السيسي والهوس الأمني

ساد اعتقاد لدى الكثيرين حتى عدة أيام مضت، أن ملف “استعادة الأمن” سيكون المرتكز الأساسي للبرنامج الانتخابي للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، خاصة وأنه كان صاحب الفضل فيما جناه السيسي على مدار الشهور العشر الماضية من زخم سياسي.
ولكن يبدو أن السيسي قد قرر الاعتماد على وعود “استعادة الأمن” دون غيرها من وعود، لتكون هي برنامجه الانتخابي أثناء خوضه للانتخابات الرئاسية، وما العجب؟
فالقضاء على الإخوان واستعادة الأمن كان سبب ظهوره على الساحة السياسية، وكذلك كان ذريعة تشديد القبضة الأمنية على البلاد بما في ذلك عمليات القتل والسحل والاعتقال العشوائي، وبالطبع كان السبب وراء إصدار قانون التظاهر. وأخيراً فليس هناك مبرر أكثر وجاهة من القضاء على الإخوان واستعادة الأمن حتى يتقدم السيسي بالترشح للرئاسة.
وعند هذه اللحظة، قد يدرك رجل الشارع البسيط مع قليل من المتابعة الدقيقة للقاءات السيسي التلفزيونية كمرشح رئاسي، أن السيسي لديه “هوس” بقضية الأمن، فهي دائماً محور حديثه، ومُفتتَح إجاباته، حتى وإن لم تكن أولى تساؤلات المحاور.
فالسيسي يحاول تقديم وصيف دقيق للمعركة التي تخوضها مصر ضد الإرهاب والجريمة المنظمة والانفلات الأمني، مُدعّماً حديثه بالبيانات والأرقام، مُبرِزاً تدهور الوضع واقتراب الخطر، ليُقدم نفسه بعد ذلك على أنه المُنقِذ الذي يدرك جيداً أبعاد الخطر، ويمتلك مفاتيح التغلب عليه.
وهو الأمر الذي بدا جلياً في حديثه لقناة “سكاي نيوز عربية”، فرغم أن أول ما طُرح عليه من تساؤلات كان حول رؤيته لتحدي تحقيق التنمية ومدى قدرته على الإنجاز في هذا الصدد، إلا أنه راح يتحدث عن قضية الأمن، مؤكداً أن تراجع الأمن على مدار السنوات الثلاث الماضية يرجع بالأساس إلى حالة الثورة التي تعيشها البلاد والتي سببت – حسب قوله – إرباك للمشهد وتراجع لقدرة مؤسسات الدولة على تقديم أداء جيد، إلى جانب الأزمة التي يواجهها جهاز الشرطة.
وعلى غير العادة بدأ السيسي يتحدث بلغة الأرقام، فذكر أن مصر كانت تحتل المركز الثاني قبل الثورة في ترتيب الدول التي تخلو من الجريمة المنظمة، وأصبحت الآن تحتل المركز الـ132، وهنا يمكن رصد ملاحظتين:
· الأولى: أن هناك علامات استفهام كثيرة حول مصدر هذه الإحصائية، فبعيداً عن التفاوت الرهيب في ترتيب مصر قبل وبعد الثورة، وهو أمر غير منطقي، فلا يوجد مؤشر دولي معروف يُصنِف الدول التي تخلو من الجريمة المنظمة، وإنما هناك ما يُسمى مؤشر السلام العالمي الذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام الأمريكي، والذي يصنّف 162 دولة تبعاً لمعدلات السلامة والأمن والعسكرة، وتدخل معدلات الجريمة المنظمة كأحد عناصر هذا المؤشر، ورغم أن مصر احتلت المرتبة الـ138 في أخر التصنيفات، إلا أنها لم تكن لتحتل قبل الثورة المرتبة الثانية على العالم كما أدعى السيسي، وإنما كان ترتيبها في سنوات ما قبل الثورة على النحو التالي:
العام | 2007 | 2008 | 2009 | 2010 | 2011 |
الترتيب | 73 | 69 | 54 | 49 | 73 |
· الثانية: يبدو أن اختلاق السيسي لهذا المؤشر والترتيب الوهمي، لم يكن بغرض ترسيخ فزاعة الأمن في نفوس المواطنين فقط، وإنما أراد السيسي أيضاً الربط بين حالة تراجع الأمن وثورة 25 يناير بشكل مباشر، مما قد يجعل رجل الشارع البسيط يعتقد أن تراجع حالة الثورة سيكون أولى خطوات استعادة الأمن في الشارع.
ومن المثير للدهشة، أنه بدلاً من أن يذكر السيسي إحصائيات تشير إلى ارتفاع معدلات الجريمة في مصر في إطار حديثه عن فزاعة الأمن، تحدث عن أن 40% من الجنح لا يتم القبض على المُدانين فيها، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 68% فيما يتعلف بالجرائم الجنائية. وهي أرقام – إن ثَبُت صحتها – فإنها تُدين جهاز الشرطة، لأنها لا تعكس ارتفاع معدل الجريمة وإنما تعكس قصور جهاز الشرطة عن أداء مهامه، وهو ما يُدين النظام السياسي القائم الذي يُشرف على هذا القصور.
وعلى ذلك، يبدوا جلياً أن هوس “الأمن” لدى السيسي سوف ينتقل إلى أغلب مؤسسات الدولة عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية، ليتم تقنين التجاوزات الأمنية ضد المواطنين، ولتكتسي الإجراءات الاستثنائية برداء الديمومة، ولترفع الدولة شعار “الأمن أولاً وأخيراً”.
فلا شك أن السيسي سيعتمد بشكل كلي على الملف الأمني في تجديد شرعيته السياسية عقب الانتخابات وفي ظل كل أزمة سياسية أو اقتصادية قد تعصف بالبلاد، وهو ما قد يدفعه في مرحلة ما لخلق عدو جديد يُهدد أمن البلاد، ينبري في محاربته مبرراً بذلك أي إجراءات استثنائية أو تراجع اقتصادي. وهنا لابد أن نستدعي علامات الاستفهام التي أحاطت بأداء الجيش والأجهزة الأمنية في ملاحقة عناصر بيت المقدس، وإيقاف عملياتها المتتابعة في البلاد.
لذا، لابد أن ندرك أن لحظة إعلان السيسي رئيساً لمصر ستكون إيذاناً بميلاد دولة أمنية بامتياز، يُشكّل “هوس الأمن” مصدر الحياة بالنسبة لها، مُخلّفةً وراءها آمال ملايين المصريين في حياة ينعمون فيها بـ”العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”.