بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

العناصر التكوينية لنظرية تروتسكي حول الفاشية

« السابق التالي »

الفصل الخامس

قارنا النظرية التروتسكية حول الفاشية بمحاولات أخرى لتفسير الفاشية، وسلمنا بتفوقها الأكيد. هذا التفوق ناجم جزئيا عن قدرتها على دمج مجموعة من الجوانب الجزئية في وحدة ديالكتيكية. واليوم، لدينا معرفة بعتاد تجريبي مهم كان يجهله تروتسكي والقطاعات الماركسية الأخرى في الحقبة التي سبقت استيلاء النازيين على السلطة وتلته مباشرة. ماذا يخبرنا هذا العتاد بصدد بعض النقاط الحاسمة، والمنتقدة في هذه النظرية؟

إن الشهادة الأكثر وضوحا تتعلق بالوظيفة الاقتصادية والسياسية للديكتاتورية الفاشية. لقد نجح هتلر، عن طريق تدميره الحركة العمالية المنظمة، في فرض تجميد للأجور شكل بالنسبة لأرباب العمل الألمان ما يشبه المعجزة. جرى تحديد الأجور في الساعة على مستوى الأزمة الاقتصادية، ولم يؤد زوال البطالة الكثيفة إلى أي زيادة مهمة في الأجور. ولم يحدث يوما أن نجح رأس المال في إعطاء الأجور ذاتها حين لم يكن هنالك عاطل واحد عن العمل وحين كان ثمة خمسة ملايين. إن الأجر في الساعة للعامل المتخصص انتقل من 95,5 بفنيج عام 1920 إلى 70,5 عام 1933، ثم إلى 78,3 بفنيج عام 1936، و79 عام 1940، فإلى 80,8 في أكتوبر/(تشرين الأول) 1942[45]. وهذه الأرقام تتعلق بالأجر المتوسط في 17 قطاعا صناعيا. وتقدم مصادر أخرى أرقاما أكثر ارتفاعا بقليل بما يخص الأجر المتوسط للعمال المتخصصين في اقتصاد الرايخ الثالث بمجمله. وفقا لهذه الأرقام، انتقلت الأجور من 79,2 بفنيخ إلى 78,5 بين يناير/ (كانون الثاني) 1933 و1937، ثم زادت ببطء إلى أن بلغت 79.2 بفنيج عام 1939، و80 بفنيج في ديسمبر/( كانون الأول) 1943[46]. إلاّ أن هذه الأرقام تؤكد أيضا أن الأجور بقيت أقل بكثير مما كانت عليه قبل الأزمة –وهو نجاح «باهر» حققه نظام نازي بمواجهة نقص حرج لليد العاملة. وباختصار أثبت نيومان أن توزيع الدخل القومي الألماني تحول إلى حد بعيد لصالح رأس المال بين عام 1932 وعام 1938. انتقلت حصة رأس المال (فوائد، أرباح تجارية وصناعية، أرباح صناعية غير معاد توزيعها) من 17,4% من الدخل القومي عام 1932 (21% عام 1929) إلى 25,2% عام 1937 و26,6% عام 1938[47]. إزاء تلك الأرقام، كان من دون جدوى أن نناقش الطبيعة الطبقية للدولة الفاشية.

نحن الآن على معرفة كذلك بعتاد واقعي شامل يتعلق بآثار الفاشية على مراكمة رأس المال وتركيزه يثبت كليا صحة الأطروحة الماركسية. فرأس المال الكلي لكل الشركات الألمانية انتقل من 18,75 مليار رايخمارك(ر م) عام 1938 (20,6 مليار ( ر م)عام 1933) إلى أكثر من 29 مليار رايخمارك في نهاية عام 1942. خلال هذه الفترة ذاتها، هبط عدد الشركات من 5518 إلى 5404، في حين نقص هذا العدد إلى النصف عام 1938 (10437 عام 1931 و 9148 عام 1933). في هذا الرأسمال الكلي، ارتفعت حصة المنشآت الكبرى –تلك التي كان رأس مالها يزيد عن 20 مليون رم –من 52,4% عام 1933 إلى 53,6% عام 1939 و63,9% عام 1942[48].

وقد واصلت الدولة تركيزها هذا لرأس المال بشتى الوسائل. فالكرتلة* القسرية، والاندماجات تحت رقابة «قادة الاقتصاد الدفاعي» (leaders for defense economy) وتنظيم «جمعيات قومية» (Reichsvereinigungen) وغرف اقتصادية إقليمية (Gauwirtschaf Tkammern) أوصلت إلى الشكل الأعلى من الاندماج بين رأس المال الاحتكاري والدولة الفاشية. فالشركة القومية للحديد والفولاذ (Reichsvereinigung Eisen Und Stahl) كان يديره الصناعي الساري، د. هيرمان روشلينغ، والشركة القومية للألياف الاصطناعية كان يديرها د. هـ. فيتس، من الصناعات المشاركة الخاصة بالحرير الاصطناعي، الذي كان يدير كذلك «المجموعات القومية» (Reichsgruppen) و«اللجان الرئيسية» (Hauptauss chuesse) ثمان من هذه اللجان الخمسة عشر كان على رأسها ممثلون مباشرون لرأس المال الكبير: مانسمان، أوغوست تيسن هويتي (مسابك أوغوست تيسن)، الصناعة الألمانية للأسلحة والذخائر (دوتش فافن أوند مونيشيونز فابريكن)، إنشاآت هينشل للطيران (هينشل فلوغزوغوورك)، أوتو أونيون، سيمنس، فايس وفرايتاغ، هوملوورك[49].

إزاء هذه الوقائع الأكيدة، التي ما كانت تتناقض فقط مع برنامج النازيين الديماغوجي، بل كذلك مع «مصلحتهم السياسية الخاصة» (الحفاظ على قاعدة جماهيرية عريضة، مؤلفة من البورجوازية الصغيرة للشرائح الوسطى والمنشأة الصغيرة (Small business)، يمكن أن نفهم بصعوبة كيف يمكن لتيم ماسون أن يتوصل إلى استخلاص أن كتل النفوذ الصناعي قد «تفككت» بعد عام 1936، وأن قوة الصناعة، بتعابير السياسة الاقتصادية، «تطايرت شظايا»، وأنه «لم يبق إلاّ المصالح الأكثر أولية (!)، والأكثر مباشرة لكل شركة»، وأنه «بين 1936 و1939، تحولت المصلحة الجماعية للنظام الاقتصادي الرأسمالي شيئا فشيئا إلى تجميع للمصالح الخاصة لكل شركة»[50].

يدافع ماسون عن وجهة النظر الساذجة، والصورية القائلة أن «الصالح الجماعي للنظام الرأسمالي» يتمثل أولا بجمعيات أرباب العمل. بينما ثمة في الحقيقة واقعة معروفة جدا في حقبة الرأسمالية الاحتكارية، وبوجه خاص الرأسمالية الجديدة، هي أن هذه الجمعيات لا تفعل غير محاولة التوفيق بين مصالح جمهور المنتجين الصغار والمتوسطين ومصالح الشركات الكبرى، أو الدفاع، بشكل أو بآخر، عن هذه ضد تلك. إن الرأسمالية الاحتكارية تولّد دائما مماثلة متنامية للنظام والمصالح الخاصة لعدة دزينات من الشركات الكبرى على حساب المنشآت الصغيرة والوسطى، لا «تحويل» النظام إلى «تجميع بسيط للمصالح الخاصة بالمنشآت». وهذا بالضبط ما حدث في ألمانيا الفاشية، ضمن نسبة لا تضاهى قبل تلك الحقبة أو بعدها.

إن تحديد الأسعار وهوامش الأرباح في صناعة الأسلحة والعلاقات بين القطاعين الخاص والمدوّل في الاقتصاد تقدم إشارات ممتازة حول ميزان القوى الحقيقي القائم بين الرأسمالية الاحتكارية وبيروقراطيتي الحزب والدولة. ولم يكن الاتجاه الأساسي هو التأميم، بل الإعادة إلى الملكية الخاصة[51]، وليس أولوية «قيادة سياسية» ما، بل أولوية الأرباح القصوى للمنشآت الكبرى[52].

في عز الحرب، وفي حين كان يمكن أن نتوقع من أنصار «الحرب إلى أبعد حد» أن يكونوا عديمي الشفقة حيال كل المصالح الخاصة، تم حدثان يتعلقان بمنشآت فليك يبرزان بأقصى الوضوح علاقات الإنتاج القائمة. ففي 4 مايو/(أيار) 1940 أبرمت إحدى تلك المنشآت عقدا مع موظفين كبار في الدولة يتعلق بصنع قنابل بازوكا.

لقد حسب موظفو الحكومة أنه ينبغي، من أجل تحقيق ربح معقول، أن يتلقى فليك 24 رايخمارك مقابل كل قذيفة. إلاّ أن الشركة تمسكت ب 39,25 رايخمارك لقاء القذيفة. وتم الاتفاق في الأخير على 37 رايخمارك، ومعنى ذلك ربح إضافي مقداره 13 رايخمارك بالقذيفة، أي أكثر من 35%، أي أكثر من مليون مارك إضافي بالنسبة لكل القذائف المصنوعة حتى نهاية عام 1943. وبغض النظر عن الديكتاتورية النازية، فالفرق بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية ليس مهما في كل حال إلى هذا الحد. ففي الحالتين كان الجنود العاديون يعتقدون أنهم يموتون من أجل الوطن، وفي الحالتين، كانوا يموتون لأجل الأرباح الإضافية لأسياد الصناعة.

والمثال الثاني «أجمل» أيضا. فالجيش كان قد بنى مصانعه (برساميل متأتية من أموال عامة، بالطبع). هذه المصانع كانت تؤجر على العموم لمنشآت خاصة مقابل مساهمة الدولة في الأرباح، بنسبة 30-35%. وفي عام 1942 بذلت شركة فليك كل ما في وسعها للحصول على إدارة ماشيننفابريك دونو وورث ج.م.ب.هـ. (شركة بناء آلات دونو وورث). وفي 31 مارس/(آذار)، كان يصل مجموع موجودات دونو وورث إلى 9.8 مليون رايخمارك في السوق بينما لم تكن الكوتا الرسمية تتعدى 3.6 مليون رايخمارك . وقد اشترى فليك المصنع (المجهز بالعتاد الأكثر حداثة) بالسعر المحدد بالكوتا الرسمية. ويقدّر كلاوس دروبيش أرباحه بأكثر من 8 ملايين رايخمارك في هذه الحالة المحددة[53].

حين ننزع القشرة السياسية، نكتشف النواة الحقيقية المتمثلة بالسيطرة الطبقية. فلو كانت الدولة النازية أممت بشكل منظم كل مصانع السلاح، ولو خفظت بلا شفقة هوامش الربح إلى 5 أو 6%، ولو اشترطت، مثلا، أن يكون نصف مدراء المصانع المساهمة في جهود الحرب، على الأقل، ممثلين مباشرين للدولة والقوات المسلحة (لأنه لا شك أن تلك هي حاجات حرب تخاض بشكل جيد)، حينذاك يمكن أن نبرر جزئيا بعض الشكوك حول طابع هذه الدولة الطبقي. إلاّ أن الوقائع تبيّن بوضوح عكس ذلك: إخضاع كل المصالح إخضاعا فظا لمصالح الشركات الكبرى. والإخضاع الصارم لكل المتطلبات القطاعية لحرب «كلية» تخاض لمصلحة هذه الشركات الكبرى يتوقف حيث يتم بلوغ البداية والنهاية: مراكمة رأس المال من جانب الشركات الكبرى.

إن المعطيات التجريبية تقدم إشارات دقيقة حول مختلف الأطوار التي تحدد صعود الحركة النازية منذ انتخابات الريخستاغ عام 1930 حتى الاستيلاء على السلطة في 30 يناير/(كانون الثاني) 1933، ونحن نعرف كيف أن بعض دوائر رأس المال الكبير، التي كانت في البدء محدودة نسبيا، بدأت تمول النازيين. ونعرف أي ترددات واختلافات في الرأي برزت لدى الرأسماليين الكبار وكبار الملاكين بما يخص الموقف الذي ينبغي اتخاذه حيال هتلر وحزبه النازي (N.S.D.A.P.) كما نعرف أن حالات التردد تلك هيجتها، بين ما هيّجها، «لعبة كل شيء أو لا شيء» التي كان ينصرف لها المرشح-الديكتاتور، لكن نعرف أيضا أن سلبية الحركة العمالية وحيرتها قد حدّتا منها.

ونعرف كيف بدأ الرأسمال الكبير يماثل برنامجه (الذي صيغ عام 1931) – الذي كان هدفه دولة تسلطية، وخفضا كثيفا للأجور ومراجعة لمعاهدة فرساي بأي ثمن[54] – ببرنامج هتلر كلما كان يقترب من السلطة، بعد أن كان حرم الجناح اليساري العامي من قاعدته الاجتماعية وأعطى سادة الصناعة كل الصناعات الضرورية المتعلقة بالدفاع عن الملكية الخاصة وبتطبيق «مبدأ الزعيم» في المصانع، مثلما فعل، مثلا، في 27يناير/(كانون الثاني) 1932 في خطاب ألقاه في النادي الصناعي. ونعرف عبر أي الأزمات كان على هذا التقارب بين الرأسمال الكبير والحزب النازي أن يمر (من بينها العقبة التي شكلتها هزيمة الحزب النازي الانتخابية في نونبر/(تشرين الثاني) 1932 والمصاعب المالية التي تبعت ذلك). ونعرف في الأخير كيف قرر اللقاء مع البارون فون شرودر في كولوني بتاريخ 4 يناير/(كانون الثاني) 1933، تماما بعد فضيحة الإعانات المالية الممنوحة للملاكين الكبار في بروسيا الشرقية، مصير جمهورية وايمار[55]

إن المعلومات المتوفرة اليوم تؤكد، من مختلف الجوانب، التحليل المفصل الذي تناول به تروتسكي تلك الأحداث المأساوية بين 1930 و1933.

تبقى نقطة أخيرة مهمة ينبغي إيضاحها. ما هي الإمكانات التي كانت متوفرة للطبقة العاملة كي توقف التقدم النازي عن طريق وحدة العمل؟ وما كانت احتمالات وحدة عمل كهذه؟ مع أن العتاد المتوفر بما يخص هذه المشكلات هو اكثر تقطعا بالطبع من ذلك المتعلق بالعلاقات الإقتصادية أو مسلك فريق صغير من سادة الصناعة فإن ثمة عددا وفيرا من الشهادات التي تؤكد أنه كانت هنالك رغبة عميقة، سواء لدى الشغيلة والموظفين الشيوعيين أو لدى الشغيلة والموظفين الاشتراكيين-الديموقراطيين، لقتال هتلر بصورة مشتركة. إن حشدا من المذكرات ينبثق من الذكريات المجزأة: لقد أرسلت الريخسنر (منظمة الدفاع في الـ(S.P.D.) رسلا إلى «القيادة» (ربما لم تستخدم هذه الكلمة يوما من الأيام بصورة مشيأة إلى هذا الحد ومستلبة) مشترطة القتال، إلا أن الجواب العابث الذي تلقته كان أن دم الشغيلة ينبغي ألا يتم اهراقه (كما لو كان انتصار هتلر لا يعني أن دم الشغيلة سيسيل مدرارا، كما توقع تروتسكي). إن المبادرات المحلية لتحديد خط مشترك بين الاشتراكيين-الديموقراطيين والشيوعيين تزايدت من حيث العدد حتى اللحظة الأخيرة، بينما كانت القيادة تنحي باللوم على الضربات، من استيلاء هتلر على السلطة إلى حريق الريخستاغ، ومن هذا الاستفزاز إلى السلطات المطلقة (تنازل الرايخستاغ لصالح حكومة هتلر)، دون أن تقدم الخطة الاستراتيجية الأكثر تواضعا لحماية الحركة العمالية ودفاعها الذاتي[56]. إن الكتابات الشبحية والمشبعة بالإحساس بالخطأ المتوفرة بين أيدينا، مع أنها كتبت لتبرير الذات، تشكل إدانة مريرة لقيادات الحزب الديمقراطي- الاشتراكي الألماني والحزب الشيوعي الألماني والـ A.D.G.B (الاتحاد العام للنقابات الألمانية) في تلك الحقبة. لم يحدث في التاريخ المعاصر أبدا أن يدفع هذا العدد العظيم من الناس ثمنا بهذا القدر من الفداحة لأخطاء نزر قليل من القادة..

« السابق التالي »