بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

العناصر التكوينية لنظرية تروتسكي حول الفاشية

« السابق التالي »

الفصل الرابع

كيف تتحمل هذه النظرية التروتسكية عن الفاشية مقارنتها بالنظريات الآتية من تيارات أخرى في الحركة العمالية؟ ما هي الملامح النوعية الخاصة التي تظهر حين نقارن نظرية تروتسكي بدراسات أخرى حول الفاشية استنادا إلى المنهج الماركسي؟

إن ما يلفت أكثر ما يلفت لدى الكتّاب الاشتراكيين-الديموقراطيين، إنما هي التجريبية، ونبرة الاعتذار التي يستخدمونها في تحليلاتهم: على النظرية أن تهرع لمساعدة ممارسة انتهازية قصوى وأن تفسر فشلها بـ«خطأ معارضينا». في تلك الفترة، لم تكن هذه الانتهازية قد قطعت بعد علاقتها الوثيقة بالماركسية المبتذلة، الجبرية والموضوعية الخاصة بكاوتسكي. إذا لم يتم التذرع بـ«خطأ معارضينا»، تلقى المسؤولية على وزن الشروط الموضوعية: لم تكن «موازين القوى» تسمح ببلوغ نتائج أفضل. إن هذه المدرسة لم تستوعب يوما واقع أنه يمكن تبديل موازين القوى هذه عبر العمل (وبوجه خاص، واقع أننا بسلبيتنا الخاصة بنا، نسمح بقلب موازين القوى لصالح العدو الطبقي). إن مضمون هذه النظريات الأساسي يبدو بوضوح في الموضوعة التي ترى أن تحريض «البلاشفة» الراديكالي وفر الفرصة –أو حجة على الأقل- للفاشية كي تعبئ الشرائح الخائفة والمحافظة بين السكان: الفاشية هي العقاب الذي تنزله البرجوازية الكبرى بالبروليتاريا لقاء تحريضها الشيوعي. «إذا لم تكونوا تريدون إرعاب البورجوازية الصغيرة وإزعاج الرأسماليين الكبار، فأبقوا معتدلين». إن الحكمة الليبرالية كليا الخاصة بـ«الطريق الذهبية»[26] تتناسى تماما أن إفلاس البرلمانية البورجوازية «المعتدلة»، الروتينية، التي يقابلها تكثيف الأزمة البنيوية الخاصة بالرأسمالية الجديدة، هو الذي يلقي بالبورجوازية الصغيرة البائسة بين ذراعي الفاشيين. أمّا وسيلة الحيلولة دون ذلك فتكمن في اقتراح تناوب يحمل معه النجاح، ينبثق من النشاط العسكري اليومي. إذا كان هذا التناوب غير متقدم، وإذا كانت البورجوازية الصغيرة، المفقرة والمنحطة طبقيا، تجد نفسها حيال خيار بين برلمانية عاجزة وفاشلة في ذروة قوتها، فلا بد أنها ستختار الفاشية. وأن «اعتدال» الطبقة العاملة بالضبط، وتحفظها وخوفها سوف تعزز شعور الجماهير بأن الفاشية ستنتصر.

إن ضعف النظرية الاشتراكية-الديموقراطية حول الفاشية قد تكشف على وجه الخصوص في الأطروحة القائلة «تمسكوا بالشرعية مهما يكن الثمن» وهذه الأطروحة تنبع من القناعة الخاطئة التي ترى، في حين يغادر الفاشيون دائرة الشرعية، أن على منظمات الشغيلة المأجورين الاكتفاء بالعمل ضمن هذه الدائرة. وتتناسى وجهة النظر الخاصة هذه واقع أن الشرعية والدولة ليستا تشييئين لمفاهيم مجردة، بل هما تعبيران عن طبقات ومصالح اجتماعية ملموسة. لقد كانت «الشرعية» و«الدولة»، في التحليل الأخير، القضاة و العقداء والمقدمين الذين كانت الروابط التي تشدهم إلى «رفاقهم» في الـ ستاهلهلم والـ .س .س عديدة، والذين كانوا يكرهون حركة العمال المنظمة ويقاتلونها بقدر ما كانت الحال مع العصابات الفاشية، حتى ولو كانوا يفعلون ذلك بصورة أكثر «تمدنا» بقليل. إن الرغبة في استخدامهم بمثابة دفاع في وجه تلك العصابات كانت تعني مواجهة تلك العصابات بدون سلاح.

إن عزل العوامل من مثل «الأزمة الاقتصادية» و«البطالة الجماهيرية» في أثناء التحليل يشكل عنصرا مهما في نظرية الفاشية لدى الاشتراكيين-الديموقراطيين: لو لم يكن ثمة أزمة اقتصادية، لكان خطر الفاشية قد زال. بذلك يتم تناسي أن الأزمة البنيوية أهم من الأزمة الظرفية، وأنه طالما استمرت إحداهما فالتحسينات التي تطول الأخرى لا يمكنها في أي حال من الأحوال أن تغير الوضع بشكل أساسي. هذه الحقيقة تعلمها الاشتراكيان الديمقراطيان البلجيكيان سباك و مان على حسابهما، هما اللذان كانا يركزان كل جهودهما لأجل الحد من البطالة –مضحيين حتى بمواقع قوية وأكثر من ذلك، بقدرة المأجورين على النضال –واللذان رأيا الموجة الفاشية تتضخم، لا العكس، بالرغم من كل ما بذلاه من جهد.

كل هذه العناصر حول النظرية الاشتراكية-الديموقراطية عن الفاشية كانت موجودة في الكتب الأولى التي خصصها الاشتراكيون-الديموقراطيون للكارثة التي انقضت على رؤوسهم. هكذا كتب جيوفاني زيبوردي منذ عام 1922: «(…) أن مبالغات المتطرفين هي المسؤولة عن هذا المناخ، كما أن الحركة العمالية والاجتماعية بمجملها هي المسؤولة عن كون هذه المبالغات دفعت بالشرائح البرجوازية الصغيرة والمثقفة –التي ليس لديها مع ذلك أي مبرر اقتصادي جدي للخوف من الاشتراكية والحقد عليها- إلى أحضان الفاشيين[27]». وقد قال توراتي الشيء ذاته بعد سنوات من ذلك التاريخ: «إن المبالغات من جانب أنصار البلشفية (أصدقاء البلشفية) التي كانت عجيبة وصبيانية إلى حد بعيد كان من نتائجها أن خوف الطبقات المسيطرة من فقد امتيازاتها كان في بعض الأحيان حقيقيا جدا وشديدا للغاية (…). ويمكن أن نستخلص منطقيا من ذلك أنه لولا هذا الموقف لكان التعاون بين البلوتوقراطية* والفاشيين من المستحيلات»[28]. ومن المؤسف ملاحظة أن أنجلو تاسكا، الذي كان في السابق شيوعيا وماركسيا، توصل في الكتاب الذي ألفه قبل الحرب العالمية الثانية إلى ما خلاصته أن من المستحيل قتال جهاز الدولة والفاشية في آن معا، وأنه ضروري، إذا، عقد تحالف مع أحدهما لقتال الآخر[29].

لقد قدمت الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية مجددا تكرارا مبتذلا وسطحيا لأطروحة مماثلة. أن منظرها الأكبر في العشرينات البلجيكي المناهض للماركسية هيندريك دو مان، حاول أن يلحم علم نفس البرجوازية الصغيرة وعلاقاتها بالفاشية، وتوصل إلى الاستنتاج، حتى بعد كارثة ألمانيا، أنه ما كان يجب «إثارة ذعر» البرجوازية الصغيرة. ولقد كان من نتيجة ذلك أن موجة حماس لدى الشغيلة وارادة نضال من أجل إضراب عام في سنة 1935 زالت سريعا. كان قد خلق الشروط الملائمة لتنام ضخم للفاشية في بلجيكا إنطلاقا من ذلك العام. إن ليون بلوم، وحده، كان فطنا كفاية بحيث أعلن، بعد استيلاء هتلر على السلطة، أنه إذا كان النصر قد انعقد للنازيين، فلمعاقبة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية على خنقها بذور الثورة البروليتارية بعد انهيار الإمبراطورية الألمانية، وتحريرها -وتدعيمها- هكذا كل هذه العناصر (من الجيش إلى الفرايكوربس) التي تولت فيها بعد تكنيسها بشكل وحشي[30]. إلاّ أن ليون بلوم هذا بالذات، حين واجهه إضراب جماهيري كبير بعد سنوات من ذلك الحين، كرر سياسة التهدئة التي كان يعتمدها أمثال إيبرت وشايدمان، وهو ما أدى إلى انهيار الجمهورية الثالثة واستيلاء البونابرتية الشائخة لنظام فيشي على السلطة.

إن نظرية الفاشية التي بلورتها الأممية الثالثة الشيوعية بعد لينين لم تنجح في الامتحان أكثر من تلك التي بلورتها الاشتراكية-الديموقراطية. لا شك أنه يمكن أن نجد فيها بدايات فهم أعمق للخطر الذي كان يهدد الحركة العمالية على المستوى الدولي. ويمكن أن نجد عناصر نظرية ماركسية حول الفاشية في أعماق كلارا زيتكين، وراديك، واينيازو سيلوني، وحتى أحيانا لدى زينوفييف. لكن سرعان ما خنقت صراعات الأجنحة في الحزب الشيوعي السوفياتي عمل الكومنتيرن النظري. لم يعد الهدف هو اكتساب فهم علمي للسيرورات الموضوعية الجارية، بل تسليم قيادة ح.ش.أ. (الحزب الشيوعي الألماني) لتكتل مخلص كليا لستالين ومطيع له. كل ما له علاقة بالتحليل الماركسي وصراع الطبقات الثوري كان ملحقا بهذا الهدف، خاضعا له.

والنتيجة معروفة: فالنظرية التي ترى في الفاشية التعبير المباشر عن مصالح «القطاعات الأكثر عدوانية في رأسمالية الاحتكارات» تتناسى كليا الطابع الجماهيري المستقل للحركة الفاشية. وتتفرع عن هذا الفهم النظرية التي ترى أن الفاشية هي «الأخت التوأم» للاشتراكية-الديموقراطية في خدمة رأس المال الاحتكاري، ونظرية «الفاشية التدريجية» لجمهورية ويمار، اللتان اخفتا عن أعين الشغيلة الطبيعية الكارثية لاستيلاء الفاشيين على السلطة وحالتا بينهم وبين قتال هذا الخطر الداهم. وتتوج كل ذلك بنظرية «الاشتراكية-الفاشية» التي أدت بشكلها الأقصى إلى الأطروحة التي رأت أن من الضروري إنزال الهزيمة بالاشتراكية-الديموقراطية قبل أن يغدوا ممكنا إنزالها بالفاشية[31]. ثم جاءت في الأخير الإضافات الاشتراكية-الديموقراطية النموذجية والجبرية التي تقول: «إن إدارة هتلر السيئة سوف تجعله ينهار لذاته» (لعجزه عن حل الأزمة الاقتصادية، كسبب بين أسباب أخرى) و«بعد هتلر سيأتي دورنا». ومن الناحية العملية، يمكن أن نرى كم كان هذا العنصر الوحيد يعتبر استيلاء هتلر على السلطة محتوما ويقلل بشكل لا يصدق من تقدير عواقب هذا الاستيلاء على السلطة بما يخص استئصال الحركة العمالية. لم يكن في وسع كل هذا التحليل إلاّ أن يشل مقاومة صعود النازيين ويربكها.

لقد لزم خمسة وعشرون عاما من الإحساس بالخطأ لكي تبادر الحركة الشيوعية «الرسمية» إلى نقاش نقدي للنظرية الستالينية الخاطئة عن الفاشية. فالقطيعة العملية مع هذه النظرية قد حدثت بشكل سريع جدا حين كان أصبح الوقت متأخرا جدا، والانعطاف نحو تكتيك الجبهة الشعبية تم عام 1935 وكان يستتبع مراجعة كاملة لنظرية «الاشتراكية-الفاشية» وتوجها نحو خطأ يميني مواز بعد العواقب الوخيمة التي ترتبت على الخطأ اليساري[32]. لكن لما كانت كتابات ستالين وإعلاناته كلية القداسة حتى عام 1956، لم تبدأ المراجعة الحذرة لنظرية «الاشتراكية-الفاشية» إلاّ بعد بداية النزع المزعوم للستالينية[33]. لقد كان توغلياتي، زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي يجهر بما يفكر به همسا معظم الكوادر الشيوعيين، وقد أخضع المؤلف الرسمي جدا الذي يحمل عنوان: تاريخ الحركة العمالية الألمانية، والذي نشر في ألمانيا الشرقية، أخضع نظرية ح.ش.أ. وممارسته في الأعوام ما بين 1930 و1933 لنقد حذر لكن منهجي دون أن يتحاشى، مع ذلك، أخطاء جديدة في تحديد طبيعة الفاشية ووظيفتها[34].

إن نظرتي «الفشستة التدريجية» و«الاشتراكية-الفاشية» لا تنطوي فقط على تقدير خاطئ للظرف السياسي والأخطاء التكتيكية في طريقة خوض النضال ضد صعود الفاشية، بل تفسدان كليا الخصيصة الرئيسية للفاشية التي عرف تروتسكي أن يكشفها بشكل صحيح وأعطاها الناريخ تثبيتا مأساويا.

ليست الفاشية مجرد طور جديد من السيرورة التي يصبح بها جهاز الدولة البورجوازية التنفيذي أكثر فأكثر قوة واستقلالا. ليست فقط «ديكتاتورية رأس المال الاحتكاري المكشوفة»، إنها شكل خاص من «الجهاز التنفيذي القوي» و«الديكتاتورية المكشوفة»، يتميز بالتدمير الكامل لكل منظمات الطبقة العاملة-حتى الأكثر اعتدالا بينها بما فيها منظمات الاشتراكية-الديموقراطية دون أدنى شك. تحاول الفاشية أن تمنع ماديا كل شكل من أشكال الدفاع الذاتي من جانب الشغيلة المنظمين، عن طريق تذرير هؤلاء الشغيلة بصورة كاملة. إن الاحتجاج بواقع أن الاشتراكية-الديموقراطية تمهد الطريق للفاشية للإعلان بأن الاشتراكية-الديموقراطية والفاشية متحالفتان واستبعاد كل تحالف مع الأولى ضد الثانية هو أمر خاطئ بالتالي.

إن العكس بالضبط هو الصحيح. فإذا كانت الاشتراكية-الديموقراطية قوضت، عن طريق ممارستها التعاون الطبقي والتماثل مع الديموقراطية البرلمانية المفلسة، إذا كانت قوضت صراع الشغيلة الطبقي ومهدت لاستيلاء الفاشيين على السلطة، فقد أعلن ذلك نهاية الاشتراكية-الديموقراطية. فالجماهير الاشتراكية-الديموقراطية وأكثر من واحد من قادتها أصبحت أكثر فأكثر وعيا، كلما اقتربت الكارثة وألقت ظلها عبر أحداث دامية عديدة. وهذا الوعي، الذي يعبر عن تناقضات الاشتراكية – الديمقراطية ، كان يمكن أن يصير، لو جرى اتباع تكتيك صحيح للجبهة الموحدة، نقطة انطلاق نحو وحدة حقيقية في العمل ونحو قلب فعلي ومفاجئ لميزان القوى الاجتماعي والسياسي لم يكن يمكن أن يؤدي إلى الانتصار على الفاشية وحسب، بل كذلك على الرأسمالية، وأكثر من ذلك، إلى الانتصار على سياسة التعاون والتصالح الطبقيين التي اعتمدتها الاشتراكية-الديموقراطية.

ونجد العجز ذاته عن فهم طابع الفاشية الخاص لدى جمهرة من المنظرين[35] يمكن أن نقول أنهم في منتصف الطريق بين الماركسية و الإصلاحية المبتذلة. هكذا يرى ماكس هوركهايمر في الفاشية «الشكل الأكثر حداثة للمجتمع الرأسمالي الاحتكاري». ولكن لدى بول سيرينغ (ريتشارد لووينتال) تصور مشابه حين قال أن الفاشية-القومية هي «الإمبريالية المخططة ». واصل وجهتي النظر هاتين يكمن في الأطروحة التي دافع عنها هيلفردينغ والتي تقول أن المركزة السياسية للسلطة في الدولة البرجوازية و«الشكل الأعلى لتركيز رأس المال» الذي كانت تراه متجسدا في رأس المال المالي يتوحدان ليؤلفا شيئا واحدا. إن النبوءة التي أعلنها هيلفردينغ عام 1907، مهما كانت ذات بريق ودقة من الناحية التاريخية (رغم التبسيطات)، تكشفت عن نقص إبان السنوات التي سبقت استيلاء هتلر على السلطة وتلته مباشرة. ولا يمكن أن نفهم الفاشية إذا استبعدنا من التحليل العنصرين التاليين: لا يمكن للطور الأعلى من مركزة الدولة البورجوازية أن يتم بلوغه إلاّ إذا تنازلت البورجوازية عن سلطتها السياسية[36]، وهذه الظاهرة الجديدة لم تكن «الشكل الأكثر حداثة من المجتمع الرأسمالي الإحتكاري»، بل، على العكس، الشكل الأكثر حدة من أزمة هذا المجتمع[37].

يحاول إينيازيو سيلوني، في كتابه، الفاشية- أصولها وتطورها، أن يقدم الفاشية كنتيجة لأزمة المجتمع البورجوازي الإيطالي البنيوية العميقة، ولعجز الحركة العمالية الإيطالية، في الوقت ذاته، عن حل هذه الأزمة عن طريق التحويل الاشتراكي[38] وهو ينجح في محاولته هذه تقريبا. إنه يميز بشكل صحيح بين الفاشية وديكتاتورية عسكرية «كلاسيكية» أو بونابرتية[39]. إلاّ أن التعريف الذي يعطيه لـ«عدم النضج السياسي» للحركة العمالية يتوقف بالضبط حيث تبتدئ المشكلة. ما هو العامل الذي منع الحركة العمالية من أن تصبح ممثلة لكل الشرائح المستقلة في الأمة، وأن تربح –أو تحيد- الشرائح الواسعة من البورجوازية الصغيرة، وتضع النظام من أجل الإستيلاء على السلطة على جدول الأعمال؟ وليس أمرا عارضا ألا يظهر مفهوم «الثورة الإشتراكية» أبدا تقريبا في كتاب سيلوني، كما ليس أمرا عارضا ألا يفهم أن من الضروري، لتحقيق المهام المعقدة، التي وصفها هو ذاته، أن توضع خطة استراتيجية، خطة لا يمكن وضعها وتحقيقها إلا بواسطة حزب ثوري يتم خلقه لأجل هذه الغاية. ومع أن انتقاداته للإصلاحيين والماكسيماليين* الإيطاليين، كما للإتجاهات الجبرية واليسارية المتطرفة في الحزب الشيوعي الإيطالي الشاب، هي انتقادات صحيحة، فهي لا تؤدي إلى أي تناوب، وتعطي الانطباع بأن «النضج السياسي» والقدرة على الاضطلاع بالقيادة السياسية هما إما حدثان بيولوجيان («كان في روسيا لينين») أو في واقع قدر صوفي ما. إننا نفهم بسهولة أن سيلوني لم يكن قادرا على البقاء طويلا في هذا الوضع الانتقالي النموذجي. لقد استدار سريعا نحو الإصلاحية.

وإذا استثنينا مساهمة تروتسكي، فإن المساهمتين الأعظم أهمية في نظرية الفاشية من وجهة نظر ماركسية إبان العشرينات والثلاثينات هما مساهمتا أوغوست تالهايمر وأوتو باور[40]. فتحليل أوغوست تالهايمر يقترب أكثر ما يقترب من تحليل تروتسكي ، لكن أ تالهيمر، بالتصاقه كثيرا بالتحليل الذي أجراه ماركس في القرن التاسع عشر للبونابرتية، وبتضخيمه «الفشستة التدريجية»، يبخس قدر الإختلاف النوعي بين البونابرتية والفاشية. ففي الحالة الأولى، ثمة استقلال متنام لجهاز الدولة مصحوب بقمع «تقليدي» للحركة الثورية، وفي الحالة الثانية، هنالك استقلال متنام لجهاز الدولة، مصحوب بتدمير كل منظمات الطبقة العاملة وبمحاولة تذرير الشغيلة كليا بواسطة حركة بورجوازية صغيرة. أكثر من ذلك، إن تحليل تالهايمر يختزل مشكلة الفاشية إلى مشكلة ميزان القوى الاجتماعي-السياسي (لم تصبح الطبقة العاملة قادرة بعد على ممارسة السلطة السياسية، بينما لم تعد البرجوازية الكبيرة قادرة على ذلك) دون إبراز علاقة ميزان القوى هذا بالأزمة البنيوية للرأسمالية الجديدة[41].

إن نظرية تروتسكي حول الفاشية تجمع العناصر المتضادة في وحدة دياليكتيكية. فهو يظهر، من جهة، القوى المحركة التي كانت في حقبة الأزمة البنيوية الخاصة بالرأسمالية تجعل من الممكن استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسية وممارستها لها. وهو يتحاشى الخلط المشؤوم بشكل خاص بين انعدام النضج التاريخي الموضوعي للطبقة العاملة الفرنسية بين 1848 و1850 وانعدام النضج الذاتي الصرف للطبقة العاملة الألمانية بين 1918 و1923، الذي كان في تناقض مباشر مع الإمكانات الموضوعية.

من الجهة الأخرى، تتمحور نظرية تروتسكي عن الفاشية حول الطابع الوظيفي لـ«الاستقلال المتنامي» لجهاز الدولة في ظل الفاشية، الذي يستهدف بالضبط التحويل الجذري لشروط الإنتاج وانتزاع فائض القيمة لصالح البورجوازية الكبيرة، عن طريق إزالة كل مقاومة طبقية منظمة من جانب البروليتاريا. هكذا يجري حل الأزمة البنيوية مؤقتا حتى الانفجار المقبل.

أمّا أوتو باور فيرى في نظريته أن الفاشية هي اتحاد ثلاثة عناصر: الانحطاط الطبقي لقطاعات من البورجوازية الصغيرة الناجم عن الحرب، إفقار قطاعات أخرى ناجم عن الأزمة الاقتصادية يدفعها للقطيعة مع الديموقراطية البورجوازية، ومصلحة رأس المال الكبير في رفع نسبة استغلال الشغيلة، وهو ما يتطلب تصفية المعارضة التي تبديها الطبقة العاملة ومنظماتها[42]. وهو يعترف، بشكل سليم، بأن الفاشية لم تكسب حين كانت البورجوازية تحت تهديد الثورة البروليتارية، بل حين تم إضعاف البروليتاريا وحشرها في وضع الدفاع، قبل وقت طويل من تلك المرحلة، وفي حين كان الصعود الثوري بدأ ينحسر. إن الطبقة الرأسمالية والملاكين الكبار لم يستودعوا الفرق الفاشية سلطة الدولة لحماية النفس من ثورة بروليتارية محدقة، بل لخفض الأجور وتدمير مكاسب الطبقة العاملة وتصفية النقابات ومواقع القوة السياسية التي تحتلها الطبقة العاملة، لا لإلغاء اشتراكية ثورية بل لضرب مكتسبات الاشتراكية الإصلاحية[43]».

ومع أن هذا التحليل أرقى من تحليلات الإصلاحيين المبتذلين الذين كانوا ينسخون أطروحة الفاشيين بالذات بقولهم أن الفاشية هي الرد على «الخطر البلشفي»، فهو يبخس قدر الأزمة البنيوية العميقة التي خضت الرأسمالية في إيطاليا بين عامي 1918 و1927 وفي ألمانيا بين 1929 و1933. هذه الأزمة لم تعزز النظام الاجتماعي، بل أضعفته، على العكس، وضاعفت هكذا من الشروط الموضوعية التي كانت تجعل من الممكن وجود استراتيجية موجهة نحو استيلاء الطبقة العاملة على السلطة.

إن باور، مثله مثل تالهايمر، يرى في انتصار الفاشية نتيجة منطقية للثورة المضادة التي انتشرت تدريجيا منذ هزيمة المبادرات الثورية بين عامي 1918 و1923. إنه لا يدرك واقع أن الخمسة عشر عاما (بين 1919 و1933) قد انطبعت بمد وجزر دوريين للإمكانات الثورية، لا بانحدار خطي إطلاقا. إن التمييز الميكانيكي بين «الهجوم» و«الدفاع» لم يفعل غير تعتيم العلاقات التي تصل فيما بينهما.

وهذا التحليل غير الملائم أدى إلى أخطاء تكتيكية خطيرة. فأوتو باور، «الاشتراكي الثوري» الذي تصور أنه في «طور دفاعي» كان يعتقد أن الشيء الوحيد الذي ينبغي عمله هو الوقوف بالسلاح وانتظار هجوم الرجعية الاكليريكية-الفاشية على منظمات الطبقة العاملة. في ذلك الحين، وفقط في ذلك الحين، كان عليها أن تدافع عن نفسها بكل الوسائل، بما فيها استخدام السلاح. هكذا رأينا نضال رابطة الدفاع (شوتزبوند) البطولي في فيينا في فبراير/(شباط) 1934، الذي هيمن على استسلام الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني (S.P.D.) والحزب الشيوعي الألماني (K.P.D) من دون قتال حيال النظام النازي، هذا النضال الذي كتبت له مع ذلك الهزيمة. ذلك أنه فقط عندما تلاحظ الحركة العمالية اتساع الأزمة البنيوية وتعلن بوضوح عن نيتها حل هذه الأزمة بوسائلها الخاصة على وجه الحصر، وتحدد هكذا النضال من أجل السلطة كهدف فوري، يمكنها فقط آنذاك أن تكسب الشرائح الوسطى والقطاعات المترددة الأخرى من السكان التي لم يعد الوضع القائم (Statu quo) بما فيه الاقتصار على «الدفاع» عن المنظمات العمالية، يجتذبها.

إن مؤرخا فطنا كأرتور روزنبرغ يرى أن نهاية جمهورية وايمار توافقت مع عام 1930. وقد كتب : «في عام 1930، انهارت الجمهورية البورجوازية في ألمانيا لأن مصيرها كان بين يدي البورجوازية ولأن الطبقة العاملة لم تكن ما تزال قوية كفاية لإنقاذها[44]». إن روزنبرغ في تاريخه الرسمي الجبري، ينسى أنه كان باقيا ثلاث سنوات للطبقة العاملة –لو لم تفشل القيادة في اضطلاع بمهمتها- من أجل أن تنقذ، لا الديموقراطية البرجوازية، بل العناصر الديموقراطية المهمة عن طريق انتزاعها من الديموقراطية البرجوازية والعهد بها إلى الاشتراكية.

 

« السابق التالي »