رأيت الفاشية بعيني

كنت متوجها إلى محطة مترو المعادي ظهر السبت 25 يناير الماضي قاصدا وسط البلد، في الطريق رأيت لافتات معلقة تهنئ الشرطة بعيدها في 25 يناير وعليها صور السيسي ومحمد إبراهيم، لا كلمة واحدة عن الثورة، وحتى صور الشهداء على جدران أحد المنازل في ميدان الحرية جرى محوها بعناية.
عندما وصلت إلى المحطة من ناحية شارع 7 كانت الساعة الواحدة ظهرا، لاحظت فور الدخول إلى الرصيف المؤدي إلى “المرج” طليعة تجمُّع للشباب على مدخل المحطة في الجانب الآخر (شارع 9)، وتبين لي بالكاد أعلاما بيضاء مرفوعة وعلى اثنين منها اثنان من البورتريهات للشهيدين الشيخ عماد عفت ومينا دانيال، بدا لي أن الهتافات كانت ضد العسكر والإخوان معا، دقيقة أو دقيقتان وشاهدت مجموعة من الشباب بملامح بلطجية تأتي مسرعة من خلفي لتعتلي الكوبري باتجاه الرصيف المقابل، وكان أحدهم يعلق في رقبته رباطا تتدلى منه صورة السيسي في ملابسه العسكرية، وعندما بلغوا الرصيف أخرجوا خراطيش وبدأوا في استهداف المتظاهرين.
وسرعان ما تبيّن لي أن الهجوم على المتظاهرين المعارضين كان على هيئة “كماشة “، فرغم الهجوم من الأمام فقد اندفعت أعداد منهم إلى داخل المحطة على الرصيف، فيما ظهر مطاردون لهم من شرطة بملابس رسمية وملابس غير رسمية وهم يحملون المسدسات والسلاح الآلي وبعضهم ملثم في ملابس سوداء. كان المشهد مرعبا، وأصوات طلقات الخرطوش والنار تتردد في جنبات محطة المترو، والبلطجية من حاملي الخرطوش وضاربيه يعملون في حماية الشرطة، بل ورعايتها، والناس حتى في الجانب الآخر من المحطة تبحث عما تحتمي به.
انطلق المطاردون وراء المتظاهرين الفارين على قضبان المترو باتجاه محطة ثكنات المعادي، وساد الرصيف المتجه إلى حلوان نفسه مشهد مخيف من رجال الأمن الشاهرين سلاحهم. يقينا كان الشباب المتظاهر لا يحمل أي سلاح ولا حتى الحجارة، لم يكن معهم سوى أعلامهم وحناجرهم وصور شهداء ثورة يناير.
جاءت رحلتان من المترو في اتجاه “المرج”، ولكنهما لم تتوقفا في محطة المعادي، والركاب متسمرون في أماكنهم رعبا لا يعرفون كيف يتحركون، لقد أربكتهم المفاجأة، فقط احتموا بالأعمدة والحوائط. وسنحت الفرصة لي لتبين ملامح وجوه البلطجية العائدين مظفرين من غزوة الرصيف المقابل، كانوا شبابا تحت العشرين في وجوههم آثار معارك ربما جرت بالسكاكين والمطاوي وشفرات الحلاقة، وبدت على الوجوه ملامح نشوة الانتصار، بينما صاح شرطي من الرصيف المقابل: “قبضوا على ولاد الكلب”.
فكرت في أن ألتقط بكاميرا صغيرة كانت معي أو بعدسة الهاتف المحمول، صورة للبلطجية أو أحدهم ممن عادوا للتجمع خارج المحطة باتجاه شارع 7، أو لرجال الشرطة بملثميهم على الرصيف الموازي لشارع 9، لكنني شعرت بالخوف وتحسبت للعواقب، وتذكرت زميلي “أحمد محمود” الذي قتله ضابط شرطة في ملابسه الرسمية وهو يلتقط الصور من شرفة مكتبه في شارع محمد محمود يوم 29 يناير 2011، وقمنا بتعليق صورة قاتله، التي التقطها بكاميرا هاتفه، في بهو مدخل نقابة الصحفيين لمدة نحو شهر كامل أثناء حكم المجلس العسكري الأول.
لكن عبثا لا الداخلية ولا النائب العام ولا القضاء تفضل أي منهم بالبحث عن صاحب صورة قاتل الشهيد، وتذكرت أن أيا من رجال الشرطة والجيش من قاتلي الشهداء لم يحاسب أبدا.
الرحلة الثالثة للمترو بعد مشهد الفزع هذا توقفت، ودخلْتُ إلى عربة نصف فارغة، ولفنا صمت لم يقطعه إلا نداء إثنين من الباعة الجائلين من الشباب الأقل من العشرين عاما ركبوا من المحطة التالية “حدائق المعادي”، وأخذوا في الصياح على بضاعتهم من صور السيسي وعلَّاقات في الرقبة تحمل صوره، كسروا صمت العربة وهم يجوبونها جيئة وذهابا يستحثون الركاب على شراء بضاعة “البطل” بجنيه وبجنيهين، لكن أحدا لم يشترِ، بل كان بإمكاني أن ألاحظ أن عيون الركاب الزائغة أصلا حرصت على ألا تلتقي بعيون البائعين أبدا.
هبط الشابان في المحطة التالية “دار السلام”، وحمدت الله لأن أحدا منهما لم يُخرج من ملابسه مسدسا ويفرغه في زبائن غير متجاوبين وغير متحمسين، وأكمل المترو رحلته فيما تأبد صمت العربة مختلطا بنظرات توجس بين راكبيها.
عندما عدت إلى البيت في نحو الرابعة عصرا، بعدما أخذت جرعة كافية من مظاهر “عبادة الفرد” ومعها مزيدا من الشواهد بالعين واليقين أن الشرطة تتصدى بأقسى درجات القمع والوحشية لأي صوت آخر يرتفع يخالف “مارش تسلم الأيادي”، وجدت زوجتي وقبل أن أنطق بكلمة واحدة تلح أمام إبني أن نغادر هذا البلد.
كانت هي الأخرى مرعوبة، رغم أنها لم تكن قد غادرت المنزل في هذا اليوم قط، ولم أكن قد أخبرتها بشيء مما رأيت بعيني مما جرى في محطة المعادي الواحدة ظهر يوم السبت 25 يناير 2014.
ملحوظة: الآن وأنا أكتب هذه الشهادة، تذكرت أنه كان ينبغي أن أكون متوجسا من التفجيرات، وخشية أن يكون أحدهم يستهدف المترو بالمزيد من الانفجارات، لكن ما جرى أنساني حتى هذه اللحظة الخوف الأول المفترض.