ملحمة رجال السي-سي في دحر فيروس-سي
“بعد الكشف بميكروسكوب
شفنا التوب وما تحت التوب
تشكيلة أمراض عشناها
وإليكم في الآتي دواها”
يخرج علينا المتحدث الرسمي للقوات المسلحة، العقيد أركان حرب أحمد محمد علي، معلنا عن “أحدث المبتكرات العلمية والبحثية المصرية لصالح البشرية” وهي “اختراع أول نظام علاجي في العالم لاكتشاف وعلاج فيروسات الإيدز، يمكنه القضاء على فيروس سي بتكلفة أقل من مثيله الأجنبي بعشرات المرات وبنسبة نجاح تجاوزت 90%”. ليس هذا فحسب بل أن “بنفس النظرية تم ابتكار جهاز للكشف عن إنفلوانزا الخنازير”.
ولكن.. قلنا أن السيد المتحدث ربما يبالغ، من فرط فرحته بإنجاز علمي، سيفهمه أمثالنا من العامة والدهماء، إذا شرحه مثلا أحد المتخصصين، مثل اللواء إبراهيم طاهر عبد العاطي، الذي شرح الفكرة بأسلوب علمي بسيط لكنه “لذيذ”: “نحط فيروس الإيدز في صباع كفته.. نديه للمريض يخف.. وده الإعجاز العملي”.
بالتأكيد نحن من لدينا مشكلة ذهنية في “هضم” المصطلحات المشوية – أقصد العلمية – وعدم ثقة في قدرات علمائنا بدليل أن “جهات ما” عرضت على سيادة اللواء أن يشتروا الاختراع، حسب ما أدلى به في الفضائيات، لكنه أصر على أن يكتبوا أن صاحبه عالما عربيا مصريا مسلما.. فرفضوا وحينئذ “المخابرات حمتني، وخطفتني وحطتني هنا” كما قال!
فاسألوا أهل الذكر
قبل أن نتطاول على “أسيادنا”، يجدر بنا في البداية أن نعرف عما نتحدث..
حسب نشرة منظمة الصحة العالمية فإن التهاب الكبد الفيروسي سي (Hepatitis C)، المعروف اختصارا باسم فيروس سي: هو مرض معدٍ يصيب الكبد، ولا تظهر أعراضه إلا في المراحل المتأخرة من المرض، بعد حوالي 6 أشهر من الإصابة، عندما يصبح الالتهاب مزمن، ثم يتطور إلى تليف الكبد وقد يتطور إلى سرطان الكبد، علاوة على أمراض وأعراض جانبية أخرى.
اكتُشِفَ المرض عام 1989، وبدأت فحوصات الكشف عن الإصابات به في 1992. ولأن المرض ينتقل عن طريق الدم فإن نسبة التعرض للإصابة تكون عالية، فقد تنتقل العدوى عن طريق استعمال حقن أو أدوات أو أجهزة طبية، أو حتى أدوات حلاقة ملوثة، وينتقل بدرجة أقل بين الزوجين أو من الأم للجنين، ولا ينتقل بالمخالطة اليومية المعتادة للمريض بالمصافحة أو العناق أو مشاركة الطعام.
أهم الطرق المتبعة لاكتشاف المرض هي عن طريق تحليل الدم لاكتشاف الأجسام المضادة للفيروس، وكذلك بتحليل وظائف الكبد بالدم الذي يعكس مدى تأثر الكبد بالمرض. في بعض الأحيان تُأخذ عينة من الكبد نفسه، و60 : 70% من المصابين تتطور إصابتهم إلى الحالة المزمنة، بينما قد تتطور إصابة 5 : 20 % إلى التليف الكبدي أو الأسوأ من ذلك.
هناك ستة أنماط جينية للمرض، مما يستتبع اختلاف العلاج، ويمكن علاج فيروس سي باستخدام الأدوية المضادة للفيروسات، أشهرها (بيج – إنترفيرون peginterferon alfa)، كما ظهرت مؤخرا أدوية أخرى أكثر فاعلية لكنها باهظة الثمن، ولا توجد لقاحات للوقاية من المرض.
يُصاب حوالي 3 و4 ملايين شخص سنويا بعدوى فيروس سي، وهناك ما يقرب من 150 مليون مصاب موزعين على أنحاء العالم، ويموت 350 ألف مريض سنويا جراء المرض ومضاعفاته.
أما عن مصر، فالتقديرات تتراوح بين 12 : 15 مليون مصاب، وتزداد سنويا بحوالي 165 ألف مصاب وهي نسبة عالية تحتل على إثرها مصر المركز الأول عالميا في انتشار المرض، بل وتعتبر المستشفيات الحكومية مسئولة عن 40% من الإصابات بسبب قلة توفر الأدوات المستخدمة وضعف الإمكانات التعقيمية في ظل موازنة صحية هزيلة لا تزيد عن 4% من الموازنة العامة.
في ديسمبر 2013، صرحت د. مها الرباط، وزيرة الصحة والسكان، بتشكيل لجنة من المتخصصين في أمراض الكبد، للتفاوض مع الشركات المنتجة للعقاقير الجديدة لعلاج فيروس سي للوصول إلى سعر مناسب. وهو ما يعني أن وزارة الصحة ليس لديها أي علم بالجهاز المذكور وهو ما أكده تعليق المستشار الإعلامى لوزارة الصحة د. أحمد كامل للصحف بأن “الوزارة ليس لديها تفاصيل حول الجهاز”!.
وكذلك تصريح المستشار العلمي للرئيس، د. عصام حجي، أن “الاختراع غير مقنع وليس له أي أساس علمي واضح من واقع العرض التوضيحى للجهاز، إضافة إلى أن البحث الخاص بالابتكار لم يُنشر في أي دوريات علمية مرموقة، وأن ذلك يسىء لصورة الدولة”.
من عض الحمام وبول الإبل.. إلى الكفتة
أهم التعليقات التي لفتت انتباهي، تعليقات أ. د. علاء عوض، أستاذ أمراض الكبد بمعهد تيودور بلهارس:
“حياتى المهنية التي تجاوزت الثلاثين عاما قضيت معظمها في اﻻشتباك مع فيروس سي وأمراض الكبد، رأيت خلال هذه الرحلة الكثير من اﻻدعاءات الوهمية.. ارتدى بعضها رداء العلم واﻵخر رداء الدين، مثل الحبة الصفراء والأعشاب ولدغ النحل وعض الحمام وبول الإبل والعلاج بالحرارة والعلاج بالأوزون والطحالب وغيرها”.
“بينما كان العالم يسير في طريق العلم ويتبع مناهجه في البحث والنشر واستطاع أن يحقق إنجازات مطردة في هذا السياق.. وظللنا نحن أمام حالة من العجز نسوق الوهم والزيف والتضليل دون أن نتقدم قيد أنملة، اكتفينا بدور المراقب، أو المتذيل.. يا سادة، للبحث العلمي أصوله ومناهجه، واﻻبتعاد عن هذه المناهج ﻻ يوصلنا إﻻ إلى مزيد من الخزعبلات”.
“… حكاية الإعلان عن تقنيات علاجية حديثة بعيدا عن قاعات العلم يذكرنا على الفور بحواديت مصرية مثل اكتشاف علاج للإيدز بحقن اللبن في عضل المصاب ومثل العلاج الحراري والعلاج بالأوزون لفيروس سي وغيرها من الحكاوي الفارغة التي مرت عليّ”.
وطبعا لن نستثني هنا حديث اللواء عبد العاطي حول التركيبة الجينية للفيروس بوصف مغالط تماما للعلم وبدائيات محاربة الفيروس، ولن نستثني أيضا هذيان استخدامات الجهاز التي انطلقت أيضا لتعالج السكر وانسدادات الشرايين والصدفية والأمراض الخبيثة كالسرطان، برغم اختلاف مسبباتها العلمية وما يترتب على ذلك من تنوع واختلاف طرق علاجها.
وشهد شاهد من أهلها
في وسط الصخب حول “الاختراع” برزت أسماء رسمية عديدة، باعتبارها من المشاركين في الأبحاث بهدف التأكيد على حقيقة الاختراع، وهو ما يضع علامات استفهام وخطوط حول رواية السيد اللواء إياه. وبعض هؤلاء ربما وجد أنه من الحنكة أن يعلن تقديره لجهود القوات المسلحة، ويؤكد أنه كان شريكا في هذا السبق. ولكن..
د. جمال شيحة، أستاذ الكبد والجهاز الهضمي، ورئيس مستشفى ومعهد بحوث الكبد بالمنصورة، وأحد المشاركين في تجربة استخدام الجهاز يقول أن “الجهاز لا يحدد المرحلة التي يمر بها الفيروس في الجسم بل يكشف وجوده من عدمه فقط”.
وفي السياق نفسه نبّه د. هشام الخياط، أستاذ الكبد والجهاز الهضمي بمعهد تيودور بلهارس، من أن الجهاز لم يتم تجربته إلا على 300 مريض وفقا للتصريحات الرسمية.. كما حذر الخياط من وجود الأعراض الجانبية للموجات الكهرومغناطيسية على المدى الطويل، وأن أحد العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار بالنسبة للجهاز هو الاستسقاء الدموي، وأكد أن الأمر يحتاج إلى تجارب لإثبات الفاعلية التي تستلزم على الأقل عامين.
أما د. محمد عبدالوهاب، مدير مركز زراعة الكبد بمستشفى الجهاز الهضمي والكبد بالمنصورة فقد ذكر أن الجهاز لم تُجرَ عليه آية أبحاث في مراكز الأبحاث والمؤسسات المتخصصة في الداخل والخارج، ولم تُنشر إحصائيات أو معلومات علمية عنه في دوريات علمية مُحَكَمَة، مما يفقده المصداقية العلمية.
الأمر نفسه أكده د. طارق حسنين، السكندري الذي شغل منصب رئيس مركز أبحاث أمراض الكبد في جنوب كاليفورنيا، ورئيس قسم الكبد بجامعة سان دياجو الأمريكيتين، فقد صرح في حوار لجريدة الوطن أن “… الدوريات العلمية العالمية لم تتعرض لهذا الجهاز أو هذه التجربة”. بينما يجب عند طرح أسلوب علاجي أن يكون مقبولا في الدوائر العلمية المتخصصة: “فمن حق المجتمع العلمي والأطباء أن يفهموا الفكرة والنظرية التي أقدم عليها الباحث لكي نستطيع مساعدة المرضى فى أن يتفهموا مرحلة البحث واحتمالات استفادتهم منه”، وأكد د. حسنين أن “التحيّز يكون للمريض والعلم المستخدم في علاجه وليس مجرد إثبات الذات في الفكرة”.
العلم والسياسة
من الجرم أن تضخّم الآلة الإعلامية للنظام من الأمور وتختلق أكاذيب من أجل الدعاية السياسية.
جاء خبر “الاختراع” المزعوم كالانفجار، واندفع الكثيرون للدفاع/ الهجوم باستماتة، دون حتى مراجعة بسيطة للمتخصصين، ويعلق د. علاء عوض على ذلك بقوله: “… هذه النظرة تساوي موقف شديد التخلف في التعامل مع العلم، تتعامل مع العلم باعتباره مجرد أداة في خدمة أهداف سياسية وليس قاطرة للتنمية والتطور المجتمعي.. الأزمة أن حكاية الاختراع أهانت العلم ومناهج البحث والنشر العلمي وحولت كل هؤﻻء إلى مطية رخيصة لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية”. ويستطرد: “يعنى باختصار الجميع – سواء مؤيد أو معارض – تعامل مع البحث العلمي باعتباره أحد القطاعات المهمشة التي ﻻ دور لها سوى التخديم على السياسة.. طالما ظلت هذه النظرة المتدنية للعلم هي السائدة، فلا أمل في غد أفضل”.
فالنظام، كما تقول أ. د. رشيقة الريدي أستاذ علم المناعة بعلوم القاهرة: “يضرب بمعاول الجهل البقية الباقية من المنظومة العلمية المصرية الجادة والمحاولات القليلة للعدد الضئيل المتبقي من العلماء المصريين الذين يحاولون حفر الطرق الصعبة لمجاراة العالم في التقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع والذي لا يرحم السفهاء”.
يأتي الصخب حول الجهاز المزعوم في خضم الحملة الدعائية المهووسة التي يمارسها النظام والإعلام الموالي له، فلم تعد هناك خططا ولا برامج سياسية – حتى ولو على سبيل الدعاية – فقط وضع الجماهير في حالة من الشحن والإثارة الرخيصة، تارة عن طريق الحرب المقدسة على الإخوان، وتارة بفرقعات إعلامية على شاكلة هذا “الاختراع”.
هذه الطريقة المبتذلة معتادة من جانب الأنظمة الاستبدادية، فقد خرج النظام الكوري مؤخرًا بأسطورة أكثر عجائبية وهي إطلاق سفينة فضاء نحو “الشمس”!، كما فجرت آلة الدعاية في العهد الناصري الكثير والكثير من الفقاعات الدعائية مثل “الصواريخ” و”الطائرات الأسرع من الصوت”.. إلخ. والجماهير التي تصدق مثل تلك الدعاية هي أيضا التي صدقت في لحظة انهيار النظام ظواهر غيبية مثل “ظهور العذراء”.
شربة الحاج محمود..
هكذا اعتاد بعض الأفّاقين أن ينادوا في الموالد على بضاعتهم البائسة، التي لا تعدو أن تكون زجاجة “زيت خروع”، مستغلين تفشي الجهل والفقر لجمع بعض القروش. وكما يقول “سيل لان” في صحيفة الجارديان حول “الاختراع الجليل”: “عندما تواجه الناس تهديدات خطيرة، لا يجدون لها حلول.. حينها يكون هناك رواجا للآمال الكاذبة”.
فشركات الأدوية الأمريكية طرحت أدوية حقيقية بتكلفة 80 ألف دولار للمريض الواحد، بحجة أنها أنفقت 11 مليار دولار على الأبحاث، وبحسبة بسيطة ستعوض الشركة التكلفة من بيع الدواء لـ أول 150 ألف مريض، أي عُشر المصابين في مصر وحدها حاليا.
وفي ظل عجز ملايين المرضى المصريين عن شراء الدواء حتى بعد دعمه لتصل كلفة العلاج ما يزيد عن الحد الأدنى للأجور الذي طالما عانى العمال للحصول عليه حتى الآن، وفي ظل التدهور الحاد في الأبحاث العلمية بأقل من 1 % من نصيب الموازنة العامة، يكون من الأسهل على الناس شراء “شربة الحاج محمود”.
اليوم ومع إضراب الأطباء المطالب بتحسين المنظومة الصحية للمواطنين الذين عانوا الإهمال الحكومي ودفعوا ثمنه أمراضا ومعاناة، فلو كانت خدعة “الشَربة” جنحة تسول، فإن استغلال النظام، المسئول عن انتشار المرض، لمعاناة الملايين ويأسهم لإحداث فرقعة هو جريمة، تُضاف إلى جرائمه، مع سبق الإصرار والترصد.
“قالك صهين.. قالك فوت
كل ده كدب الناس كشفاه”