بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

2019: الجماهير تعود للمشهد

من فرنسا شمالًا إلى السودان جنوبًا، عادت الحركة الجماهيرية مجددًا إلى ساحة الفعل المُقاوِم للسياسات الرأسمالية المتوحشة ولروشتة مؤسسات التمويل الدولية، وذلك بعد فترةٍ من التراجع وهيمنة الأنظمة بتنويعاتها عربيًا، والقوى اليمينية المتطرفة على المشهد السياسي عالميًا.

من مظاهرات المجر ضد قانون العمل المنحاز بسفورٍ لرجال الأعمال، إلى مظاهرات السترات الصفراء بفرنسا التي لا يمكن مقارنتها سوى بانتفاضة 1968 ورفع مطالب واسعة لعل أهمها إعادة توزيع الثروة، مرورًا بمظاهرات الأردن ضد قانون الضرائب الذي يعصف بالفقراء والتي نجحت في إقالة الوزارة، والاحتجاجات الاجتماعية الواسعة في العراق والمغرب ولبنان، وصولًا إلى الإضراب للعام الذي نظَّمه اتحاد الشغل بتونس للمطالبة برفع الأجور وإعلانه التفكير في الدفع بمرشح له في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فضلًا عن الاحتجاجات التي تلت ظهور بوعزيزي جديد في تونس.

وأخيرًا وليس آخرًا الاحتجاجات الشعبية المتواصلة بالسودان، والتي وصلت إلى حدِّ الانتفاضة، على حدودنا الجنوبية، في مواجهة سلطة البشير التي يهيمن عليها الإسلاميون.

البشير كالسيسي دفع بمشروعٍ لتعديل الدستور ليسمح له الاستمرار بالحكم مدى الحياة، ثم قرر رغم الاحتقان الاجتماعي والسياسي أن يضاعف أسعار الخبز ثلاث مرات لتندلع موجة من الاحتجاجات الشعبية التي تربط بين المطالب الاجتماعية ورحيل البشير، ويسقط شهداء تجاوز عددهم الأربعين، بحسب تقديرات محلية، حتى الآن.

هذه التحرُّكات أثارت الرعب في قلوب الأنظمة الحاكمة ونجحت في انتزاع مطالب وما زال أمامها أشواطٌ لكي تواصل مسيرتها.

وبالطبع الطريق ليس مُعبَّدًا أمام هذه التحرُّكات، وقد تفشل أو تهدأ مؤقتًا أو تسرقها قوي يمينية متطرفة حسب الظروف الذاتية والموضوعية في كلِّ بلد، ولعل أهم هذه الظروف هو مدى قوة التنظيمات النقابية والثورية، وكذلك استعدادها للانخراط والتأثير في مسار الاحتجاجات. ولكن المؤكد أننا أمام ربيع اجتماعي جديد يضرب، وسيضرب مجددًا، تحت وطاة الأزمة الرأسمالية العالمية، وهو ما يجب أن يلهم كل المناضلين من أجل الاشتراكية والحرية في كافة أنحاء العالم.

وبالتأكيد أي تصور بضرورة أن تمتد هذه الاحتجاجات إلى مصر فورًا، وبشكل ميكانيكي، يتناسي الاختلافات في الهوامش الديمقراطية وعدم مرور هذه الدول بتجربة ثورة مضادة تحكم وتنتقم وترعب خصومها السياسيين.

والكن النظام الذي سيقدم على رفع الأسعار قريبًا وعلى تعديل الدستور لتأبيد حكم السيسي لن يستطيع تجاهل هذه الموجة الجماهيرية الإقليمية والعالمية طويلًا، خاصةً لو حققت نجاحاتٍ مهمة في ظل تنامي السخط وظهور جنين لتحرُّكات شعبية تبدَّى في إضرابات الشرقية للدخان وغزل كفر الدوار، واحتجاجات عمالية متفرقة، إلى جانب مقاومة أهالي جزيرة الوراق لقرارات تشريدهم، وعودة روابط الألتراس من جديد بصورة محدودة ولكن من الممكن أن تتسع مجددًا.

إن كافة المؤشرات الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية الدولية تؤكد أن الأوضاع الاقتصادية التي أنتجت سياسات التقشف وبالتالي أدت لاندلاع الاحتجاجات الجماهيرية في دول متنوعة اقتصاديا وسيًاسيا وديمقراطيًا، سوف تزداد سوءًا في عام 2019.

وعلى الرغم من أن القول بالتأثير الميكانيكي البسيط للحركة الجماهيرية العالمية على مصر، هو قول يحمل من الأمنيات أكثر مما يحمل من الفهم والتحليل، إلا أننا في الوقت ذاته لا يمكن تجاهل صعود النضال الجماهيري على خلفية السياسات نفسها التي يطبقها السيسي في مصر.

إن التهليل المتسرِّع بصعود النضال الجماهيري عالميًا، وتوقعه في مصر، لا يختلف عن التجاهل اليائس أو الخائف لصعود الجماهير مجددًا.

وبعيدًا عن التفاؤل والتشاؤم يمكن القول الآن أن الجماهير الغاضبة عادة إلى المشهد مجددًا بعد تراجع واضح في الحركة الجماهيرية لأعوام تحت ضربات الثورات المضادة من جانب وصعود اليمين المتطرف من جانب آخر، تلك العودة للميادين والشوارع تحمل بين طياتها الكثير من الفرص، سواء في مواجهة اليمين المتطرف وزعزعة سيطرة الثورات المضادة، أو في مواجهة سياسات التقشف والاضطهاد التي تعمم بقوة في قارات العالم الخمس. ولكنها تحمل أيضًا مخاوف وأعباء الهزائم السابقة والتي لم تفض فيها الانتفاضات الجماهيرية سوى إلى تراجعاتٍ عنيفة.

الصعود في النضال الجماهيري والاجتماعي، الذي اختتم 2018 وافتتح عام 2019، يفتح الباب على احتمالات متنوعة وحتى متناقضة، خاصة مع استمرار صعود اليمين والتبدلات التي تجري في الأوضاع الإقليمية والعالمية، ولكن أمرًا واحدًا أصبح مؤكدًا اليوم مع مطلع العام الجديد، وهو أن الجماهير التي تُطبَّق عليها سياسات التقشف والاضطهاد عادت إلى المشهد وبقوة، ولم تعد خارج المعادلة، ورغم صعوبة تحديد الاتجاه الذي سيسلكه صعود النضال الجماهيري ومدى قدرته على الاستمرار والتطور، إلا أن الأكيد أيضًا أن الثبات والركود الذي شهدته أعوام سابقة يصعب أن يستمر مستقبلًا.