الملك والمشير

مقدمة لابد منها
تسود هذه الأيام حالة من الإحباط واليأس في أوساط الثوريين، خاصة بعد أن تحول 25 يناير من احتفال بالثورة إلى احتفال بالجيش والشرطة والثورة المضادة ورمزها وقائدها المشير السيسي. ورغم موجة الإضرابات العمالية المتصاعدة في الأسبوعين الأخيرين، ورغم ما يبدو بداية تشققات في صفوف الثورة المضادة، فما زالت الصورة الأكبر تبدو سيئة وخطيرة.
وما من شك في أننا نمر بأكبر انتكاسة شهدتها الثورة المصرية منذ اندلاعها، لا ينفع مع مثل هذه الانتكاسة الاختباء وراء حالة من التفاؤل غير المبرر أو التقليل من حجم الهزيمة، ولكن لا يمكن حتى البدء في مواجهة هذه الانتكاسة ونحن غارقون في حالة من الإحباط والتخبط والحنين للأيام والشهور الأولى للثورة.
العملية الثورية مثل الحرب الطويلة تستمر لسنوات ويتخللها الكثير من المعارك، بعضها ينتهي بالنصر وبعضها ينتهي بالهزيمة، ومواجهة الهزائم لا تكون بإنكارها ولا تكون أيضاً بالاستسلام لها، وكأن المعارك الحالية هي المعارك الأخيرة، وكأن الثورة انتهت بلا رجعة ولا أمل في اندلاع موجات ثورية جديدة، حتى وإن تأخرت تلك الموجة لسنوات.
السؤال الملح هنا هو كيف يتجنب الثوري حالة الإحباط دون الوقوع في براثن الإنكار والتفاؤل الساذج، والذي لا يؤدي بدوره إلا لمزيد من الإحباط عندما تصطدم التوقعات بالواقع؟ كيف يستفيد الثوري من دروس الهزيمة ليستعد للمعارك القادمة؟
لعل المهمة الأكثر إلحاحاً هي مهمة فهم ما حدث، كيف انتصرَت (ولو لحين) الثورة المضادة في مصر؟ كيف تمكن السيسي، ليس فقط من إعادة بناء دولة مبارك بفسادها وأجهزتها القمعية بعد فترة من الانهيار والتفكك، ولكن أيضاً كيف تمكن من خلق ظهير جماهيري لهذه العملية؟
يتطلب ذلك الفهم الكثير من الدراسة والنقاش، ومن القراءة لدروس تاريخ الثورات من جانب، وخصوصيات التاريخ المصري من الجانب الآخر.
هناك عناصر عديدة تدخلت لإنجاح الثورة المضادة، تحتاج كلها إلى تحليل تفصيلي، يسمح لنا أن نفهم دورها، ولكن أيضاً للتحضير لتفكيك وشل تلك العناصر عند اندلاع الموجات الثورية القادمة، وإلا تمكنت نفس تلك العناصر من هزيمتنا مجدداً.
هناك بالطبع الدور المتناقض للإخوان المسلمين وخيانتهم للثورة بالتحالف مع قيادات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية لنظام مبارك، بل حتى رجال أعماله الفاسدين، والإبقاء على نفس سياسات النظام القديم الاقتصادية والاجتماعية.
وهناك التحول المذهل لقطاع واسع من المثقفين والإعلاميين والثوريين السابقين من يساريين وقوميين وليبراليين من صفوف الثورة إلى صفوف الثورة المضادة، وهي ظاهرة تظل بحاجة إلى تحليل وفهم رغم تكرارها في كثير من الثورات السابقة.
وهناك الدور الضخم للأجهزة الإعلامية، سواء التابعة بشكل مباشر للأجهزة الأمنية، مثل جهاز الشئون المعنوية للقوات المسلحة الذي لعب دور المايسترو في الحملة الإعلامية المكثفة لبناء التأييد والدعم الجماهيري للثورة المضادة ومشيرها، أو الإعلام الخاص المملوك بالكامل لكبار رجال الأعمال التابعين للنظام القديم وحلفائهم من رأسماليي الخليج العربي، أو لنكون أكثر دقة رأسماليي المحور السعودي الإماراتي.
وهناك الدور المحوري للقضاء، سواء في فيلم البراءة للجميع لكل جلادي وقتلة الثورة المضادة، والأحكام المغلظة، ليس فقط على الإخوان والإسلاميين، ولكن على لكل من شارك في ثورة يناير وكل من عارض الثورة المضادة، هذا بالإضافة إلى إضفاء غطاء شرعي على الانقلاب والثورة المضادة، ولا أعني هنا فقط ما فعله ويفعله أراجوزات قضاء مبارك الفاسدون مثل الزند والجبالي، ولكن كيف سُخِّر الجهاز القضائي ككل لخدمة الثورة المضادة.
وهناك ما سنتناوله في هذا المقال وهو البعد الإقليمي للثورة المضادة. ونعني بذلك الدور المحوري لدول مثل السعودية والإمارات والكويت في دعم وتمويل الثورة المضادة في مصر، وهو بلا شك عامل رئيسي في تمكين السيسي وجنرالاته من تنفيذ مخططهم الدموي حتى الآن.
الملك والمشير
لا يمكن تصور إقدام قادة الثورة المضادة بمغامرة الانقلاب والشروع في الثورة المضادة دون ضمانات سابقة من كبار الممولين، وعلى رأسهم رأس المال الخليجي الذي يتحكم في توجهاته ملوك وأمراء السعودية والإمارات والكويت (قطر وأميرها المشاكس والمغامر تمثل الاستثناء الذي يثبت القاعدة).
كل تلك البلدان تدور بالطبع في فلك الإمبريالية الأمريكية، والتي تحمي عروشهم بالقوة المسلحة، ولكن رأسمالية تلك البلدان لم تعد تعتمد فقط على عائدات البترول كما كان الحال حتى ثمانينات القرن الماضي، فقد مكن تراكم الثروات الهائلة من عائدات النفط والغاز إلى تحول تلك الدول إلى مراكز تمويلية وتجارية ضخمة، وهذه المراكز بدورها أصبحت مصدراً هاماً للاستثمارات، ليس فقط في دول الخليج نفسها من حيث البنية التحتية والمشاريع الإنشائية الكبرى، ولكن أيضاً على المستوى العالمي وخاصة على المستوى الإقليمي، وهنا تلاقت أهداف مستثمري الخليج المتعطشين لمنافذ استثمارية لثرواتهم المتراكمة مع احتياج رأس المال المصري والدولة المصرية لشريك يمدها بالمليارات التي تحتاجها في مقابل أرباح استثنائية ونفوذ استثنائي.
لا يمكن فهم الدور المحوري لدول الخليج العربي في دعم الثورة المضادة في مصر دون فهم تلك التحولات وتأثيرها على بنية الرأسمالية المصرية وطبقتها الحاكمة.
التحول الذي شهده رأس المال الخليجي وتأثيره المتنامي في الاقتصاد العالمي والإقليمي العربي يحلله ويشرح مراحل تطوره الباحث الماركسي آدم هنية في كتابين هامين، “الرأسمالية والطبقة في دول الخليج العربي”، و”مسارات الثورة: قضايا الرأسمالية المعاصرة في الشرق الأوسط”، وكل الإحصائيات التي نعتمد عليها في هذا المقال مصدرها هاذين الكتابين الرائعين..
مبارك والخصخصة وتوغل رأس المال الخليجي
أدت سياسات الليبرالية الجديدة، خاصة في العقدين الأخيرين لحكم مبارك، إلى تركيز غير مسبوق لرأس المال بحيث أصبحت 100 عائلة تتحكم في الكتلة الأكبر من الثروة المصرية – في شراكة مع قادة الجيش وكبار رجال الدولة.
ولكن ما لا ننتبه له بشكل كاف أحياناً هو الدور الضخم لرأس المال الخليجي في هذه العملية، فعلى سبيل المثال في عام 2008 تحكمت 7 عائلات في شركات تمثل أكثر من 20٪ من قيمة أسهم البورصة المصرية، دخلت هذه العائلات في شراكة مع شركات استثمارية عامة في طريقها إلى الخصخصة، وشركات إنشائية ضخمة تحولت إلى شركات تنمية عقارية، مثل مجموعة بهجت وطلعت مصطفى والنساجون الشرقيون، وبالطبع الشركات الخليجية العملاقة مثل إعمار وسوليدير وبروة وداماك.
وقد زادت نسبة المكون الخليجي في الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر من 4.5٪ عام 2005 إلى أكثر من 25٪ في 2007 (أي في عامين فقط)، وفي الفترة ما بين 2000 و2008 استحوذ رأس المال الخليجي على 37٪ من إجمالي قيمة الخصخصة.
وقد تضمن التوغل الخليجي في الرأسمالية المصرية استثمارات في العديد من القطاعات، منها التمويل والبنوك والعقارات والاتصالات والصناعة، ولم تؤدِ عملية الخصخصة إلى تركيز الثروات في أيدي كبار رجال الأعمال المصريين فحسب، بل أدت إلى شراكة بين هؤلاء وبين دور متنامي ومركزي لرأس المال الخليجي الذي أصبح مكونا أساسيا في الطبقة الحاكمة المصرية، وأصبح لشركات كبرى مثل سافولا السعودي والخرافي الكويتية مصالح حيوية في قلب الرأسمالية المصرية.
الزراعة والصناعات الغذائية
في المجال الغذائي وصل الاحتكار وتركيز رأس المال إلى مستويات استثنائية، حيث تحكمت 7 شركات في تجارة التصدير للفواكه والخضروات الطازجة، شركة واحدة على سبيل المثال تتحكم في 30٪ من صادرات البطاطس، وفي حالة المأكولات المعلبة (طبقاً لإحصائيات 2005) تحكمت 5 شركات في 26٪ من الصادرات، 3 منهم مملوكة لرأسمال خليجي.
إن درجة تحكم رأس المال الخليجي في قطاع الزراعة والصناعات الغذائية (في شراكة بالطبع مع رأس المال المحلي كشريك ثانوي) هي بالفعل مثيرة للدهشة، الشركات الغذائية الكبرى، مثل مزارع دينا وجهينة وفارم فريتز وعافية الدولية، كلها إما مملوكة بشكل كامل أو في شراكة مع رأس المال الخليجي.
الشركات الخليجية تتحكم على سبيل المثال في أكثر من نصف إنتاج الدجاج المصري، أكبر تلك الشركات، شركة القاهرة للدجاج، هي فرع من شركة أمريكانا الكويتية منذ 2007.
تتحكم هذه الشركة وحدها في 30٪ من سوق إنتاج الدجاج التجاري، و45٪ من سوق الدجاج المجمدة في مصر، وتتحكم في جميع مراحل الإنتاج، من مزارع تربية الدواجن حتى سلاسل المطاعم الشهيرة.
أدت سياسات الليبرالية الجديدة في الزراعة منذ نهايات ثمانينات القرن الماضي حتى اليوم إلى سيطرة شركات كبرى بملكية تضم ذلك التحالف الذي أصبح يمثل الطبقة الحاكمة في مصر: كبار رجال الأعمال وعائلاتهم، والشركات الأجنبية وعلى رأسها الخليجية، وكبار رجال الدولة والجيش.
الاستثمارات التمويلية كبوابة لرأس المال الصناعي
شكلت صناديق الاستثمار الخاصة والشركات التمويلية أهم منافذ دخول رأس المال الخليجي إلى مصر، ولعل أهمها شركة أبراج الإماراتية وشركة أموال الخليج السعودية. وفي عام 2007 أقدمت شركة أبراج على أكبر استثمار إقليمي في تاريخها بشراء شركة الأسمدة المصرية بـ 1.4 مليار دولار، كان قد تم خصخصة الشركة العملاقة كأكبر شركة إنتاج للأسمدة في مصر مرتكزة على التصدير من خلال ميناء العين السخنة، وتوسعت شركة أبراج لتلتهم المزيد من رأس المال في مصر في مجالات الإنشاءات والعقارات والقطاع الطبي وتكنولوجيا المعلومات والغذاء والمنافذ التجارية.
أما شركة “أموال الخليج” السعودية فسرعان ما أصبحت لاعبا كبيرا في الصناعة المصرية، ففي عام 2007 اشترت الشركة غالبية أسهم الشركة العربية لحلج الأقطان، وهي أكبر الشركات من حيث القيمة في مجال الغزل والنسيج، وكان قد تم خصخصة الشركة في 1996، وهي شركة عملاقة تتحكم في 25% من حلج القطن المصري، وتتحكم في نسبة مماثلة من صادرات القطن، وقد تحكمت أيضاً شركة أموال الخليج في شركة مطاحن الصعيد العملاقة، وأصبحت مساهما رئيسيا في شركة النساجون الشرقيون، هذا بالإضافة لاستثمارات ضخمة في الصناعات البترولية ومشتقاتها.
لابد أن نؤكد هنا أن هذا الهجوم من قبل رأس المال الخليجي حدث في شراكة حميمة مع رأس المال المصري، وقد حدث ذلك أساساً من خلال صناديق الاستثمار الخاصة، ولعل أهم مثال لذلك هو شركة إي إف جي هرميز، وهي عبارة عن صندوق استثماري بدأ برأسمال مصري وسرعان ما اندمج مع الشريك الخليجي الأكبر، ففي 2006 أصبحت شركة أبراج المساهم الرئيسي بعد استثمار 500 مليون دولار في الشركة، وأصبحت حركة تلك الاستثمارات تدور في الفلك الخليجي، ففي 2007 باعت أبراج أسهمها بقيمة 1.1 مليار دولار، واشتراها شركتي مجموعة دبي وهيئة أبو ظبي للاستثمار، وأخذت شركة هرميز هذه تبتلع المزيد والمزيد من رأس المال في مصر في أكبر وأكثر القطاعات الاستراتيجية، من إنشاء وإدارة محطات المياه ومحطات الطاقة واستيراد الماشية وتجارة اللحوم والخدمات البترولية وصناعة الحديد والصلب والزراعة والبنية التحتية.
لم تكن هرميز وحدها في عملية الدمج والاستحواذ هذه بين رأس المال الخليجي ورأس المال المصري، فقد كان لشركتي القلعة وبيلتون أدواراً مماثلة، فشركة القلعة تضم كبار الرأسماليين المصريين إلى جانب ممثلين لمجموعتين سعوديتين كبيرتين وشركة الإمارات الدولية للاستثمار، أما شركة بلتون فتملك شركة أموال الخليج 17٪ من قيمتها.
رأس المال العقاري
ولعل المجال الذي يثبت أيضاً بما لا يدعو للشك كيف أصبحت الرأسمالية الخليجية مكوناً رئيسياً للطبقة الحاكمة في مصر هو مجال الاستثمارات العقارية، وهنا نرى بوضوح ذلك التداخل بين مؤسسات الدولة ورأس المال المحلي ورأس المال الخليجي، من خلال خصخصة أراض الدولة طوال العقد الأخير من حكم مبارك.
هذه الخصخصة فتحت طريقين لهذا التداخل والاندماج، الطريق الأول كان البيع المباشر لأراض الدولة لشركات التنمية العقارية الخليجية، والثاني كان شراء المستثمرين لحصص كبرى في الشركات العقارية المصرية، المثال الصارخ للطريق الأول المباشر كان في إحدى أكبر المناقصات في التاريخ المصري في مايو 2007، حيث تم بيع 18.5 مليون متر مكعب من أراض الدولة بالقاهرة، ذهب 90٪ منها لشركات سعودية وقطرية وإماراتية.
تتحكم شركات التنمية العقارية في 80٪ من قيمة المشاريع العقارية الكبرى في مصر (المشاريع ذات القيمة التي تتجاوز 100 مليون دولار)، وهذا بشكل مباشر، أما إذا أضفنا المشاريع التي يساهم فيها رأس المال الخليجي في شركات مصرية فستتجاوز النسبة 90٪!
على سبيل المثال لا الحصر إذا نظرنا إلى الشركتين العملاقتين، مجموعة طلعت مصطفى وشركة سودك (شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار)، وهما أكبر شركات الاستثمار العقاري في القاهرة وأكثرهم استفادة من أراض الدولة المباعة بأبخس الأثمان في تعاقدات فاسدة مع “الأجهزة السيادية”.
مجموعة طلعت مصطفى والتي أسستها عائلة طلعت مصطفى وتتحكم في 50 مليون متر مكعب، يشترك في ملكيتها منذ 2006 مجموعة بن لادن السعودية، ويشارك في مجلس إدارتها اثنان من تلك العائلة الشهيرة.
ونفس الشيء ينطبق على شركة سوديك التي تأسست في مدينة السادس من أكتوبر عام 1996، والتي تتحكم في أراضي شاسعة في غرب وشرق القاهرة وفي القاهرة الجديدة، ففي منتصف الألفينات أصبحت شركة إي إف جي هرميز الشريك الأكبر في سوديك، وبالتالي أصبحت سوديك تحت السيطرة الإماراتية.
بعض الاستنتاجات
إذاً فكما ترون أعزائي القراء، فالدعم المطلق الذي تلقته وتتلقاه الثورة المضادة ومشيرها من قِبَل ملوك وأمراء السعودية والإمارات والكويت، ليس مجرد خوف غريزي لدى هؤلاء من الثورة بشكل عام، ولكنه يعبر أيضاً عن التداخل الذي أحدثته سياسات الليبرالية الجديدة في حقبة مبارك ما بين الطبقة الحاكمة في ممالك وإمارات الخليج، وبين الطبقة الحاكمة المصرية برجال أعمالها الفاسدين وجنرالاتها الأكثر فساداً.
فحينما يموِّل المحور السعودي الإماراتي مشروع المشير الدموي لقتل الثورة المصرية بما يزيد الآن عن 20 مليار دولار، فهذا يُعبر عن مصلحة، ليس فقط لدفن الثورة، بل لاستمرار سياسات نظام مبارك التي فتحت مجالاً خصباً للأرباح الهائلة لرأس المال الخليجي الباحث عن منافذ لتراكم عوائد النفط.
إذاً فحكم العسكر في مصر اليوم لا يُعبر فقط عن الطبقة الحاكمة المصرية، بل طبقة حاكمة إقليمية، مكونها الأكبر هو رأس المال الخليجي، هذا البعد الإقليمي للثورة المضادة يؤدي إلى عدد من الاستنتاجات الهامة.
أولاً، لولا الدعم الخليجي الضخم لما نجح المشير حتى الآن في ثورته المضادة، ولما كانت الطبقة الحاكمة في مصر ودولتها صمدتا في وجه الموجات الثورية المتتالية.
وثانياً، دور المشير لا يمكن أن يخرج عن السيناريوهات المعدة له من قِبَل مموليه، فكما نعرف جيداً فلا يوجد شيء اسمه تمويل غير مشروط، والتمويل الخليجي يريد الحفاظ على الاستثمارات الضخمة التي تم ضخها في الاقتصاد المصري عبر سياسات الليبرالية الجديدة، أي يريد استمرار المشاركة في نهب الشعب المصري واستغلال طبقته العاملة وزيادة أرباحه الضخمة.
والسيسي يفهم دوره جيداً، ولهذا فلا غرابة أن يعلن موقفه من الترشيح في جريدة كويتية، وأن يقبل أيادي أسياده في الخليج، وأن يعلن دون خجل أن دوره هو تسويق مصر، أي عرضها للبيع بالدينار والريال.
لعل هذا يُكذب كل من يدعي أن السيسي سيتخذ إجراءات لها طابع شعبوي، أو لها أي درجة من الاستقلالية الوطنية.
ثالثاً، علاقة مشروع السيسي بالمحور الخليجي يتنافى تماماً مع أي رغبة أو قدرة على أي دور مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية، فالسعودية والإمارات والكويت وحتى قطر المغامرة هم أقرب الحلفاء لواشنطن في العالم إلى جانب إسرائيل، بالطبع تحدث خلافات بين الحلفاء، ولكن هل يريد أحد أن يدعي أن السعودية مستقلة عن أسيادها في واشنطن، أو أنه يمكنها الاستغناء عن الحماية العسكرية الأمريكية لمصالحها الحيوية؟
العلاقة المصرية الأمريكية تقوم على مصالح واضحة، وهي التزام الجانب المصري بتقديم خدمات عسكرية ومخابراتية للبنتاجون والحفاظ على معاهدة السلام مع الصهاينة، هذا هو الخط الأحمر لواشنطن وهو خط سيحافظ السيسي عليه بنور عينيه، ليس فقط من أجل المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية، ولكن لأن ذلك يتماشى مع مصالح الطبقة الحاكمة المصرية السعودية.
رابعاً، عندما يذهب السيسي لروسيا، فمن المثير للشفقة تصور أنه يريد أو يستطيع أن يغير من شكل التحالفات وتوازنات القوة الإقليمية والعالمية، وكل ما يقال حول تشبيهه بعبد الناصر وتنويع مصادر السلاح هو مجرد فقاعات إعلامية من قِبَل الشئون المعنوية وفروعها الصحفية والتلفزيونية الخاصة، فحتى السلاح الذي يريد السيسي شراءه من روسيا فثمنه في جيب السعودية، والسعودية هي التي ستحدد مدى التعاون المصري الروسي طبقاً لما يسمح به الأسياد، ليس في مكة والمدينة، بل في واشنطن وتل أبيب.
خامساً، وهذا ربما الاستنتاج الأهم، إذا كان نجاح الثورة المضادة مرهوناً بالدعم الخليجي السخي، وإذا كان هذا الدعم مسألة حياة أو موت لطبقة رأسمالية خليجية أصبحت مندمجة عضوياً مع الطبقة الحاكمة في مصر برأسمالييها وجنرالاتها، ألم يكن إذن أحد الأخطاء التي وقعت فيها الثورة المصرية هي عدم الانتباه الكافي للبعد الإقليمي للثورة وبالتالي للثورة المضادة؟ ألم يصبح من الواضح أن الإطاحة بالطبقة الحاكمة في مصر وبدولتها العميقة يتطلب بالضرورة الإطاحة بملوك وأمراء الخليج، ألم يصبح من الواضح أن المَلَكية في السعودية وقفت وستظل تقف عقبة أمام أي إمكانية لانتصار الثورة المصرية؟ ألم تثبت الأحداث أن الملك والمشير إيد واحدة؟