بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الفاشية: نبيذ قديم في زجاجات جديدة

اكتسب تعبير “الفاشية” زخمًا كبيراً في مصر خلال الفترة الأخيرة، وخاصة مع بدء معركة إسقاط محمد مرسي وما تلاها، ذلك أنه كثيراً ما وُصف حكم الإخوان بأنه تعبير عن “الفاشية الدينية”. ومن ثم، فقد رحب الكثيرون بما حدث في 3 يوليو وتبعاته، معتبرين أن التخلص من الإخوان بأي طريقة وبأي ثمن يقع على رأس أولويات المرحلة.

من ناحية أخرى، تُستخدم “الفاشية” في كثير من الأحيان باعتبارها مرادفًا للديكتاتورية ونظم الحكم الاستبدادية. وفي أحيان أخرى، تُعتبر مرادفًا للعنصرية أو العداء للسامية. تحاول السطور التالية مناقشة ظاهرة الفاشية قديمًا وحديثًا، وما إذا كانت هناك علاقة بين تلك الظاهرة وبين ما حدث في مصر خلال العامين ونصف العام الماضيين، منذ سقوط مبارك.

الفاشية “أسوأ الشرين”
وفي البداية يتعين التأكيد على أن “الفاشية” تمثل ظاهرة معقدة، وهو ما يرجع إلى اختلاف السياقات التي ظهرت فيها، والأشكال التي اتخذتها، ومستوى النضج الذي وصلت إليه.

ويمكن – بقدر من التبسيط – القول إن الفاشية هي الحل الذي تلجأ إليه الطبقات الحاكمة عندما تستعصي الأزمة الاقتصادية، ويجد النظام الرأسمالي نفسه مواجهة مخاطر جسيمة أو تهديدات وجودية. ذلك أنه في الأحوال العادية، تفضل الرأسمالية الطرق التقليدية في إدارة الصراع الاجتماعي. وتتراوح هذه الطرق بين الديمقراطية البرلمانية – كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية وغيرها – وبين الجمع، إلى هذه الدرجة أو تلك، بين آليات الديمقراطية وبين الممارسات الاستبدادية، كما هو الحال في دول كثيرة منها مصر تحت حكم مبارك. لكنه عندما تصل الأزمة إلى مستويات تعجز الطبقات الحاكمة عن التعامل معها، وتتطور الحركة العمالية والجماهيرية بحيث تصبح أجهزة القمع التقليدية، ممثلة في الجيش والشرطة غير قادرة على وقف المد الثوري المتصاعد، يضطر النظام إلى الدفاع عن نفسه بأي ثمن، حتى لو كان تأليب فئات من المجتمع على فئات أخرى – وهو ما قد يصل إلى الحرب الأهلية.

وتتميز الفاشية عن أشكال الاستبداد الأخرى بقدرتها على حشد الجماهير في الشارع، والجماهير في هذه الحالة هي قطاعات صغار الملاك والطبقة والوسطى التي تعصف بها الأزمة، ذلك أن الرأسمالي يتعامل مع الأزمة بإنفاق ما راكمه في الفترات السابقة، والطبقات العاملة تجد الملاذ في تنظيماتها وأحزابها، لكن الطبقات الوسطى – من أصحاب المحلات الصغيرة والحرفيين والمهنيين – تجد نفسها في حالة من الضياع، مادامت الطبقة العاملة غير قادرة على جذبها إلى طريق الثورة. وتتجه الطبقات الوسطى لمناصبة كل من الطبقتين (العمال والرأسماليين) العداء، وتتجه إلى الانخراط في تنظيماتها المستقلة عن الأحزاب التقليدية والمنظمات الاشتراكية والنقابات العمالية. وعندما يتصاعد زخم هذه التنظيمات في مقابل تراجع قوة المنظمات العمالية والنقابية، تستطيع الفاشية جذب قطاعات من الطبقات العاملة.

وفي كل الأحوال، تسعى الطبقات الحاكمة بمجرد استقرار الأوضاع واحتواء الحركة الثورية، إلى تقليم أظافر الحركة الفاشية التي قد تمثل في حد ذاتها خطرًا على مصالح تلك الطبقات. ومن هنا، فإن الفاشية ليست الخيار الأفضل بالنسبة للرأسمالية، بسبب ما تخلقه من اضطراب وصراع، وبسبب ما تطلقة من حركة جماهيرية لا يمكن التنبؤ بعواقبها ـ لكنها تظل أسوأ الشرين عندما يكون البديل الآخر هو الثورة.

السياق التاريخي
انتعشت الفاشية في فترة ما بين الحربين العالميتين، واتخذت أشكالها الأكثر اكتمالاً في ألمانيا وإيطاليا، فمع نهاية الحرب العالمية الأولى، شهدت العديد من البلدان الأوروبية – منها روسيا وألمانيا وإيطاليا والمجر – مدًا ثوريًا قويًا. ففي ألمانيا على سبيل المثال، شهد المجتمع سنوات من الاضطراب بعد انتهاء الحرب – في فترة ما كان يعرف بجمهورية فايمار الممتدة من 1919 إلى 1933 – نتيجة الهزيمة، وما نتج عنها من تعويضات كان يتعين على الدولة الوفاء بها، إلى استشراء البطالة والتضخم.

ويشير ليون تروتسكي إلى “الهموم الحادة لصغار الملاك” في ألمانيا بسبب تلك الأزمة، سواء بسبب شبح الإفلاس أو الأبناء الذي تخرجوا من الجامعة ولم يجدوا عملاً أو العجز عن توفير مهور البنات. وفي ظل عجز الأحزاب العمالية عن تقديم البديل – بسبب التوجهات التي اتخذتها تلك الأحزاب في تلك الفترة – اندفعت هذه الطبقات في المطالبة بالنظام والقبضة الحديدية. ومن هنا كان استجابة أعداد هائلة من هذه الطبقة لدعوات هتلر وانخراطها في الميليشيات التابعة لحزبه “القومي الاشتراكي” – بدعم من عدد من كبار الرأسماليين، وتصدت هذه الميليشيات للإضرابات ومارست العنف ضد نقابات وتنظيمات العمال، وكانت النتيجة إلحاق الدمار بالطبقة العاملة الأقوى في العالم آنذاك، وتجريدها من القدرة على التنظيم والمقاومة. وإذا كان قوام الفاشية هو الحزب الجماهيري الذي يتشكل أساسه من الطبقات الوسطى، تتجه الفاشية بمجرد وصولها إلى قمع الأجنحة الأكثر راديكالية بها، والاندماج مع أهداف الرأسمالية الكبيرة ـ وهو ما حدث في ألمانيا. لكنه من ناحية أخرى، كانت لابد من اختراع عدو من أجل تماسك الجماهير حول الحزب النازي، وفي هذه الحالة كان العدو الرئيسي هو اليهود، حيث قُتل الملايين منهم، إلى جانب أعداء آخرين مثل السلاف والغجر وذوي الإعاقة الجسدية والمرضي العقليين – باعتبار أن كل هؤلاء كانوا يمثلون إما أعداءً للمجتمع أو عقبة في طريق تقدمه.

الفاشية الجديدة
تراجعت النزعات الفاشية بقوة في فترة الرواج الطويلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لكنه مع عودة الأزمة – التي اتخذت مظاهر مختلفة الحدة من بداية الثمانينيات، كان أقواها أزمة الائتمان عام 2008 – انتعشت الحركات والمنظمات الفاشية مجددًا، وتتباين أشكال هذه المنظمات من جماعات الميليشيات التي تقوم بالاعتداء على المهاجرين والأقليات – مثل “الفجر الذهبي” في اليونان، ورابطة الدفاع الإنجليزية المعادية للمسلمين – وبين أحزاب أقصى اليمين، التي يتسامح معها النظام السياسي ويعتبرها جزءًا من الحياة السياسية، مثل الحزب القومي البريطاني وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا.

وبشكل عام، تسعى الأحزاب والحركات الفاشية الأوروبية إلى التبرؤ من فاشية ما بين الحربين سيئة السمعة، والتأكيد على القطيعة مع تراث “العداء للسامية” و”الاشتراكية الوطنية”. وكي يتجنب الاتهام بالعنصرية، يقوم خطاب معظم الأحزاب الفاشية الجديدة بالتركيز على ما يطلِق عليه “الاختلافات الثقافية”.

لكن السمات الأساسية لهذه الأحزاب تجعلها بمثابة طبعة جديدة من الأحزاب الفاشية القديمة، فمثلما كان الحال مع الأحزاب القديمة، انتعشت الأحزاب الفاشية الحديثة ظل الأزمة، ولا تسعى تلك الأحزاب إلى الدفاع عن إصلاحات اجتماعية أو المساس بنظام الاستغلال في المجتمع، بل تلقي بالمسئولية عن الأزمة على القطاعات الأضعف في المجتمع، ففي بريطانيا على سبيل المثال، كان المهاجرون الآسيويين هم الهدف الأساسي لهجوم الأحزاب والحركات اليمينية في الثمانينيات والتسعينيات، ولكنه بعد 11 سبتمبر والحرب ضد العراق وتفجيرات لندن في 2005، أصبح المسلمون العدو الرئيسي.

وتنتعش أحزاب الفاشية الجديدة في ظل تمسك أحزاب التيار الرئيسي – على غرار حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا والحزب الاشتراكي الفرنسي، والحزب الديمقراطي المسيحي الألماني – بالليبرالية الجديدة، ومن ثم عجزها على القيام بإصلاحات اجتماعية. لذلك يصب قسمًا من التراجع في شعبية أحزاب التيار الرئيسي في صالح الفاشية. من ناحية أخرى، تتسامح أحزاب التيار الرئيسي مع التوجهات الفاشية لأنها تمثل مخرجًا بعيدًا عن طريق الثورة أو حتى الإصلاح الجذري، ذلك أن تصوير المهاجرين والمسلمين باعتبارهم السبب الرئيسي في البطالة ومصدر التهديد لقيم وثقافة المجتمع يعفي النظام من المسئولية ويسمح بتوجيه الغضب نحو القطاعات الضعيفة.

الحالة المصرية
كما سبق القول، تُعتبر الفاشية هي المخرج الذي تلجأ إليه الطبقات الحاكمة عندما تشتد الأزمة، وتصبح الطرق التقليدية في احتواء الصراع الاجتماعي غير ذات جدوى. وفي هذا السياق يمكن فهم “إرهاصات” الفاشية التي شهدها المجتمع المصري خلال الفترة التالية على سقوط مبارك.

اضطُرت الطبقة الحاكمة بالتسليم بسقوط نظام مبارك في فبراير 2011، وكانت الخطوة التالية هي السعي لاحتواء الموجة الثورية عبر ما يسمى “ديمقراطية الصندوق”، أي توفير صندوق انتخابات نظيف يسمح بوصول القوة الجماهيرية الأكثر شعبية إلى السلطة – وهي في حالتنا التيار الإسلامي وعلى رأسه الإخوان المسلمين – من دون أي تغيير ثوري أو حتى إصلاحي ذي شأن في نمط الثروة والسلطة السائد. ويفسر ذلك النهج حالة التوافق التي ساد شهوراً طويلة بين المجلس العسكري والإسلاميين الذين بدوا الخيار الأفضل من أجل احتواء المد الثوري في ظل التأييد الجماهيري الواسع الذي يحظون، لكنه نتيجة عوامل محلية ودولية معقدة لا يتسع هذا المقال للخوض فيها، سرعان ما اتضح صعوبة إقناع الجماهير بالاكتفاء بديمقراطية الصندوق كبديل عن الإصلاحات الاجتماعية والسياسية.

ومن هنا كان شبح الفاشية يلوح مع كل استحكام للأزمة، ربما كان مظهره الأول هو تصريحات عاصم عبد الماجد في صيف 2011 بعد اعتصام 8 يوليو، حول اعتزام الإسلاميين “تطهير” ميدان التحرير، ثم كان ما عرف بـ “جمعة قندهار” حيث احتشد مئات الآلاف من الإسلاميين في التحرير يهتفون “يا مشير يا مشير من النهارده أنت الأمير” في رسالة تهديد واضحة للقوى الثورية، وتلا ذلك مذبحة ماسبيرو التي حاول خلالها المجلس العسكري تأليب جماهير المصريين ضد الأقباط وتبرير قتلهم وتصويرهم كعدو الوطن.

وفي أعقاب تولي محمد مرسي الرئاسة، أطلت النوازع الفاشية برأسها من جديد في أحداث قصر الاتحادية، حيث توجه الآلاف من شباب الإخوان إلى القصر من أجل “حماية الرئيس” عبر اعتقال وتعذيب المعارضين لإعلان 22 نوفمبر الدستوري، لكنه في كل إطلالات الفاشية هذه، كان يجري التراجع قدمًا عن السير في هذا الطريق، ربما نتيجة لمخاطر التكلفة.

وأثبتت فترة رئاسة محمد مرسي بشكل قاطع فشل طريق ديمقراطية الصندوق في احتواء حركة الاحتجاج الجماهيري، فاستمرت الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات، وفشلت آليات القمع التقليدية في تحقيق الاستقرار.

وكانت احتجاجات 30 يونيو علامة فارقة في ظل الحجم غير المسبوق للحركة المناهضة لحكم الإخوان، وبات ضروريًا البحث عن طريقة جديدة في الحكم تضع نهاية لهذه الحالة من عدم الاستقرار.

ومن هنا كان انقلاب 3 يوليو وما تبعه من نداء من جانب وزير الدفاع للشعب المصري بتفويضه من أجل “محاربة الإرهاب”. وكانت مظاهرات التفويض هذه بمثابة التجلي الأوضح للنزعة الفاشية، فقد خرج الملايين رافعين صور السيسي ومطالبينه بمواجهة الإرهاب، وهو ما كان يعني في حقيقة الأمر مواجهة الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية – باستثناء طبعًا الأقسام المتعاونة مع الأجهزة الأمنية. وفي ظل هستريا العداء للإسلاميين، وتصويرهم باعتبارهم غير وطنيين، بل و”عملاء” يعملون لحساب جهات أجنبية، ارتُكبت المذبحة تلو الأخرى وسط صمت وأحيانًا تأييد شعبي. وفي المقابل، تنهال هيستريا الاتهامات والتخوين في مواجهة كل من يرفع صوته احتجاجًا على القمع أو رافضًا لنهج الإقصاء أو مطالبًا بتحقيق أهداف ثورة يناير.

لكن النزعة الفاشية هذا المرة اتخذت شكلاً شبه عسكري، حيث اضطلع الجيش بمهمة الحامي في مواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين، ومن ثم يصبح انتقاده خيانة، وبرز وزير الدفاع باعتباره رمزاً للوطن تعد “الإساءة إليه” جرماً يستحق الاعتقال.

تغيير دفة الصراع
وتُعتبر حالة الهيستريا السائدة في أعقاب 30 يونيو تجسيدًا للدور الذي يمكن أن تلعبه الفاشية في خدمة الثورة المضادة. ففي تلك الموجة الثورية، رأينا الملايين تخرج إلى الشوارع اعتراضًا على حكم الإخوان بعدما وجدت أنه لا يختلف في سياساته وانحيازاته عن النظام القديم. ومع التسليم بأن قوى النظام القديم كانت مشاركة في تلك الموجة لأغراض لا علاقة لها بمطالب الجماهير الاجتماعية والديمقراطية، إلا أن الملايين التي خرجت إلى الشوارع كانت مدفوعة في الأساس بالغضب، لأن أهداف الحرية والعدالة والكرامة لم تتحقق، وأنه بدلاً من ذلك، ساءت ظروف الحياة عما كانت عليه في السابق.

ولعب سلاح الفاشية دورًا أساسيًا في تغيير دفة هذه الحركة الجماهيرية، فتحولت الأمر من الدعوة إلى تحقيق أهداف الثورة إلى حركة تتخذ من قسمًا آخر من الجماهير، وهو هنا الإسلاميين، عدواً لها. وفي هذا الإطار، جرى خلق حالة من الرعب داخل المجتمع عبر أوهام المؤامرات واتهامات العمالة والتجسس. وفي هذا السياق، تم التعامي تمامًا عن الأهداف الأساسية لموجة 30 يونيو، بل أصبح كل من يطالب بتحقيق هذا الأهداف أو يتنقد الممارسات القمعية للجيش والشرطة يُعتبر في أعين الدولة وقطاعاً كبيراً من الجماهير خائنًا، أو على الأقل “غير وطني”، لأن الأولوية الآن هي “المعركة ضد الإرهاب”، فيما يتعين على الجميع التكاتف والارتفاع فوق مطالبهم الجزئية من أجل “مصلحة الوطن”.

ولم يكن عنف الأمن والجيش في مواجهة الاحتجاجات التي وقعت ما بعد 3 يوليو – مثل إضراب مصنع السويس للصلب واعتصام خريجي الثانوية العامة والدبلومات الفنية – مصادفة، بل كان تعبيرًا عن هذا التوجه.

لماذا تظل إرهاصات؟
لكن مظاهر الفاشية التي شهدتها مصر تظل إرهاصات وليست ظاهرة مكتملة، ذلك أننا في كل المناسبات المشار إليها، لم يتطور الأمر إلى حالة فاشية ناضجة. فمثلاً، لم يترتب على “جمعة قندهار” تشكيل ميلشيات منظمة تقوم بعمليات متواصلة ضد “العلمانيين والليبراليين”، وتراجع المجلس العسكري بسرعة عن حالة التجييش ضد الأقباط بعد مذبحة ماسبيرو، وتبين للإخوان أن الخسائر الناجمة عن أحداث الاتحادية أكبر كثيرًا من المكاسب. وحتى الحالة الأخيرة، وبالرغم من قوة الدعاية والاستعداء على الإسلاميين، لا يزال الأمر بعيدًا عن التبلور في صورة حركة شعبية منظمة، ناهيك عن السيطرة على جهاز الدولة الذي لا يزال أمراً بعيدًا للغاية.

وكما سبق القول، تمثل الفاشية الخيار الأسوأ للطبقات الحاكمة بسبب ما يكتنفها من مخاطر إلطلاق الطاقة الجماهيرية إلى حد الانفلات. ومن ثم، فإنه في الأغلب لا يجري المضي في هذا الطريق إلى النهاية إلا إذا أصبح شرًا لابد منه، أي حينما يتطور الصراع الطبقي إلى حدود تمثل تهديدًا حقيقيًا للنظام الاجتماعي وعلاقات الملكية، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في الفترة السابقة على صعود موسوليني، شهدت الحركة الثورية صعودًا خطيرًا ترتب عليه احتلال العمال للعديد من المصانع، فكان من الضروري وقت هذه الموجة بأي ثمن. ويختلف الأمر إلى حد كبير في الحالة المصرية، فعلى الرغم من الموجات الثورية المتتالية منذ يناير 2011، وتصاعد الحركات الاحتجاجية خاصة في 2012، لم يقترب الأمر من حدود تهديد أركان النظام، ومن ثم لم تظهر الحاجة إلى تكبد هذه التكلفة.

من ناحية أخرى، فإن الحركات التي تحوي جنين الفاشية، كالجماعات السلفية والجماعة الإسلامية على سبيل المثال، لم تحسم خياراتها في هذا الاتجاه. فقد رأينا الصراع داخل الدعوة السلفية وذراعها السياسي حزب النور بين ذوي النزعة المهادنة ومن يريدون الضرب من حديد على من يعتبرونهم أعداءً.

حدود سلاح الفاشية
لكن قدرة سلاح الفاشية التي تستخدمه الطبقة الحاكمة حاليًا على سحق الحالة الثورية بصورة نهائية تظل محل شك كبير، فلا يمكن تجاهل أن ما يحدث في مصر يمثل جزءً من موجة ثورية عالمية ضد الليبرالية الجديدة، لا يبدو أنها ستنطفئ في وقت قريب، ذلك أنه لا تلوح في الأفق مخارج للأزمة التي بدأت عام 2008- وهي الأكبر منذ “الكساد العظيم” في أوائل الثلاثينيات. على العكس من ذلك، تؤدي إجراءات التقشف التي تتخذها الحكومات إلى المزيد من الركود، ومن ثم المزيد من تعمق الأزمة، ومن ثم، فإنه لا توجد دلائل على إمكانية انتهاء الموجة الثورية في العالم، ومصر جزء منه، في الأمد المنظور.

وعلى الصعيد المحلي، ليس بوسع النظام الحاكم في مصر تقديم شيء للجماهير في ظل عمق الأزمة وعدم الاستعداد لتبني خيارات تضر بصالح من يقفون على رأس هرم الثروة من أجل عيون الفقراء. وينبغي هنا التذكير بأن العصا وحدها لم تكن تكفي، حتى في ظل أقصى درجات القمع الذي ارتبط بالنازية. فلولا اقتصاد الحرب الذي أحدث انتعاشًا شعرت به قطاعات واسعة من الجماهير، ما كانت استطاعت تلك الحركة البقاء على قيد الحياة سنوات طويلة. لذلك، فعلى بالرغم من الآثار السلبية حالة القمع والتعبئة الراهنة، يصعب تصور أن يؤدي ذلك إلى تحقيق الاستقرار وتدجين الحركة الجماهيرية بصورة نهائية، لأنه بعد أن يهدأ غبار المعركة، سيتضح أن أيًا من المطالب الجماهيرية في العدالة الاجتماعية والديمقراطية لم يتحقق، وهو ما يفتح الأفق أمام موجات جديدة من الصراع.