلاحين، فستصطف الانتلجانسيا صديقة الموجيك، أو بالاحرى 99 بالمئة من الانتلجانسيا بأسرها، في المعسكر المناوئ للبروليتاريا. لكن مثل هذا المآل ليس جبريا. بل عل العكس، فنحن نوجه الأمور بصورة نقود معها الفلاحين، بإمرة البروليتاريا، الى الاشتراكية. سوف يكون الدرب طويلا، طويلا للغاية. وخلال هذه المسيرة، ستلد كل من البروليتاريا والطبقة الفلاحية انتلجانسيا جديدة. ولا يجوز أن نتصور أن الانتلجانسيا التي ستكوّنها البروليتاريا ستكون بحكم ذلك إنتلجانسيا بروليتارية مئة بالمئة. فاضطرار البروليتاريا الى أن تفرز من ذاتها فئة خاصة من “شغيلة الثقافة” يفضي في حد ذاته بالضرورة الى طلاق حاد بقدر أو بآخر بين الطبقة المتأخرة في جملتها وبين الانتلجانسيا التي تبوئها المقدمة. وهذا أكثر انطباقا على الانتلجانسيا الفلاحية. فطريق الفلاحين الى الاشتراكية ليس بتاتا عين طريق البروليتاريا. وكلما تضاءلت مقدرة الانتلجانسيا – ولو كانت ألف مرة ومرة سوفياتية – على دمج طريقها بطريق الطليعة البروليتارية، اشتد ميلها الى البحث عن نقطة استناد سياسية وايديولوجية وفنية لدى الموجيك – الواقعي أو الخيالي. وهذا في الأدب أصح منه في أي مجال آخر، بالنظر الى وجود تقاليد شعبوية قديمة. هل سيكون في ذلك نفع لنا أو ضرر؟ أكرر فأقول: الجواب رهن بتمامه بالتطور المقبل للأحداث. فاذا أخذنا بيد الفلاحين تحت قيادة البرليتاريا الى الاشتراكية – ونحن على يقين قاطع بأننا سنقودهم اليها – فإن عمل “أصدقاء الموجيك” سينصهر، عبر طرق متفاوتة تعقيدا والتواء، في بوتقة واحدة والفن الاشتراكي المقبل. هذا الجانب المركًّب، لكن الواقعي والعيني تماما، للأمور هو ما لم يفهمه بصورة من الصور أعضاء “نا بوستو”، وسواهم أيضا. هنا يكمن خطؤهم الجوهري. فمن يتكلم عن “رفاق الدرب” من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الأساس والمنظورات الاجتماعية للمسألة، يكن كمن يتكلم لكي لا يقول شيئا.
اسمحوا لي، أيها الرفاق، بأن أضيف بعض الكلمات بصدد تكتيك الرفيق فاردين في مضمار الأدب، بالرجوع على الأقل إلى مقاله الأخير في ال “نا بوستو”. ليس الأمر في نظري تكتيكا، وإنما فضيحة ! نبرة مترفعة إلى دون ما حد، مشبعة صلفا وعجرفة، ولكن عدم أهلية دامغ من منظار الأفكار والمعارف. فهو ليس عنده أي مفهوم عن الفن كفن، أي كمجال خاص، نوعي، من مجالات النشاط الانساني. ولا أي تصور ماركسي عن شروط تطور الفن وسبله. وبدلا من ذلك يتلاعب بخفة المشعوذ وبطريقة شائنة بشواهد منتزعة من صحف المهاجرين البيض الذين هنؤوا – تصوروا ! – الرفيق فورونسكي على نشره مؤلفات بلنياك، أو الذين كان ينبغي أن يهنئوه، أو الذين قالوا شيئا ما موجها بصورة لا تخفى عن العين ضد فاردين، وبالتالي لصالح فورونسكي، وهكذا دواليك – علما بأن الهدف من هذا الأسلوب في التلميح والتورية هو تغطية الإنعدام التام في المعارف والتفهم. إن المقال الاخير للرفيق فاردين مكرس بتمامه لفكرة أن صحيفة الحرس الأبيض قد أيدت فورونسكي ضد فاردين حين كتبت ان كل المعركة تأتت من كون فورونسكي قد نظر الى الأدب من وجهة نظر أدبية. إليكم كيف يعبر فاردين عن فكرته: “لقد استحققت، أيها الرفيق فورونسكي، بمسلكك السياسي، تمام الإستحقاق تلك القبلة من الحرس الأبيض”. وهذا تعريض ودس، وليس بصورة من الصور تحليلا للقضية! فلئن ارتبك فاردين وأخطأ أثناء قيامه بعملية ضرب، ولئن قام فورونسكي بعملية الضرب هذه نفسها فوجد النتيجة الصحيحة، متفقا في ذلك مع عضو في الحرس الأبيض يعرف الحساب، فلست أرى الضرر الذي قد يلحق بنتيجة ذلك بسمعة فورونسكي السياسية. أجل، ينبغي أن نتناول الفن كفن، والأدب كأدب، أي كمضمار نوعي تماما من مضامير النشاط الإنساني. صحيح أننا نملك معيارا طبقيا قابلا للتطبيق في مضمار الفن أيضا، لكن هذا المعيار الطبقي محتم عليه هنا أن يصاب بضرب من انكسار الأشعة الفني، أي لابد أن يكون منسجما مع الطابع النوعي المحض لدائرة النشاط التي نطبقه عليها. إن البورجوازية تعرف ذلك عل أحسن ما تكون المعرفة: إنها تنظر، هي الأخرى، الى الفن من وجهة نظرها الطبقية، وتعرف كيف تستخلص من الفن كل ما هي بحاجة اليه منه، ولكن ذلك على وجه التحديد لأنها تعامل الفن كفن. فهل ثمة ما يدعو الى الدهشة، والحالة هذه، إذا دلل بورجوازي مثقف على عدم احترام حيال فاردين حين يلفاه يعالج المسألة بواسطة تلميحات وتعريضات سياسية بدلا من أن ينظر الى الفن من منظار معيار فني طبقي؟ واذا كان عليّ أن أشعر هنا بالخجل من شيء ما، فليس هو الخجل من اتفاقي من حيث الشكل مع عضو من الحرس الأبيض يتمتع بمعارف فنية، وإنما من اضطراري الى أن أشرح، تحت سمع هذه الحرس الأبيض نفسه وبصره، ال”الباء + ألف = با” فيما يتعلق بالمشكلات الفنية لصحفي عضو في الحزب البلشفي عنده رغبة في مناقشة هذه المشكلات. انه لأمر يدعو للرثاء حقا أن نستغني عن تحليل ماركسي للمسألة بشواهد من “بايرو” أو “دني”(46) مقرونة بلمامة من التلميح والتعريض وفلتات اللسان!
من المتعذر أن يُتناول الفن متناول السياسة. لا لأن الإبداع الفني طقس ديني وتصوف، كما قال أحدهم هنا ساخرا، وإنما لأن له قواعده وطرائقه وقوانينه الذاتية في التطور، وعلى الأخص لأن الإبداع الفني تلعب فيه دورا هاما العمليات اللاشعورية – التي هي أبطأ وأكسل وأشد استعصاء على الرقابة والتوجيه، على وجه التحديد لأنها لا شعورية. لقد قيل هنا أن مؤلفات بلنياك القريبة الى الشيوعية أضعف من أعماله الأنأى عنا سياسيا. ما علة ذلك؟ علته على وجه التحديد أن بلنياك العقلاني النزعة يتجاوز ويخلف وراءه بلنياك الفنان. فأن يدور الفنان عن عمد حول محوره، ولو لبضع درجات، أمر بالغ المشقة بالنسبة اليه، ومرتبط بوجه عام بأزمة عميقة، وأحيانا مميتة. والحال أننا مطالَـبون هنا بالقيام بانعطاف فني يستأثر لا باهتمام فرد أو حلقة صغيرة وإنما باهتمام طبقة اجتماعية بكاملها. وهذا يعني أن المسألة مسألة سيرورة بالغة الطول والتعقيد. حين نتكلم عن الأدب البروليتاري، لا بمعنى بعض أقاصيص وأشعار حائزة على قدر أو آخر من النجاح، وإنما بمعنى أوسع وأكثر جدية بما لا يقاس، بالمعنى الذي نتكلم به عن الأدب البورجوازي، فليس من حقنا أن ننسى ولو لحظة واحدة التخلف الثقافي الهائل للغالبية الساحقة من البروليتاريا. إن الفن يٌبدع على أساس تفاعل دائم بين الطبقة وفنانيها، على أصعدة الحياة اليومية والثقافة والإيديولوجيا. لم يحدث قط من قطيعة على صعيد الحياة اليومية بين الارستقراطية أو البورجوازية وبين فنانيها. فقد كان الفنانون ولا يزالون يعيشون في مناخ بورجوازي، يستنشقون هواء الصالونات الأدبية، وتتغلغل فيهم يوميا، الى لحمهم ودمهم، ايحاءات طبقتهم. ذلكم هو القوت الذي تتغدى به العمليات اللاشعورية المتحكمة بنشاطهم الإبداعي. فهل تشكل البروليتاريا المعاصرة وسطا ثقافيا وايديولوجياً يتيح للفنان الجديد، من دون أن يخرج من الحياة اليومية لهذا الوسط، امكانية تلقي جميع الايحاءات الضرورية والتمكن في الوقت نفسه من فنه؟ كلا. إن الجماهير العمالية في غاية التأخر من وجهة النظر الثقافية ؛ وتنتصب هنا عقبة كأداء بحكم كون غالبية العمال أميين أو انصاف أميين. ناهيك عن أن البروليتاريا مرغمة، ما دامت على وضعها، على استهلاك زبدة قواها في النضال السياسي وفي سبيل ايقاف الاقتصاد على قدميه وتلبية الحاجات الثقافية الأولية: النضال ضد الأمية، ضد المرض والهوام، ضد الزهري، الخ. صحيح أنه في الإمكان إطلاق اسم الثقافة البروليتارية على الطرائق السياسية والممارسة الثورية للبروليتاريا، لكن هذه ثقافة مقيض لها على كل حال أن تزول وتضمحل طردا مع تطور ثقافة جديدة، أصيلة. وهذه الثقافة الجديدة ستستحق أكثر فأكثر إسم الثقافة كلما كفت البروليتاريا عن أن تكون هي البروليتاريا، وبعبارة أخرى، كلما أدرك المجتمع الاشتراكي المزيد من التطور الكامل.
لقد كتب ماياكوفسكي شيئا قويا للغاية، أسماه “الرسل الثلاثة عشر”، ومحتواه الثوري كان لا يزال في منتهى الإبهام والضبابية. لكن حين عقد ماياكوفسكي هذا نفسه العزم على القيام بانعطاف كي يتبع خط البروليتاريا فكتب ال”150 مليونا”، كابد من أمرّ الفشل وأقسى الخيبة على صعيد النزعة العقلانية. وهذا يعني أنه تخطى، في مرتبة العقل، امكانياته المبدعة العميقة. وقد سبق أن لاحظنا لدى بلنياك هذا التفاوت بين النيات الواعية والعمليات المبدعة اللاشعورية. بيد أنه ينبغي أن نضيف الى هذا أن الأصل البروليتاري القح عاجز بحد ذاته، في الشروط الراهنة، عن أن يعطي الكاتب نوعا من ضمانة بأن أعماله ستكون مرتبطة عضويا بطبقته. كما لا تستطيع أي حلقة من حلقات الكتاب البروليتاريين أن تعطي مثل هذه الضمانة، على وجه التحديد لأن الحلقة التي تنذر نفسها لنشاط فني مرغمة من هنا بالذات، في الشروط الراهنة، على الانفصال عن طبقتها وعلى تنشق نفس الهواء الذي يتنشقه “رفاق الدرب” في خاتمة المطاف. انها تصبح حلقة أدبية بين حلقات أخرى مماثلة.
لقد كان بودي أيضا أن أقول بعض كلمات عما أتفق على تسميته ب”المنظورات”، لكن الوقت المحدد لي للكلام قد انتهى منذ زمن طويل.
أصوات – تابع، تابع.
تروتسكي – يعترض عليّ المعترضون بقولهم: “أعطنا على الأقل منظورات”. ما معنى ذلك؟ إن “نا بوستو” والحلقات المتحالفة معها تتشبث بأدب بروليتاري يتم انشاؤه في حلقات صغيرة، بطرائق مخبرية. هذا منظور أرفضه رفضا قاطعا. وإني لأكرر ذلك مرة اخرى: لا يمكن بتاتا أن نضع على مستوى تاريخي واحد الأدب الإقطاعي والأدب البورجوازي والأدب البروليتاري. فمثل هذا التصنيف التاريخي فاسد من جذوره. لقد قلت ذلك في كتابي، ولقد بدت لي جميع الاعتراضات على ما قلت بعيدة عن الجد أو بعيدة عن الإقناع. فأولئك الذين يتكلمون بجد عن ثقافة بروليتارية ومن منظور مرحلة طويلة، والذين يجعلون من الثقافة البروليتارية برنامج عمل، يفكرون بهذه المسألة بالقياس الشكلي على الثقافة البورجوازية. فالبورجوازية وضعت يدها على السلطة وأبدعت ثقافتها الخاصة بها، وسوف تبدع البروليتاريا بدورها، بعد أن تضع يدها على السلطة، ثقافة بروليتارية. لكن البورجوازية طبقة غنية، وبالتالي مثقفة. ولقد كانت الثقافة البورجوازية قائمة حتى قبل أن تستولي البورجوازية على السلطة رسميا. وإذا كانت البورجوازية استولت على السلطة، فهذا تدعيما وتأييدا لهيمنتها. أما البروليتاريا في المجتمع البورجوازي فطبقة محرومة، لا تملك شيئا، وليست بالتالي في وضع يؤهلها لإبداع ثقافتها الخاصة بها. وباستيلائها على السلطة تتاح لها فقط، لأول مرة، امكانية ادراك مدى تأخرها الثقافي المخيف. وحتى تتغلب على هذا التأخر، لا بد لها أولا من إزالة الشروط التي تحكم عليها بأن تبقى طبقة. وسيكون في المستطاع الكلام عن ثقافة جديدة بقدر ما يتضاءل ويضمحل أكثر فأكثر طابعها الطبقي. هذا هو لب المسألة، والخلاف الرئيسي عند الكلام عن المنظورات. يشط بعضهم عن الموقف المبدئي بصدد الثقافة البروليتارية ويقولون: إن ما نضعه نصب أعيننا هو فقط مرحلة الإنتقال الى الإشتراكية، تلك الأعوام العشرون أو الثلاثون أو الخمسون التي ستكون ضرورية لهدم العالم البورجوازي وبناء عالم جديد. هل يمكننا أن نسمي أدبا بروليتاريا الأدب الذي سيجري إبداعه إبان تلك الحقبة، برسم البروليتاريا ولصالحها؟ على كل حال، نحن نعطي هنا مصطلح “الأدب البروليتاري” معنى مغايرا تماما للمعنى الذي كان له في تصورنا الأول. بيد أن جوهر المسألة لا يكمن هنا. فالسمة الأساسية لمرحلة الانتقال الى الاشتراكية ستكون، على الصعيد العالمي، صراعا حادا بين الطبقات. والسنوات العشرون أو الخمسون التي نتحدث عنها ستكون قبل كل شيء مرحلة حرب أهلية سافرة. بيد أن الحرب الأهلية اذا كانت تعد العدة لثقافة المستقبل العظيمة، فإنها بالمقابل تلحق أفدح الضرر بالثقافة الراهنة. ولقد كانت واحدة من النتائج المباشرة لأكتوبر موت الأدب. فقد صمت الشعراء والفنانون. أهي مصادفة؟ كلا. فقد قالها القائلون منذ زمن طويل: حين يقصف المدفع تخرس ربات الفن. ولم يكن هناك بد من استرداد قليل من أنفاسنا حتى يعاود الأدب الولادة. وقد بدأ الأدب يعود الى الحياة مع السياسة الإقتصادية الجديدة. لكنه سرعان ما تسربل بالألوان التي أسبغها عليه رفاق الدرب. لا سبيل الى عدم أخذ الوقائع بعين الإعتبار. فأوقات التوتر الحاد، أي الاوقات التي يجد فيها عصرنا الثوري سامي تعبيره، غير موائمة للأدب وللإبداع الفني بوجه عام. واذا اندلعت شرارة الثورة غدا في ألمانيا أو في أوروبا، فهل ستتمخض بالنسبة الينا عن ازدهار فوري للأدب البروليتاري؟ مؤكد أن لا. فهي بدلا من أن تطور الإبداع الفني، ستخمد أنفاسه وستسحقه، أذ أنه سيتوجب علينا أن نستنفر قوانا من جديد وأن نتسلح ونهب هبة رجل واحد. وحين يقصف المدفع، تخرس ربات الفن.
أصوات – دميان لم يخرس!
تروتسكي – دميان، ودميان أيضا ! كفانا دميان ! إنكم لتبدؤون، أول ما تبدؤون، بالإعلان عن عصر جديد في الأدب البروليتاري، وتنشئون لهذا الغرض حلقات وجماعات وجمعيات، وحين يُطلب منكم بيان أكثر عيانية بهذا الأدب البروليتاري، تنهالون علينا بدميانكم. والحال أن دميان نتاج الأدب القديم لما قبل أوكتوبر. إنه لم يؤسس أي مدرسة. لقد تتلمذ على كريلوف وغوغول ونكراسوف. وهو، بهذا المعنى، تابع ثوري لأدبنا القديم. وترتيبا عليه، انكم برجوعكم اليه تنكرون أنفسكم بأنفسكم…
ما المنظورات إذن؟ المنظور الرئيسي هو تقدم التعليم والقضاء على الأمية، ومضاعفة عدد المراسلين العماليين، وتطوير السينما، والتحويل التدريجي للحياة اليومية وللأخلاق، ونهوض المستوى الثقافي في المستقبل. هذه هي السيرورة الأساسية التي ستتخللها تفاقمات جديدة للحرب الأهلية، ولكن على النطاق الأوروبي، بله العالمي، هذه المرة. وعلى هذا الأساس سيكون خط الإبداع الأدبي الصرف شديد التعرج. إن “كوزنتسا” و”أوكتوبر” وما شابههما من الروابط ليست بحال من الأحوال مقدمات نشاط البروليتاريا الثقافي الطبقي، وإنما هي مجرد ظواهر عارضة لا تهم سوى حلقات ضيقة لبعض الشخصيات. وإذا خرّجت هذه الجماعات بعض شعراء أو بعض كتاب موهوبين من الشباب، فلن يكون الأدب البروليتاري قد رأى النور، ولكن ذلك سيكون مفيدا على كل حال. بيد أنكم إذا أفرغتم جهدكم في تحويل “رابطة كتاب موسكو البروليتاريين” أو “رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين” الى معامل للأدب البروليتاري، فمآلكم الى فشل بالتأكيد، مثلما كان مآلكم الى فشل حتى الآن. إن العضو في رابطة من هذا القبيل يعد نفسه إما ممثلا للبروليتاريا في الفن، وإما ممثلا للفن في البروليتاريا. يبدو اذن أن الإنتماء الى “رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين” يقلد المنتمي لقبا معينا. قد يعترض عليّ معترض بقوله أن “رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين” هي مجرد وسط شيوعي، يوصل الى الشاعر الشاب الإيحاءات الضرورية، الخ. حسنا، ولكن ماذا عن الحزب الشيوعي في هذه الحال؟ إذا كان ذلك الشاعر الشاب شاعرا فعلا وشيوعيا أصيلا، فإن حزب روسيا الشيوعي سيقدم اليه، بعمله كله، قدرا من الإيحاءات أكبر بما لا يقاس مما تقدمه له “رابطة كتاب موسكو البروليتاريين” أو “رابطة كتاب الإتحاد السوفياتي البروليتاريين”. مؤكد أن الحزب ملزم – وهو سيفعل ذلك – بأن يحيط بأكبر قدر من العناية والرعاية كل موهبة فتية قريبة اليه وتربطها به وشيجة الأفكار. لكن مهمته الرئيسية في ميدان الأدب والثقافية تبقى تطوير التعليم – سواء التعليم بحصر معنى الكلمة أو التربية السياسية والعلمية – لصالح الجماهير العمالية، ومن ثم إرساء أسس فن جديد.
أعرف تماما أن هذا المنظور لا يشفي غلتكم. وأنه لا يبدو لكم على درجة كافية من العيانية. لماذا؟ لأنكم تتصورون تطور الثقافة في المستقبل تصورا مبالغا في منهجيته، على أساس أن المسيرة مقدرة ومتوقعة مسبقا، فأنتم تقولون أن البذور الحالية للأدب البروليتاري ستنمو وستكبر، وستغتني باستمرار، وسيأتي اليوم الذي يتكون فيه أدب بروليتاري حقيقي لا يلبث أن يذوب وينصهر في تيار الأدب الإشتراكي العظيم. كلا، لن تسير الأمور على هذا المنوال. فبعد المرحلة الراهنة، مرحلة استرداد الأنفاس التي نرى فيها – ليس في الحزب وإنما في الدولة – ولادة أدب موسوم بقوة بميسم “رفاق الدرب”، ستأتي مرحلة تتخللها تشنجات عنيفة جديدة، مرحلة جديدة من الحرب الأهلية. ولن يكون لنا خيار في الإمتناع عن خوضها. ومن المرجح في هذه الحالة أن يتحفنا شعراء ثوريون بقصائد كفاحية جيدة، لكن التطور العام للأدب سيجد نفسه بالرغم من ذلك وقد كبح بفظاظة وقسوة. فالقوى جميعا سيقذف بها الى المعركة. ترى هل ستتاح لنا بعدئذ مرحلة استرداد أنفاس جديدة؟ أجهل ذلك. لكن تلك المرحلة الجديدة من الحرب الأهلية، التي ستكون أوسع نطاقا وأشد ضراوة، سيكون من نتيجتها – في حال انتصارنا – تدعيم الأسس الإشتراكية لاقتصادنا تدعيما متينا ونهائيا. سوف تتوفر لنا تقنية جديدة ووسائط جديدة على صعيد التنظيم. وسوف يأخذ تطورنا وتيرة مختلفة تماما. وإنما على هذا الأساس الجديد، وبعد تقلبات الحرب الأهلية وتعرجاتها وهزاتها، سنشرع ببناء حقيقي للثقافة، وبالتالي بإبداع أدب جديد. هذه الثقافة ستكون فعلا ثقافة اشتراكية، قائمة على أساس تبادل متصل بين الفنان وبين الجماهير المدركة درجة رفيعة من التطور الثقافي، ومعززة بروابط التضامن بين الطرفين. أنتم لا تضعون هذا المنظور نصب أعينكم، وإنما تحلون محله منظوركم، منظور حلقاتكم. أنتم تريدون أن يعترف الحزب رسميا بمعملكم الفني الصغير باسم الطبقة العاملة وتتصورون أنكم، بزرعكم حبة فاصولياء في أصيص أزهار، ستمتلكون المقدرة على إنماء شجرة الأدب البروليتاري. لكن لن تولد أبدا أية شجرة من حبة فاصولياء.