بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

حول أسباب تبرير التعذيب

* مقطع من رسالة علمية في الطب النفسي تصدر قريباً عن دار التنوير تحت عنوان “ذاكرة القهر” – المؤلفة بسمة عبد العزيز.

تكاد الطرق المستخدمة لتبرير التعذيب وصبغه بالمشروعية وجعله مقبولاً من عامة الناس أن تتطابق لدى أغلب الأنظمة، حيث يبرز دائماً وبشكل ثابت هذا المحتوى المتعلق بحماية مصالح الوطن العليا، والحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، وهو خطابٌ في العادة مُضللٌ، تُرَاقُ في سبيله الحريات كلها، ويحظى لشديد الأسف بتأييد شعبيّ واسع النطاق، فقسم عريض من الجماهير ينظر إلى تغليب مصلحة الوطن المزعومة على الحقوق الفردية بشيء من التفهم والإقرار، وبالتالي يحظى القمع من هذا المنطلق بالمباركة والتضامن.

قد يصيب بعض الناس تسطيح انفعاليّ وعاطفيّ، يجعلهم لا يرون شيئاً أبعد من المادة التحريضية التي يجيد النظام تقديمها في خطابه، وبوسعنا أن نحصي عدداً لا بأس به من المواقف والوقائع، التي مال فيها الرأي العام إلى تشجيع الإجراءات الاستثنائية المشينة التي تتخذها السلطة ضد جماعة من الأشخاص المعارضين، ليس هذا فقط بل واتجه إلى مطالبتها بالمزيد، كي يتحقق الاستقرار التام (1)، وندرك جيداً أن فكرة “الاستقرار” تجد صدى طيباً لدى شرائح اجتماعية متنوعة قد تقع على طرفيّ النقيض؛ على سبيل المثال هناك من ترتبط أعمالهم بوجود مناخ صالح للاستثمار؛ وهم ممثلوا الطبقة المتوسطة العليا والعليا، وهناك أصحاب المهن الهامشية، الذين يتحصلون على القوت بشكل يومي؛ وهم ممثلوا الطبقة الدنيا والمعدمة. يعتمد أولئك وهؤلاء على وجود قدر نسبي من الهدوء واستباب الأوضاع، وقد تتضرر أعمالهم بشكل فعلي في وجود اضطرابات على الصعيد السياسي واحتجاجات على الأرض، وفي أغلب الأحوال تُلصَقُ أية أزمات ناشئة تعوق مزاولة هذه الأعمال أو تلك بالمعارضين، ومن ثم تتخذ السلطة منها باباً للقمع يحظى بتأييد ممن تضرروا، كما تصبح قادرة بمقتضاها على عبور المحاذير القانونية والأخلاقية على حد سواء.

ربما لا ينخدع المتضررون بمبررات استخدام التعذيب، ولا بخطاب السلطة الذي تحاول فيه دمغ معارضيها بكل سوء وتشويههم، لكن الخيارات تبقى محدودة، والنُظم المستبدة تظل دوماً قادرة بأدواتها وأساليبها المتنوعة على خنق فرص إقرار الحريات وتدعيمها، كما تظل تتلاعب بوعي الجماهير وإدراكهم عن طريق الخطاب الذي تستخدم فيه كل ما أوتيت من حيل ومهارات، كي ترسم صورة زائفة لها وللمعارضين أيضاً.

التصنيف والوصم؛ حين يقرر نظام ما استخدام التعذيب لقمع بعض معارضيه، أو لقمع أقلية دينية أوعرقية لا يفترض أن يعلو صوتها، فإنه يتبع نموذجاً تقليدياً ذا خطوات محددة لا تتغير بتغير شكل المعارضة وتوجهاتها؛ كخطوة أولى تبدأ الحكومة التي تمثل النظام ذا الطبيعة القمعية باتهام مجموعة من الأفراد في خطابها الرسمي بكونهم أعداء للوطن، وبأنهم يشكلون تهديداً حقيقياً لأمنه وسلامته، وللقانون الذي يجب الحفاظ عليه (2)، ويتم الإعلان عن حتمية القضاء على هذا التهديد؛ تحت أي ظرف و بأي ثمن.

هذه المجموعة من الأفراد، التي تُتَّهَمُ بالعمل ضد مصالح الوطن، هي في الأغلب المجموعة التي تُمَثِّلُ معارضة حقيقية، ذات قاعدة شعبية مضادة للنظام القائم، وهي في الأغلب أيضاً، المجموعة التي يُشَكِّل وجودها خطراً على بقائه في سدة الحكم، مع ذلك لا يخلو الأمر في بعض الأحيان من هجمات شرسة على بعض المجموعات المعارضة الصغيرة، التي لا تملك أرضية جماهيرية لكنها تملك حزمة من الأفكار المزعجة بحق للنظام.

يتوحد النظام القمعي بالوطن، ويعتبر أن معارضته هي معارضة للوطن، وأن مناهضته والعمل على إسقاطه لهي محاولات لإسقاط وتدمير للوطن، وتصبح مصلحة الوطن هي مصلحة النظام القائم، بغض النظر عن كونه فاسد، غير شرعي، أو مستبد.

عند هذه المرحلة، يصبح الاعتقال والتعذيب أمرين تلقائيين لايقبلان الجدال، ويكتسب التعذيب مشروعية ظرفية في أذهان الناس لارتباطه بمحاربة الخطر المحدق بالوطن، بل وقد يصبح التعذيب ليس فقط مقبولاً بل ومحبذاً أيضاً، إذ يتم تصوير الأمر على أنه معركة مصيرية مابين الوطن وأعداءه، وربما نجد في الأشهر الأخيرة من عام ألفين وثلاثة عشر، ومطلع العام ألفين وأربعة عشر نموذجاً مثالياً على كيفية حشد وتجييش الأفراد واستعداءهم على المجموعات المعارضة، بحيث يطالبون ليس فقط بالسيطرة عليها بل بمقاتلة أعضاءها وربما إعدامهم، فإذا لمسوا تراخياً من النظام لم يعد لديهم موانع من تولي دوره وسفك الدماء.

ربما يكون هذا “التهديد” الذي يُجَنِّد النظام أبواقه للإعلان عنه وتسويقه حقيقياً، لكنه في أغلب الأحيان تهديد مصطنع، يفضح احتياج الأنظمة الاستبدادية الدائم إلى خلق أزمات وهمية تكفل لها الاستمرار في سياسيات القمع وكبت الحريات. تجلت بعض هذه الأزمات على سبيل المثال في قيام النظام المصري بمطاردة حركات معارضة، لايزال بعضها في طور التكوين، ورسم هالة مفزعة حول أعضاءها وأفكارهم، وادعاء خطورتهم الشديدة، رغم إدراكه إنهم لا يشكلون خطراً حقيقياً على بقائه (3). على كل حال ربما تكون محاولة تبرير استخدام التعذيب من قبل النظام عملية عسيرة ومعقدة، لكن صك المبررات وصياغتها بمهارة، يجعلان الأمر مقنعاً لكثير من الناس وبالتالي يُكسبانه الشرعية المطلوبة.

الخطوة الثانية هي خلق مؤسسة تختص بحماية أمن الوطن المهدد؛ “أمن الدولة” على سبيل المثال. قد تتكون هذه المؤسسة في بعض البلدان من أفراد أمن سريين، وأحياناً من مجموعات عسكرية مسلحة، إلى جانب نواة غير تقليدية مؤلفة من عناصر مختصة بتنفيذ عمليات التعذيب، وتخضع تلك العناصر في العادة وحال توفر الوقت وتخصيص الإمكانيات اللازمة، إلى تدريبات مهارية محددة، تماماً كما يخوض هؤلاء الذين يمتهنون أعمالاً نادرة، تدريبات دقيقة وغير عادية.

يأتي بعد هذا وكخطوة الثالثة دور المجموعة المستهدفة، حيث يتم التعامل مع أعضائها باعتبارهم ضالعين في تشويه صورة النظام وبالتالي تشويه صورة الوطن وسمعته، ويمكننا أن نلحظ هنا ذاك الربط المتواصل مابين النظام والوطن. يصبح هؤلاء إذن من المارقين، المعادين للوطن، الذين يعملون على إعاقة تقدمه، والذين لا يرحب أحد بوجودهم داخل النسيج المجتمعيّ، وعلى هذا يوضعون في مرتبة أدنى من الآخرين المؤيدين للنظام، ويتم توصيفهم على هذا الأساس خارج نطاق المواطنة، وربما يتم نعتهم من خلال الخطاب الذي يُعِدُّه النظام، بالإرهابيين أو العملاء، وبأنهم خوارج على المجتمع ككل: الشيوعيون كفرة، الإسلاميون إرهابيون، الليبراليون عملاء، الثوريون بلطجية.

في مرحلة مبكرة يؤدي هذا الوصم إلى تمييز واضح ومُجحِف تجاه أعضاء المجموعات المستهدفة على جميع المستويات، خاصة فيما يتعلق بآليات وروافد وأدوات الإثابة أو العقاب (4)، وفي مرحلة لاحقة يصبح القضاء عليهم واجباً وطنياً. تتوالى سلسلة الانتهاكات التي تشمل على سبيل المثال لا الحصر؛ الاضطهاد في العمل والدراسة، وتشويه السمعة، والاعتقال، والتعذيب، بل وأحياناً القتل، ولا يعتبر التعذيب هنا أمراً وارداً فقط، بل يصبح ضرورة لبقاء النظام، ومع توالي الضربات القاصمة وحال تحطيمهم، يتوجه خطاب النظام إلى الجماهير معلناً انتصار “الوطن”، في رسالة ضمنية تؤكد على نزع الهوية الوطنية عن أعضاء المجموعة المستهدفة.

يمكننا إذن تلخيص الخطوات السابقة في نقاط ست؛ أولاً: تضخيم الأخطار المحيطة بالوطن، ثانياً: انتخاب مجموعة يُنسَب لها هذا الخطر، ثالثاً: تقديم كيان أو شخص ما قادر على درء الخطر، رابعاً: طرح وسائل الحماية ومنها بالطبع استخدام القمع والعنف والتعذيب، خامساً: رسم صورة براقة لمرتكبي العنف والتعذيب وإقناع الجماهير بوطنيتهم وإخلاصهم، سادساً: إضفاء المشروعية اللازمة على انتهاك النظام للحقوق والحريات تحت راية إنقاذ الوطن، وهي خطوات يمكننا أن نتتبعها بسهولة ويسر من خلال الواقع الذي نعيشه ما بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين، فمجموعات بعينها بعضها ينتمي إلى اليسار والبعض الآخر يرفع راية اليمين يتم تخوينها ومن ثم انتهاك حقوقها، لا بناء على دلائل دامغة بل فقط لمعارضتها للنظام القائم، كما أن أدوات وأجهزة السلطة المضطلعة بممارسة العنف والتعذيب يتم تصويرها في إطار من البطولة وتنسب إليها مفاخر الشرف والتضحية من أجل الشعب، وفي نهاية الأمر يصبح المشهد معكوساً، فالضحية هنا تقدم للجماهير باعتبارها العدو، بينما يقدم الجلاد باعتباره البطل المنقذ، ولشديد الأسف ينخدع بهذا المشهد قسم كبير من الجماهير، لكن عملية الخداع تلك ربما لا تدوم لفترة طويلة.

هوامش:
(1) أنظر خطاب السلطة الإعلامي، وردود الأفعال الشعبية عليه فيما يتعلق بأحداث الحرس الجمهوري يونيو 2013، وفيما يتعلق باتخاذ إجراءات استثنائية ضد أعضاء جماعات بعينها، وإغلاق بعض القنوات الدينية اتباع الإجراءات القانونية.
(2) Kooijmans, P.H. (1994). Politics of pain: torturers and their masters. In: Crelinsten, R.D. and Leiden, A.P. (eds). Torture. Vol.4, no.1.
(3) أنظر الحملات الإعلامية والأمنية التي تم شنها على جماعات مثل الاشتراكيين الثوريين، والأناركيين، وحتى مرتدي قناع فانديتا الشهير.
(4) Tajfel, H. (1982). Social psychology of intergroup relations. Annual Review of Psychology, 33, 1-39.