هل أهنت القضاء المصري اليوم؟

إذا كنت تقرأ هذا المقال في الصباح فلا تنسَ أن تبدأ يومك بإهانة القضاء المصري أما إذا كنت تقرأه ليلا فلا تنسَ أن تختم يومك بإهانته وأنت تتذكر عشرات الآلاف من المظلومين الذين يرزحون في سجون النظام بأحكام قضائية مجحفة صدرت في حقهم لأن السلطة السياسية تريد ذلك، لا تتردد في إهانته وأنت تسمع أنين أحبائهم ورفاقهم وأصدقائهم وأهلهم وهم يرددون كلمات افتقادهم.
يصدرون أحكامهم باسم الشعب وهي أحكام لا تنبع سوى من إرادة السلطة التي تسيطر على البلاد بالعديد من الأدوات القمعية، يقمعون الشعب لصالح السلطة بقوانين وضعتها السلطة وبأحكام تملى عليهم من السلطة ثم يكتبون في أول أحكامهم “باسم الشعب”!
إنهم الجلادون الجدد؛ قضاة النظام ودرعه الصريح، إنهم السوط الذي يجلد به النظام معارضيه السياسيين، إنهم أداة الثورة المضادة الأكثر استخداما الآن للتنكيل بالثوار ثم يُتبع هذا التنكيل بأنه لا تعليق على أحكام القضاء!
يقولون عنه إنه “شامخ” والحقيقة أن شموخه لم يتبلور سوى في القيام بدور حامي حما النظام وليس شموخا في الدفاع عن العدالة؛ نعم هو شامخ بالنسبة للنظام الذي يحميه ولكنه فاسد بالنسبة لكل معايير العدالة سواء في الأحكام أو حتى من الناحية الإجرائية، قضاء فساده تخطى كل الحدود؛ ما بين أحكام سياسية بالإعدام الجماعي تجاوزت ال 500 شخص من محكمة جنايات المنيا وتبرئة رموز الفساد من نظام مبارك وتبرئة ظباط الشرطة قتلة المتظاهرين، مرورا بحبس المتظاهرين أنفسهم لسنوات طويلة حيث وصلت الأحكام إلى 15 سنة سجن لخرق قانون التظاهر في بعض القضايا وغيرها من الأحكام الفاسدة ما لايعد ولا يحصى.
قضاء الكمائن والمكائد
بالأمس القريب كانت جلسة محاكمة متهمي وقفة مجلس الشورى المتهم فيها الناشط علاء عبدالفتاح و24 آخرون أمام إحدى دوائر الإرهاب في القاهرة، ولم يكتفِ القاضي بقبول التواجد لنظر القضية في مقر تابع لوزارة الداخلية هو “معهد أمناء الشرطة بطرة”، وإنما أيضا قام القاضي بكل “بجاحة” بترتيب مكيدة مع الداخلية لعلاء عبدالفتاح وحمادة نوبي ووائل متولي الثلاثة الذين أرادوا حضور الجلسة للدفاع عن أنفسهم رغم معرفتهم جيدا أنه سبق لهذا القاضي التزوير لنظام مبارك وأنه يتلقى أوامره من الدولة وأجهزتها الأمنية في القضايا السياسية .
لم يكتفِ القاضي بإصدار حكم مسيس ضد علاء عبدالفتاح ورفاقه وإنما قام بنصب كمين إجرائي لهم بالتنسيق مع الشرطة، بحيث يتم منعهم من دخول المحكمة لحضور الجلسة من قبل الداخلية التي تسيطر على مقر المحاكمة فيقف علاء ورفاقه أمام الباب منتظرين الدخول؛ فيوقع عليهم القاضي غيابيا أقصى عقوبة وهي الحبس 15 عاما، ثم تقوم الشرطة بالقبض عليهم وهم أمام باب مقر المحاكمة لتنفيذ الحكم ضدهم والقاضي لم ينصرف بعد، وترفض الشرطة توقيعهم على طلب إعادة الإجراءات سوى بعد انصراف القاضي لأن القانون ينص على محاكمتهم حضوريا في آخر جدول الجلسات لنفس اليوم إذا تم القبض عليهم بعد الحكم الغيابي ضدهم قبل انصراف القاضي، وما حدث يعني أنهم سوف يظلون محبوسين داخل سجون العسكر حتى موعد جلسة إعادة المحاكمة!
ليس هذا أول كمين يدبره القضاء بالتنسيق مع الداخلية للثوار والنشطاء السياسيين؛ ففي يوم 20 مايو الماضي وأثناء نظر معارضة الرفيقة ماهينور المصري وهي المعارضة التي تم تأييد فيها الحكم السابق على الرفيقة بالحبس سنتين مع الغرامة 50 ألف جنيه؛ لم يكتفِ القضاء يضا يومها بالحكم المسيس الذي يأتيه بمكالمة هاتفية من مصدر أمني بل إن إجراءات المحاكمة يومها أيضا كان فيها من البجاحة ما يدل على مدى الفُجر الذي وصل إليه القضاء المصري، وكأن القضاء يريد أن يرسل لنا رسالة علنية أنه منحاز للسلطة دون مواربة وعلينا ان نهابه ونهاب السلطة التي تتحكم به.
وتفاصيل المحاكمة الهزلية للرفيقة ماهينور في معارضتها كثيرة ومنها عى سبيل المثال رفض القاضي الذي سبق وتنحى عن نفس القضية التنحي سوى بعد الضغط عليه من المحامين وإصرارهم على ذلك ثم إعلامه للمحامين أنه سوف يستأذن رئيس المحكمة أولا قبل أن يتنحى! ثم بعد ذلك إحالة الرفيقة ماهينور أمام قاض آخر في قاعة مجاورة في نفس يوم تنحي القاضي الأول! عندها بدأت قوات الأمن في التوافد ثم فوجئنا بعد ذلك أن القاضي الجديد هو القاضي الذي سبق وأصدر حكم أول درجة الغيابي على الرفيقة ماهينور فطلب المحامين تنحيه ورده، فوجدناه يرفع الجلسة ويقول إن القرار بعد قليل لنفاجأ بعدها بدقاق بالداخلية يقتادون الرفيقة من القفص سريعا لخارج القاعة لنعلم بعد ذلك من ظباط الداخلية أن القاضي أصدر حكمه بتأييد حكمه السابق بحبسها ؛ حبسها دون سماع أقوالها وأقوال محاميها! لتفاصيل أكثر عن محاكمة الرفيقة ماهينور : مشاهد من “شموخ” القضاء في حكمه على الرفيقة ماهينور
الجلاد ذو الوجه البريء
ولن نجد مثالا يؤكد أن القضاء المصري يستحق الإهانة أكثر من الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور الذي جاء من رئاسة أعلى سلطة قضائية في مصر (المحكمة الدستورية العليا )ليصبح رئيسا مؤقتا للبلاد بعدما انقلب الجيش على انتفاضة 30 يونيو 2013؛ ومن يومها ودوره لا يتعدى “عروسة ماريونت” يدير من خلالها العسكر الثورة المضادة؛ ليقوم بنفسه بإصدار قوانين مخالفة للدستور مثل القانون القمعي المعتدي على الحريات المسمى قانون التظاهر والذي استخدم لسجن النشطاء والثوار والاعتداء عليهم وسحلهم، وكذلك قانون الانتخابات الرئاسية الذي لا علاقة له بالنزاهة من قريب أو بعيد .
هذا بجانب القرارات التي اعتاد إصدارها طوال السنة الماضية لخدمة الثورة المضادة والطبقة الحاكمة وكان منها تمكين الفاسد رئيس الوزراء امن التصرف في أراضي الدولة مع العلم إن إبراهيم محلب له تاريخ كبير من الفساد عندما كان رئيسا لشركة المقاولين العرب كان أبرز قضاياه قضية القصور الجمهورية التي تم الحكم فيها على المخلوع مبارك بالحبس لثبوت فساده وكذلك قراره الأخيره بنقل ملكية ميناء العريش للقوات المسلحة قبل أن يكمل المسرحية بتسليم السلطة الصوري لصاحب السلطة الحقيقة في البلاد منذ 3 يوليو 2013 عبدالفتاح السيسي قائد الثورة المضادة.
والآن اكتمالا لمنظومة فساد القضاء نجد عدلي منصور بعد أن أصدر تلك القوانين والقرارات الكارثية التي تم تقديم طعون على العديد منها يعود إلى منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا التي من المفترض أن تنظر دستورية هذه القوانين والقرارات الفاسدة والقمعية التي أصدرها هو نفسه !
من يهين القضاء؟
ولكن هل عندما نقول أن القضاء المصري فاسد ومسيس ومنحاز للسلطة هل هذه إهانة له؟ أميل أكثر لاعتباره هذه الكلمات وصفا له أكثر منه إهانة؛ لأن الإهانة الحقيقية لا تأتي من وصف الأفعال بكلمة تعبر عنها فوصف الشيء بوصفه الحقيقي بموضوعية هو شيء مطلوب دائما، الإهانة الحقيقية هي تلك التي يوجهها القضاء المصري لنفسه بالقيام بتلك الجرائم الصارخة، القضاء المصري هو من يهين نفسه، من يجب أن يُحاسَب على إهانة القضاء هم القضاة أنفسهم؛ ولكن من يحاسبهم؟ الإجابة: انتفاضة شعبية ناجحة تحاكم النظام وأدواته القمعية وعلى رأسها القضاء .
القمع والقضاء والثورة
قامت ثورة يناير ضد الفقر والمرض والفساد والظلم والاضطهاد الين كان يحكم بهم نظام مبارك الشعب المصري، ولكن الجماهير المنتفضة في الشوارع والميادين صبت غضبها في جمعة الغضب (28 يناير 2011) على الداخلية عصا النظام الغليظة التي كانت لا تكتفي بالفتك بالنشطاء السياسيين بل كان قمعها يطال الجميع، وكانت صورة الشاب السكندري خالد سعيد مقتولا على يد ظباط وأفراد الداخلية بمثابة الرسالة التي وصلت للجميع؛ لا أحد آمن في هذا الوطن؛ وهو ما كان شرارة انطلاق الثورة والتي تمركز الغضب فيها ضد حائط الصد الأول للنظام – الشرطة، وكان هناك غضب مضاعف ضد الجهاز الأكثر قذارة بين أجهزة الداخلية وهو جهاز الحماية الصريحة للنظام السياسي؛ جهاز أمن الدولة وهو ما كان دافعا لاقتحام مقراته من قبل الثوار في مارس 2011 .
الآن أمن الدولة غيّر اسمه للأمن الوطني مع استمرار السياسات القمعية له، بل أضاف لها بعدا جديدا؛ لم يعد يتم الاكتفاء بتحريات هذا الجهاز الفاسد المعتمدة على التلفيق أو اعترافات منتزعة تحت أسوأ أنواع التعذيب ليقدمها للنيابة والقضاء ليحكموا من خلالها، بل أصبح هذا الجهاز نفسه هو من يصدر “الأحكام” في القضايا السياسية التي ينظرها القضاء ليتلوا القاضي الحكم بعد مكالمة أو زيارة لأحد أفراد هذا الجهاز له!
القضاء الآن يتصدر مشهد القمع ضد النشطاء السياسيين وضد العمال المحتجين؛ ويصر القضاة على أن يستمروا في هذا ضاربين عرض الحائط بكل مبادئ العدالة، القضاء الآن بشكل فج أصبح حائط صد أساسي للنظام يهدف إلى الحفاظ عليه كما هو نظاما فاسدا ظالما قمعيا لا إنسانيا. ولكن يبدو أن القضاة لم يعوا درس ما حدث للداخلية في الثورة أو أنهم يعتقدون أنهم في أمان بتحالفهم الصريح مع الداخلية وباقي أجهزة الدولة القمعية التي سوف تحميهم، ربما يكون ما يظنونه صحيحا اليوم في ظل توازن القوى الذي يصب في صالح الثورة المضادة كما كانت أيضا الداخلية تظن قبل 25 يناير 2011 أنها في أمان طالما النظام راض عنها ويسلحها بكل ما تريد من أدوات القمع والقتل والتعذيب؛ ولكن في الغد لا يلوم القضاة إلا أنفسهم إذا ما وجدوا المحاكم والنيابات أهدافا للشعب المنتفض كما حدث مع مقرات الداخلية في ثورة يناير لأنها أصبحت قلاعا للظلم في أبشع صوره وأصبحت مجرد أدوات في يد النظام الفاسد، ولا يلومن القضاة إلا أنفسهم إذا وجدوا أن مهنة القاضي أصبحت سبة مثلما هو الحال مع مهنة الظابط عموما وظابط أمن الدولة على وجه الخصوص.
إن التعليق على أحكام القضاء الآن هو واجب ثوري، فضح قضاء الثورة المضادة مهمة أساسية من مهام الثورة، إهانة قضاء السلطة على جرائمه في حق العدالة والإنسانية هو واجب ثوري وإنساني، تعرية أدوات النظام القمعية مهمة مركزية من مهام الثورة .
وفي النهاية رسالة للنظام: لن يرهبنا قضاؤكم كما لم ترهبنا داخليتكم وكما لم يرهبنا جيشكم، من هتف ضد حكم العسكر ومن هتف ضد الداخلية سيهتف ضد القضاء الذي ينافسهم في القمع الصريح للثورة والثوار الآن .