إلى صديقي اليساري.. التحرش لا علاقة له بأزمة السكن

حوادث اغتصاب جماعي يقوم فيها مجموعات من الكلاب ممن أعدوا أنفسهم جيدا بتعرية النساء في وسط الزحام، ينتهكون أجسادهن، يقطعون أرواحهن، يذللنهن، يحروقن جلودهن، وبالمطاوي يهتكون فروجهن، ويحمموهن بالماء المغلي المعد سلفا، في وسط ميدان التحرير – صدمت الكثيرين وسارعت السلطات إلى محاولة طمسها باعتبارها مؤامرة دنيئة من الإخوان لتدنيس حفل تنصيب الرئيس المدني الديمقراطي (وصاحب أحد أقذر التبريرات للانتهاك الجنسي للنساء، والذي قال عندما كان مسؤولا مباشرا عن وأد الثورة وانتهاك الثوريات إنهم اضطروا إلى العبث في فروج الثوريات حتى لا تقلن بعد سجنهن أنه قد تم العبث بعفتهن).
أما الأصوات الغاضبة للإنسانية فقد تراوحت يمينا ويسار بين المطالبة بإخصاء المتحرشين واعتبار هذه الجريمة جريمة فردية تتعلق بسوء سلوك وتربية بعض الأفراد، ويشيرون دائما من طرف خفي إلى أن أولئك الأفراد من طبقات بعينها بالطبع، ومن جانب آخر محاولة ربط انتهاك المرأة بالأوضاع الاقتصادية في البلد، مشيرين إلى تأخر سن الزواج وأزمة السكن. والتفسيران في رأيي مخطئان يجانبهما الصواب: الأول، لأن إخصاء المتحرشين لن يمنعهم من حرق النساء بالماء المغلي ولا ضربهن بالمطاوي. ولا سيمنعهم من التعرض لهن في الشوارع. وبالتأكيد، ودون الحاجة إلى إطالة، فإنه لا يمنع المشكلة، إذ إنه يشير إلى الموقع الخطأ: خصية الرجل.
أما التفسير الآخر، فإن نيته “طيبة” أكثر. إذ يرى أن المشكلة اجتماعية، لا فردية، وإن كان لا يزال يراها مشكلة جنسية، تتعلق بالكبت الذي يعاني منه الشباب الذكور من الفقراء بوجه خاص. وهو تفسير، على حسن نيته، يجانبه الصواب تماما. فهناك أسئلة واضحة يعجز أمامها هذا التفسير: جحافل الصبية في بداية عمر المراهقة والذين يتمادون في التحرش الجماعي المنظم بالفتيات ولا سيما في الأعياد؟ هل يمكن أن نعزو هذا إلى عدم توافر مساكن أو تأخر سن الزواج؟ ماذا يعني المسكن هنا؟ هل المسكن بالمعنى البرجوازي، من شقة واسعة مؤهلة بالكماليات؟ أم مكان مغلق يستر الممارسة الجنسية؟ لو كان بالمعنى الأول فهل التحرش ظاهرة نجدها أكثر انتشارا في الطبقة المتوسطة وهي الطبقة التي تعاني أكثر من غيرها ارتفاع سن الزواج، جزئيا نتيجة لغبائها الطبقي المستحكم وتطلعاتها البلهاء في التشبه بالطبقات الأعلى؟ ولو كان بالمعنى الثاني هل يعني هذا أن المتحرشين في ميدان التحرير أو غيره يذهبون ليناموا في الليل تحت الكباري؟ أم أنهم يعودون إلى بيوتهم ويعود الكثير منهم، ولا أعرف النسبة، ليبيتوا الليل مع زوجاتهم؟ كما يغفل هذا التبرير الخبرات الحياتية للنساء واللائي يخبرن أن أسوأ أنواع المتحرشين وأكثرهم خسة ودناءة هم الرجال في الأربعينات والخمسينات من عمرهم! كما يغفل تحرش المشرفين بالعاملات، والمديرين بالموظفات، وأساتذة الجامعة بالطالبات؟ السؤال هو هل ما يجمع هؤلاء علاقات قوة غير متكافئة، علاقات اضطهاد، أم أزمة تأخر سن الزواج؟
وأهم ما يغفله في رأيي هذا التفسير هو ارتباط أشكال العنف ضد المرأة من أقصى وأقسى صوره من حرقهن عرايا في الميادين العامة إلى الاستمتاع بقشعرة أبداهن بالألفاظ الوسخة وأنت تسير وراء واحدة في الشارع. السلسلة هنا حلقاتها طويلة مستحكمة مترابطة. هل ضرب الزوجات مرتبط بأزمة السكن؟ هل العنف الجنسي ضد الزوجات مرتبط بأزمة السكن؟ هل ضرب الإخوة للأخوات لينهضن بسرعة ليأتينهم بالشاي أمام التليفزيون مرتبط بتأخر سن الزواج؟
صحيح أن التحرش والاغتصاب مرتبطان بالتركيبة الطبقية لهذا المجتمع ولكننا نكون قاصري النظر إن اختزلنا التركيب الطبقي لهذا المجتمع إلى أزمة توزيع مساكن. فالتركيب الطبقي هنا هو طبيعة المجتمع نفسه، والتي تتجلى في كل مناحيه السياسية والاقتصادية والأخلاقية والطائفية والذكورية، تتجلى في أخلاقياته القذرة، وفي سلطته الفاسدة المستبدة؛ تتجلى في الأفكار الحاكمة، أفكار الطبقة الحاكمة، التي تغرس فينا منذ الصغر أن الرجل أفضل من المرأة والمسلم أفضل من المسيحي والأبيض أفضل من الأسود والبرجوازي الرجل الأبيض المسلم أفضلهم جميعا.
التحرش بالمرأة واغتصابها والإفلات من العقاب يتعلق باضطهاد المرأة وبدونية وضعها في المجتمع. وهذا الاضطهاد ركن من أركان النظام الرأسمالي وقدرته على البقاء والسيطرة على الجماهير. حتى لو امتعض رجال وسيدات الطبقات العليا من مشاهد التحرش وعزوها إلى الطبقات الفقيرة ومصمصوا الشفاة على ضياع الأخلاق، فإنهم يستفيدون، وبشكل مباشر، من اضطهاد المرأة، ولا سيما المرأة الفقيرة والعاملة ونساء الطبقة العاملة. السر الكبير الذي لا يريد أحد أن يشير إليه، وتتكتمه الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها التعليمي تماما هو العمل الهائل غير مدفوع الأجر الذي تقوم به النساء. كم ساعة تقضيها النساء “غير العاملات” في الحضر وفي الريف. إنها كلها ساعات عمل جاد وشاق ومسروقة تماما منها. بمعنى أن قيمة هذه الساعات تدخل في نفقة إنتاج وإعادة إنتاج العاملين الذين ينتجون كل السلع في النظام الرأسمالي وينتجون الربح. ولكنها ساعات غير مدفوعة الأجر لا يدفع ثمنها الرأسمالي ولا الدولة الرأسمالية. فكلها في نهاية المطاف تنتهي في جيوب الطبقة الحاكمة! والخدعة الأيديولوجية هنا هي إقناع المرأة، وتربية المجتمع كله على الاقتناع، بأن “عمل” المرأة في المنزل ومن أجل الأسرة/المجتمع هو ليس عملا، بل إنه جزء من الطبيعة الإنسانية/ طبيعة المرأة، مثله مثل التنفس والتنهيد وشرب الماء والحيض والولادة. إن النظام الرأسمالي يطفو على بحر من عمل المرأة غير المدفوع. ومع هذه الأهمية في المجتمع الرأسمالي تأتي الدونية والتحقير، مثلما كان العبيد منزوعا عنهم الإنسانية، وكانوا يعتبرون في المجتمع الروماني “آلات ناطقة”، فإنه في التحليل الأخير لا يمكننا أن نفهم لماذا كانت كل تلك الخزعبلات والأكاذيب تروج في ذلك المجتمع، ويتربى عليها الأسياد، والعبيد، إلا إذا فهمنا ما لعمل العبيد من أهمية في ثراء الطبقات الحاكمة. وتُستخدم في تبرير اضطهاد المرأة ودونيتها جميع أنواع الأفكار المتاحة: سواء كانت أفكار كلاسيكية مثل أرسطو واعتباره المرأة نصف الرجل؛ أو أفكار وتفسيرات دينية رجعية مثل أن المرأة بطبيعتها ناقصة عقل ودين؛ أو أفكار “عملية” مثل تخيلات فرويد رائد مدرسة التحليل النفسي أن المرأة مخلوق غير ناضج جنسيا ومن ثم نفسيا يحركها “حسدها للقضيب” الذي تنقصه. هي مخلوق ناقص. هذه هي المسألة.
وهي أيضا مخلوق جنسي. أو بالأحرى مخلوق للجنس. فهي وإن شابهت الإنسان/الرجل، إلا أنها لا روح لها ولا شخصية ولا أفكار ولا عقل ولا مستقبل ولا ماض إلا بما قد ينفع الرجل. وبالطبع كلما زاد المجتمع رجعية كلما شدد على الطبيعة الجنسية للمرأة، فيمحو كل صفاتها الإنسانية، ويقلصها إلى أنثى. المجتمع الرجعي المصاب بتصلب الشرايين لا يعترف بالمرأة، فهو لا يعرف إلا الأنثى. فالفصل بين الطالبات والطلاب في الكليات، لأن الطالبات تبديات اجتماعية لحقيقة خالصة هي الأنثى. من تسير أمامك في الشارع ليست طبيبة أو موظفة حكومية أو ربة منزل: إنها أنثى. وكلما زاد وانتشر الخطاب الرجعي الذي يفرض مصافحة المرأة بالمنديل وتغطية أنفها المغري كلما زاد تقليص المرأة إلى أنثى.
على أن محاور القهر وأعمدته لا تقف عند هذا، بل هناك استراتيجية قد تكون أفظع وأخطر، ألا وهي إخفاء المرأة: طمسها من الوجود، حتى إن الكثير من الشباب (المتحرش) يجد أن مشيها في الشارع في حد ذاته شيئا أمرا غريبا، ظهورها في الطريق أمرا مريبا، تستأهل معه العقاب. فالمرأة التي تتقلص إلى محض أنثى لا توجد في الطبقة العاملة، في حين أن أكثر من الثلث من العاملين من النساء، وتزيد النسبة بين الموظفين مثلا لتصل إلى النصف أو أكثر؛ المرأة في كل الوظائف “تزاحم” الرجل المفروض أنه مجبول على العمل (المدفوع الأجر) وهي مخلوقة للعمل (غير مدفوع الأجر)؛ وهكذا فإن اتساق هذه الأفكار التي “تغرب” من مزاحمة المرأة للرجل في المجال العالم يمتد إلى أن الأنثى/اللحم ليس لها ما يدعوها للسير في الشارع، إلا “حل شعرها” طبعا، وهو ما يستدعي التساؤل البريء: إيه اللي وداها هناك!؟
وليس غريبا بعد كل هذا أن يتربى الصبية على إثبات أنفسهم من خلال أشكال مختلفة من العنف الجنسي. فمعظم السباب الذي يبدأ في حوش المدرسة تهديدات بالعنف الجنسي، إما الرمزي أو التهديد الحقيقي. فالكثير من الصبية الذين يكررون ببساطة: ده أنا ح أنـ..كك، مثلا، أو ده أنا كنت أنـ..كهم كلهم، أو عبارات من هذا القبيل، فإن هذا الشاب يهدد من يسبه ببساطة بأنه سيغتصبه!! فهي بالتأكيد ليست دعوة للحب الحر! هكذا نحن نتربى داخل ثقافة الاغتصاب.
ولكن العنف الجنسي في تجليه الأبرز يمارسه المعلم الأكبر للمجتمع، المربي الفاضل، الدولة نفسها!! دعونا لا ننسى. أقسام الشرطة والسجون ولاظوغلي هي أماكن مخصصة للانتهاك الجنسي. إن الضباط هنا يحققون أنفسهم باعتبارهم متسلطين متمكنين على أجساد الرعية. إنه يمارس سلطانه باعتباره خادما للطبقة الحاكمة أو جزءا منها وباعتباره رجلا. النموذج الأمثل للمجتمع!
التحرش لا ينبع من الكبت الجنسي. التحرش شكل من أشكال اضطهاد المرأة وكراهيتها. التحرش تجسيد مكثف لثقافة العنف المستشرية في المجتمع بالخلط مع ثقافة الحط من قدر المرأة وتجريدها من الإنسانية. التحرش نموذج لممارسات تحقيق الذكورة من خلال ممارسة العنف والبلطجة و”الاسترجال” على النساء. المارة في الشوارع لا تخشى مجابهة المتحرش ليس لأنه مكبوت جنسيا، أو لأنه مستثار جنسيا، بل لأنه غالبا معه مطواة ولأنه من الواضح يقصد أن ينتهك الحدود إما بالعنف الجسدي المباشر أو باستخدام الألفاظ الموجعة أيضا. المارة يخشونه لأنه مجرم يرتكب جريمة عنف جنسي لا لأنه في حالة نشوة جنسية!!
التحرش هو لقطة مكثفة لموبقات المجتمع القذر الذي نعيش فيه الذي يقوم على أن المسلم بشر والمسيحي نصف إنسان، وأن الرجل بشر والمرأة نصفه، والغني إنسان والفقير لا يساوي ثمن جورب.
ولذلك كله فإن تحرر المرأة – تحررها من العنف ضدها، وتحررها من سيطرة الرجال، وتحررها من مكانتها الثانوية في المجتمع، وتحررها من استغلالها في العمل المأجور أو غير المأجور – يهز دعائم المجتمع الرأسمالي، ويرتبط بشكل لا فصام له بالنضال من أجل تغيير هذا المجتمع جذريا. ويرتبط ارتباطا وثيقا بالنضال من أجل تحرر العمال وتحرر الأقباط. الكفاح من أجل المساواة. إن من يخافون على هذا المجتمع من التغيير هم من يقولون للمرأة التي تنتهك في الشارع “بلاش شوشرة”، ويقولون للمسيحي الذي يدافع عن حقوقه المتساوية كمواطن أن يكف حتى لا يقوي شوكة الإسلاميين المتطرفين، ويقولون للعمال المطالبين بعودة زملائهم المفصولين أن يكفوا وإلا سيلحقون بهم، ويقولون للغلابة يجب أن تطأطئ الرأس وأنت تكلم “الباشا” فالعين لا تعلو عن الحاجب. كلهم يريدون الحفاظ على مجتمع طبقي ذكوري عنصري طائفي. أما الثوريون فعليهم الانغراس في نضالات جميع المضطهدين، فلا تغيير للمجتمع إلا هذا السبيل، ولا سبيل آخر لوقف التحرش.
إن أردنا تغيير المجتمع الطبقي الحقير الذي يقوم على الاستغلال والاضطهاد الذي نعيش فيه فلا بد أن نحارب التحرش ونحارب ثقافة الاغتصاب ونحارب الأفكار التي تؤسس لدونية المرأة ونكافح من أجل المساواة الكاملة للمرأة، بل أكثر من المساواة الكاملة، يجب أن نحارب من أجل خلق رجل جديد وامرأة جديدة. وإذا أردنا الوصول إلى هذا، لا يمكننا إلا أن نحارب من أجل تغيير هذا المجتمع الطبقي الحقير نفسه. معا ضد الرأسمالية، معا ضد اضطهاد المرأة بكل أشكاله.