العناصر التكوينية لنظرية تروتسكي حول الفاشية
الفصل الأول
تاريخ الفاشية هو في الوقت ذاته تاريخ تحليل الفاشية النظري. وتزامن ظهور ظاهرة اجتماعية جديدة مع المحاولات المبذولة لفهمها أمر أكثر إثارة في حالة الفاشية مما في أي مثال آخر في التاريخ المعاصر.
وهذا التزامن يمد جذوره في واقع أن ظهور هذه الظاهرة الجديدة المفاجئ بدا يقلب مسيرة التاريخ نحو «التقدم» رأسا على عقب. وقد كانت الصدمة التي شعر بها المراقبون اليقظون أشد تأثيرا لاسيما أنه رافقت هذا الانقلاب التاريخي ممارسة العنف الجسدي المباشر ضد الأفراد. بغتة أصبح المصير التاريخي والمصير الفردي شيئا واحدا وحيدا بالنسبة للآلاف من البشر، ثم للملايين فيما بعد. ولم تتساقط الأحزاب السياسية وحسب، بل أصبح وجود مجموعات بشرية كبيرة وبقاؤها المادي موضع شك فجأة.
يمكن إذا أن نفهم لماذا حاول أولئك الذين كانوا معنيين مباشرة، حاولوا على الفور تقريبا أن يتوصلوا لفهم الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه. وقد تبادر السؤال: «ما هي الفاشية؟» بصورة حتمية من لهب أول بيت للشعب أحرقته العصابات الفاشية في إيطاليا. وهذا السؤال شغل طيلة 40 عاما (حتى فترة ما بعد الحرب مباشرة) منظري الحركة العمالية الرئيسيين والانتليجنسيا البورجوازية في الوقت ذاته. ومع أن ضغط الأحداث التاريخية و«الماضي غير المتحكم به»[1] قد خف بعض الشيء في السنوات الأخيرة، إلاّ أن نظرية الفاشية ما تزال موضوعة ملحة من موضوعات العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع السياسي.
وليس مدهشا، بالنسبة لمن يعرف كم علوم التاريخ المزعومة محددة اجتماعيا، ملاحظة أن محاولات تفسير أكبر مأساة في التاريخ الأوروبي المعاصر تنطوي في الغالب على مقدار من الإيديولوجيا الحزبية أكبر بكثير من مقدار العلم[2]. والوقائع المعطاة، التي لا جدال فيها، المستمدة من الواقع التاريخي المعاصر بالذات، تشكل مواد المعالجة العلمية. وكل جيل من البحّاثة في العلوم السياسية والاجتماعية يرث الجزء الأعظم من مفاهيمه البضعية التي ينظم هذه المواد بواسطتها ويعيد تنظيمها. هذه المفاهيم لم يتم تجديدها إلاّ جزئيا، ويمكن اعتبارها، هي أيضا، مكتسبة. إلا أن المفاهيم البضعية والمواد لا تحدد في أي من الحالات طريقة تطبيق تلك الأدوات التحليلية على المواد، ولا النتائج التي يؤدي إليها هذا التطبيق. فمن الناحية الموضوعية، مثلا، يمكن الذهاب في العديد من الإتجاهات المختلفة إنطلاقا من مفهوم الحزب البيروقراطي الذي إبتدعه روبيرت مايكلز أو من مفهوم «الانتلجينسيا العائمة» (Floating Intelligentsia) الذي ابتكره مانهايم. إلاّ أن المعالجة العلمية لا تنطلق من كل هذه الاتجاهات الممكنة في آن معا، بل في واحدة منها أو بعضها وحسب. علاوة على أن وجهات البحث الرئيسية تدافع عموما عن مفاهيم سياسية خاصة تعزز ثقة بعض الطبقات الاجتماعية بذاتها عن طريق الحد كثيرا من قابليتها السياسية والمعنوية للعطب حيال هجمات الطبقات الاجتماعية المعادية لها، والحالة هذه، يمكن الشك بصعوبة في واقع أننا إذاك حيال مسعى وظيفي، أي أن التفسير الغالب لهكذا حدث تاريخي يضمن وظيفة نوعية خاصة ضمن النزاعات الاجتماعية الجارية[3].
يبدو لنا إذا بديهيا أنه يصعب تفسير تزامن ظهور الفاشية وتحليل الفاشية النظري استنادا فقط إلى حقيقة أن الواقع التجريبي كان في غاية الإلحاح. ولقد حاول المنظرون إدراك جوهر الفاشية، لا فقط لأنهم كانوا يحبون علم الاجتماع أو المعرفة العلمية بوجه عام، بل كذلك لأنهم انطلقوا من الفرضية المعقولة تماما، وسهلة الفهم، التي تقول أنه بقدر ما يفهمون طبيعة الفاشية بشكل أفضل، بقدر ما يصبحون أكثر قدرة على مكافحتها.
هكذا فالنمو المتوازي للفاشية وتحليل الفاشية النظري يستتبعان بالضرورة نوعا من عدم الاتساق. فالفاشية لم تنم بالسرعة التي نمت فيها خلال عشرين عاما إلاّ لأن طبيعتها الحقيقية لم يتم فهمها بشكل صحيح، ولأنه كانت تنقص خصومها نظرية علمية حول الفاشية، ولكون النظرية المسيطرة في تلك الحقبة كانت خاطئة أو ناقصة.
علينا أن نتكلم على عدم الاتساق، لأننا لا نعتقد أن انتصار الفاشية المؤقت في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا ناجم عن قوى القدر العمياء، التي ليست في متناول عمل الناس والطبقات الاجتماعية، بل عن العلاقات الإقتصادية، والسياسية والأيديولوجية بين الطبقات الاجتماعية الخاصة بالرأسمالية الجديدة (Late capitalism) التي يمكن فهمها وقياسها بدقة والتحكم بها. فإذا انطلقنا من فرضية أن انتصار الفاشية المؤقت لم يكن حتميا ولا مقدورا، يستتبع ذلك أنه كان بوسع نظرية صحيحة تسلط الأضواء على حقيقة هذه الظاهرة أن تجعل النضال ضد الفاشية أسهل بكثير.
إن تاريخ الفاشية، هو إذن تاريخ عدم ملائمة النظرية المسيطرة بصدد الفاشية، في الوقت ذاته. وهذا لا يعني إطلاقا أن النظرية غير الملائمة هذه كانت الوحيدة. فعلى أطراف القوى السياسية المنظمة ذات الامتداد الجماهيري نجد انتلليجنسيا لا يمكن لدقتها في التحليل إلاّ أن تثير دهشتنا وإعجابنا اليوم. فهؤلاء المنظرون فهموا الظاهرة الجديدة، وفهموا باكرا جدا ما تمثله من خطر. وقد نبّهوا معاصريهم وعينوا طريقة الانتصار على الوحش المهدّد، وفعلوا كل ما يمكن فعله في دائرة النظرية.
إلاّ أن النظرية لا يمكنها أن تصنع، لوحدها، التاريخ، إذ لكي تتوصل إلى نتائج عليها أن تكسب الجماهير. فالبيروقراطيات التي كانت تقود منظمات الطبقة العاملة الجماهيرية أبقت الجماهير بعيدا عن النظرية الملائمة بصدد الفاشية، وعن الاستراتيجية والتكتيك المناسبين لمكافحتها. والثمن الذي دفعته هؤلاء البيروقراطيون كان هزيمة تاريخية، ووصل في الغالب إلى حد الإبادة الجسدية، أمّا الثمن الذي دفعته البشرية فكان أعظم بما لا يقاس، وحتى الستون مليون من قتلى الحرب العالمية الثانية لا يشكلون إلاّ جزءا من الضريبة التي دفعها الجنس الإنساني، لأن النتائج الموضوعية لانتصار الفاشية (لا سيما في ألمانيا) ما تزال قائمة إلى اليوم في العديد من المجالات[4].
بيد أنه لا يحصل شيء في التاريخ سدى، فلكل الوقائع التاريخية نتائج إيجابية على المدى الطويل. ومع أنه لم يكن للنظرية العلمية حول الفاشية تأثير جماهير كاف لإيقاف المسيرة الظافرة للعصابات الفاشية في الثلاثينات وبداية الأربعينات، فهي ما تزال ثاقبة إلى اليوم. فإذا جرى استيعاب تعاليمها، يمكن أن تضيء الظاهرات الاجتماعية الجديدة لما بعد الحرب وأن تفسرها، ويمكن أن تعدّ لمعارك جديدة وتتحاشى هزائم جديدة.
ليس من قبيل الصدفة إذا أن يكون انبعاث الماركسية الخلاقة في ألمانيا الغربية (انبعاث حفزه على وجه الخصوص تجذر الطلاب الكثيف) قد أعاد الاهتمام بنظرية الفاشية. ومن الصواب بمكان إذا أن يكون الجزء الأول من أعمال تروتسكي الكاملة الذي نشر في ألمانيا الاتحادية خصّص لكتاباته عن الفاشية. لأنه لا شك بأن تروتسكي يشغل المكانة الأولى بين العدد القليل من المنظرين الذين فهموا جوهر الفاشية ووظيفتها بشكل صحيح.