العناصر التكوينية لنظرية تروتسكي حول الفاشية
إن نظرية تروتسكي حول الفاشية كل مؤلف من ستة عناصر، يتمتع كل منها بدرجة من الاستقلال ويتطور على قاعدة تناقضاته الداخلية، لكن يستحيل فهمها إلاّ ككل مغلق ودينامي، ولا يمكن لغير تداخلها أن يفسر صعود الديكتاتورية الفاشية وانتصارها وأفولها[18].
(أ)- إن صعود الفاشية هو التعبير عن الأزمة الاجتماعية الخطيرة التي تعاني منها الرأسمالية في مرحلة نضجها، وهي أزمة بنيوية يمكن أن تتطابق، كما في أعوام 1929-1933 مع أزمة فيض إنتاج اقتصادية كلاسيكية، لكنها تتخطى إلى حد بعيد اهتزازا كهذا في الظروف. فالأمر يتعلق قبل كل شيء بأزمة إعادة إنتاج لرأس المال، أي باستحالة مواصلة مراكمة «طبيعية» لرأس المال، بسبب المنافسة القائمة في السوق العالمية (مستوى الأجور الفعلية وإنتاجية العمل، الوصول إلى المواد الأولية وأسواق التصريف). إن الوظيفة التاريخية لاستيلاء الفاشيين على السلطة هي في تعديل شروط إعادة إنتاج رأس المال، بالقوة والعنف، لصالح مجموعة حاسمة في الرأسمالية الاحتكارية.
(ب)- ضمن شروط الإمبريالية والحركة العمالية المعاصرة، المتطورة تاريخيا، تجري ممارسة سيطرة البرجوازية على المستوى السياسي بالشكل الأكثر نفعا –أي بأخف التكاليف- بواسطة الديموقراطية البرلمانية البرجوازية التي تتمتع بميزتين اثنتين: أولاهما أنها تنزع بصورة دورية صاعق التناقضات المتفجرة في المجتمع بواسطة بعض الإصلاحات الاجتماعية، وثانيهما أنها تشرك في السلطة السياسية، مباشرة أو مداورة، قطاعا مهما من الطبقة البرجوازية (عن طريق الأحزاب البرجوازية والصحف والجامعات ومنظمات أرباب العمل، وإدارات الأرياف والأقاليم، وقمم جهاز الدولة، ونظام المصرف المركزي).إلا أن هذا الشكل من سيطرة البورجوازية الكبرى- وهو ليس الوحيد من وجهة النظر التاريخية[19]- يحدده توازن رجراج للغاية على مستوى علاقات القوى الاقتصادية والاجتماعية. فإذا قطع التطور الموضوعي هذا التوازن لا يعود أمام البورجوازيات الكبرى غير مخرج واحد، هو أن تحاول إرساء شكل أعلى من أشكال مركزة السلطة التنفيذية بهدف تحقيق مصالحها التاريخية، مقابل التخلي عن ممارسة السلطة السياسية بصورة مباشرة. إن الفاشية هي إذا، من الناحية التاريخية، تحقيق الاتجاهات الملازمة لرأس المال الاحتكاري ونفيها في آن معا، تلك الاتجاهات التي كان هيلفردينغ أول من كشفها، والتي تعمل على «تنظيم» حياة المجتمع بأكمله بشكل «كلياني» لصالح رأس المال المشار إليه[20]:تحقيق، لأن الفاشية اضطلعت بهذه الوظيفة، ونفي، لأنها كانت عاجزة عن الاضطلاع بها بغير مصادرة سياسية عميقة للبورجوازية[21]، وذلك بعكس أفكار هيلفردينغ.
(ج)- ضمن شروط الرأسمالية الصناعية الاحتكارية المعاصرة، لا يمكن من الناحية العملية تحقيق هذا القدر من مركزة السلطة السياسية الذي يفترض علاوة على ذلك تدمير الجزء الأكبر من مكاسب الحركة العمالية المعاصرة (ولا سيما كل «بذور الديموقراطية البروليتارية في إطار الديموقراطية البرجوازية» مثلما يسمي تروتسكي، بحق، منظمات الحركة العمالية)،عبر وسائل تقنية خالصة، بسبب انعدام التناسب العددي، إلى حد بعيد، بين الأجراء ومالكي رأس المال الكبير.
إن ديكتاتورية عسكرية أو دولة بوليسية خالصة –لكي لا نقول شيئا عن الملكية المطلقة- لا تستحوذ على وسائل كافية لتذرير طبقة اجتماعية واعية، تضم ملايين الأفراد، وتثبيط همتها، وإفقادها معنوياتها، وهكذا تلافي كل نمو للصراع الطبقي الأكثر أولية، نمو تستثيره بشكل دوري حركة قوانين السوق بمفردها. لأجل ذلك، تلزم حركة جماهيرية تعبئ عددا كبيرا من الأفراد. إن حركة من هذا النوع، ولا شيء غيرها، يمكن أن تهلك الجزء الأكثر وعيا ضمن البروليتاريا، وأن توهن عزيمته، بواسطة ‘إرهاب جماهيري منظم، وحرب إزعاج ومعارك شوارع، وألاّ تترك البروليتاريا، بعد الاستيلاء على السلطة، مذرّرة وحسب، بفعل تدمير منظماتها الجماهيرية تدميرا كليا، بل كذلك موهنة العزيمة وخاضعة. وتستطيع هذه الحركة الجماهيرية أن تتوصل، بواسطة طرائقها الخاصة المكيفة مع متطلبات علم نفس الجماهير، لا فقط إلى أن يتولى جهاز عملاق من حراس المباني، ورجال البوليس، وخلايا م.ح.ن.م.[22]، والجواسيس إخضاع الأجراء الواعين سياسيا لرقابة دائمة، بل كذلك إلى أن يتأثر الجزء الأقل وعيا بين العمال، ولا سيما بين المستخدمين، على المستوى الأيديولوجي، وتتم إعادة دمجه جزئيا في تعاون طبقي فعلي.
(د)- إن حركة جماهيرية من هذا النوع لا يمكن أن تنبثق إلاّ من داخل الطبقة الثالثة في المجتمع، أي البورجوازية الصغيرة، التي تتواجد في المجتمع الرأسمالي بمحاذاة البروليتاريا والبرجوازية. فحين تتأثر البرجوازية الصغيرة تأثرا عميقا بالأزمة البنيوية الخاصة بالرأسمالية في طور نضجها، بحيث تقع في مهاوي اليأس (تضخم، إفلاس المقاولين الصغار، البطالة الكثيفة على مستوى حملة الدبلومات والتقنيين وكبار المستخدمين، الخ، حينذاك بالذات، تنبثق على الأقل على صعيد جزء من هذه الطبقة حركة بورجوازية صغيرة نموذجية، هي خليط من تذكرات أيديولوجية مبهمة وحقد نفسي، يجمع إلى شعور قومي أقصى و ديماغوجية معادية للرأسمالية[23] بعنف، لفظيا على الأقل، عداء عميقا تجاه الحركة العمالية المنظمة («لا ماركسية» «لا شيوعية»). ومذ تلجأ هذه الحركة، التي تظهر على وجه الخصوص بين العناصر المنحطة طبقيا من البرجوازية الصغيرة، إلى أعمال عنف مكشوفة ضد الأجراء وأعمالهم ومنظماتهم، تكون ولدت حركة فاشية. هذه الحركة تجد نفسها، بعد مرحلة تطور مستقل تسمح لها بأن تصير حركة جماهيرية وأن تقوم بأعمال جماهيرية، محتاجة إلى الدعم المالي والسياسي من جانب كتل مهمة على مستوى رأس المال الاحتكاري، وذلك من أجل الارتقاء إلى السلطة.
(ه)ـ غير أن إهلاك الحركة العمالية وسحقها المسبقين اللذين يعدان أمرين لا غنى عنهما حين تود الديكتاتورية الفاشية أن تضطلع بدورها التاريخي، ليسا ممكنين إلاّ إذا مالت كفة الميزان بشكل حاسم، في الفترة التي تسبق الاستيلاء على السلطة، لصالح العصابات الفاشية ولغير صالح العمال[24].
إن صعود حركة فاشية جماهيرية هو تأسيس، بشكل من الأشكال، للحرب الأهلية، حيث لكلا الطرفين حظ الانتصار موضوعيا، (وهذا هو السبب في أن البرجوازية الكبرى لا تدعم تجارب من هذا النوع، ولا تمولها، إلاّ ضمن شروط خاصة للغاية، «غير طبيعية»، ذلك أن سياسة الخسارة أو الربح المضاعف هذه تنطوي على مخاطرة منذ البدء). فإذا نجح الفاشيون في كسح العدو، أي الطبقة العاملة المنظمة، وفي شلها وتثبيط همتها وتوهين عزمها، تحقق لهم النصر. وعلى العكس، إذا نجحت الحركة العمالية في رد الهجوم واتخاذ المبادرة بذاتها، فهي لن تنزل هزيمة حاسمة بالفاشية وحسب، بل أيضا بالرأسمالية التي ولّدتها. وهذا يرجع إلى أسباب تقنية –سياسية، واجتماعية-سياسية، واجتماعية-نفسية.
في البدء لا تنظم العصابات الفاشية إلاّ القسم الأكثر تصميما والأكثر يأسا من البرجوازية الصغيرة (القسم «المهووس»). أمّا جمهور البرجوازيين الصغار مضافا إلى الجزء قليل الوعي والتنظيم من الأجراء، ولا سيما العمال والمستخدمين الفتيان، فيتأرجح عادة بين المعسكرين. إنه يميل للاصطفاف بجانب من يبدي أكبر قدر من الجرأة وروح المبادرة، يراهن على الحصان الرابح. وهو ما يسمح بالقول أن انتصار الفاشية يعبر عن عجز الحركة العمالية عن حل أزمة الرأسمالية الناضجة وفقا لمصالحها وأهدافها الخاصة بها. وفي الواقع فإن أزمة من هذا النوع توفر عموما فرصة للحركة العمالية كي تفرض نفسها. ولا يمكن للنزاع أن يؤدي لانتصار الفاشية الاّ حين تكون الحركة المذكورة تركت تلك الفرصة تفلت من يدها وتتعرض الطبقة للتضليل والانقسام والإحباط.
(و)- إذا لم تنجح الفاشية في «سحق الحركة العمالية تحت ضرباتها العنيفة»، فهي قد أدت مهمتها في نظر ممثلي الرأسمالية الاحتكارية، تتبقرط حركتها الجماهيرية وتذوب في جهاز الدولة البورجوازية وهو ما لا يمكن أن يتم إلاّ منذ أن تختفي الأشكال القصوى للديماغوجية الشعبية البرجوازية الصغيرة، التي كانت من بين «أهداف الحركة»، تختفي من السطح ومن الأيديولوجيا الرسمية. وهو ما لا يتناقض إطلاقا مع استمرار جهاز دولة ممركز إلى حد بعيد. فإذا انهزمت الحركة العمالية وتعدلت شروط إعادة إنتاج رأس المال داخل البلاد في اتجاه ملائم بشكل أساسي للبرجوازية الكبيرة، تختلط مصلحتها السياسية بضرورة إحداث تبديل مشابه على مستوى السوق العالمية. ويدفع في هذا الاتجاه أيضا خطر إفلاس الدولة. إن سياسة الخسارة أو الربح المضاعف التي تعتمدها الفاشية يجري نقلها إلى مستوى الدائرة المالية، وهي تغذي تضخما دائما، ولا تترك في النهاية مخرجا آخر غير المغامرة العسكرية في الخارج. إن تطورا من هذا النوع لا يناسب إطلاقا تقوية دور البرجوازية الصغيرة في الاقتصاد والسياسة الداخلية. على العكس، فهو يحدث اختلالا في مواقفها (إذ استثنينا الجزء الذي يمكن أن يتغذى بمداخيل جهاز دولة أعطي استقلاله الذاتي). وليست تلك نهاية «استعباد المقرضين»، بل هي على العكس تسريع لتركيز رأس المال. وهنا يتكشف طابع الديكتاتورية الفاشية الطبقي الذي لا يتناسب مع الحركة الفاشية الجماهيرية، فهي لا تدافع عن مصالح البورجوازية الصغيرة التاريخية،بل عن مصالح رأس المال الاحتكاري. وما أن يتحقق هذا الاتجاه حتى تضيق حتما قاعدة الفاشية الجماهيرية الفاعلة والواعية. إن الديكتاتورية الفاشية تميل هي ذاتها إلى تدمير قاعدتها الجماهيرية والحد منها. تصبح العصابات الفاشية ملحقات للشرطة. وتتحول الفاشية مجددا في مرحلة انحدارها إلى شكل خاص من البونابرتية[25].
تلك هي العناصر التكوينية لنظرية تروتسكي حول الفاشية. إنها تستند إلى تحليل الشروط الخاصة التي ينمو ضمنها صراع الطبقات في البلدان المتقدمة صناعيا إبان الأزمة البنيوية التي تعاني منها الرأسمالية في طور نضجها (يتكلم تروتسكي على «طور أفول الرأسمالية») وإلى دمج خاص –خاص بماركسية تروتسكي- للعوامل الموضوعية والذاتية في نظرية صراع الطبقات كما في محاولة التأثير على هذا الصراع عمليا.