بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ما بين انتهاء موجة ثورية والاستعداد لموجة ثورية جديدة

لم يعد هناك شك أننا نشهد انتصاراً واضحاً للثورة المضادة ونهاية مؤكدة للموجة الأولى للثورة المصرية. هذا لا يعني أن ذلك الانتصار انتصاراً نهائياً ولا يعني أيضاً أن العملية الثورية قد انتهت، ولكن يعني أننا أمام تحدي من نوع جديد يجب دراسته جيداً ليتمكن الثوريون من مواجهته ومن الانتصار عليه ولو بعد حين. فقد جاء تتويج عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر على جثث شهداء الثورة المصرية ومع أكبر حملة اعتقالات في التاريخ المصري الحديث، وبدعم غير مسبوق من كبار رجال الأعمال ومن كافة أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والدينية ومن جهاز إعلام ضخم خاص وعام تحت سيطرة مباشرة من المخابرات، ومع باقة من القوانين القمعية التي ضيقت إلى أبعد الحدود مساحة العمل السياسي بل والاجتماعي والمطلبي تحت غطاء الحرب على الإرهاب وإنقاذ الدولة من آثار الشروخ التي أحدثتها ثورة يناير 2011.

ولعل من أهم الدروس لهذه الثورة المضادة هو أن التقليل من قدرة وقوة العدو يعتبر خطأ قاتل. يمكننا وصف السيسي بما نريده – عرص، قاتل، خائن. كما تريد. ولكنه ليس عدوا هيناً. إذا كنا نريد بالفعل دحر الثورة المضادة والبدء في الاستعداد للموجات الثورية القادمة، علينا تجاوز منطق “ماتقدرش!” فالسيسي تمكن من إرجاعنا إلى ما قبل نقطة الصفر في ثورة مضادة ناجحة بظهير شعبي من الطبقة الوسطى وقطاع واسع من الفقراء. ليس من المفيد التقليل من شأن هذه الهزيمة ومن حجم وطبيعة العدو، إلا لو كان هدفنا إرضاء ضمائرنا وحسب. أما إذا كان هدفنا انتصار الموجات الثورية القادمة فعلينا دراسة توازن القوة بيننا وبين أعدائنا بشكل علمي وبدم بارد. هكذا فعل عدونا وهو يحكم على الثورة بالإعدام وهكذا يجب أن نفعل نحن في طريقنا الطويل نحو انتصار ثورتنا الثانية والقصاص لشهدائنا.

ولكن الطريق طويل بين اللحظة الحالية وبين القضاء على السيسي ورجاله ونسائه. هذا الطريق يتطلب رؤية استراتيجية صائبة وقدرة على تحديد التكتيكات المناسبة وعملية بناء للتنظيم الثوري تتميز بالصبر والدأب وطول النفس.

تناقضات حكم السيسي

لا يعني انتصار الثورة المضادة أن الديكتاتورية العسكرية لا تواجه أزمات وتحديات حادة علينا دراستها ونحن نرسم الخطوط العريضة لاستراتيجيتنا وتكتيكنا في الفترة القادمة:

الأزمة الاقتصادية
هناك تناقضاً واضحاً بين المضمون الأيديولوجي والشعبوي للنظام الجديد وانعدام أية إمكانيات حقيقية لنمو اقتصادي حقيقي يسمح بالاستقرار. إن الحرب الدائمة على الإرهاب ومشروع الإقصاء الدائم للإخوان، وهي أهداف ضرورية للإبقاء على وحدة تحالف أجهزة الدولة ودعم قطاع واسع من الطبقة الوسطى، سيمنع أي عودة سريعة للاستثمارات والسياحة، وسيظل الاقتصاد في حالة أزمته الدائمة يعيش من شهر إلى شهر بفضل المعونات الخليجية. هذه المعونات لا يمكن أن تستمر على المدى المتوسط دون حد أدنى من الاستقرار تسمح بتحول الأموال الخليجية إلى استثمارات مربحة.

التناقض الثاني الذي يعاني منه اقتصاد الثورة المضادة هو الهوة العميقة بين التوقعات الضخمة في صفوف قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى خصوصاً والتي عبئتها الآلة الإعلامية الخاصة والعامة بآمال ضخمة حول تحسن ملموس في الظروف المعيشية.

هذه التوقعات ستصطدم سريعاً مع الجوهر التقشفي اليميني لسياسات النظام. وأي محاولات جادة من السيسي لتبني سياسات شعبوية ولو مؤقتة ستصطدم هي الأخرى بالحائط المنيع لمصالح كبار رجال الأعمال والمستثمرين الخليجيين. قواعد الليبرالية الجديدة خط أحمر وشرط لدعم هؤلاء لحكم العسكر.

عندما يتحدث السيسي عن القفزات والوثبات الخيالية التي يحتاجها الاقتصاد المصري، فهو محق. عودة التنافسية للرأسمالية المصرية تحتاج إلى نقلات نوعية في البنية التحتية للاقتصاد (رأس المال الثابت)، وهذا يعني مادياً محطاط نووية لحل أزمة الطاقة، شبكات جديدة للطرق والسكك الحديدية، مؤسسات تعليمية جديدة لتطوير المهارات وبالتالي الإنتاجية، إلى آخره من المشاريع التي كان من المفترض أن تكون الرأسمالية المصرية ودولتها قد استثمرت فيها في نصف القرن الماضي وهو ما لم يحدث.

مشكلة هذا النوع من المشاريع أنها تحتاج لعاملين غير متوفرين للسيسي وهما التمويل الضخم والوقت. إن تمويل مثل هذه المشروعات الضخمة لا يمكن أن يقوم به رأس المال الخاص الخليجي أو المحلي لأن ربحية مشاريع البنية التحتية لا تتحقق إلا بعد سنوات طويلة بل عقود. إصلاح السكك الحديدية على سبيل المثال سيتكلف عشرات المليارات من الدولارات وسيستغرق ما لا يقل عن عشرة أعوام. أما محطات الطاقة النووية فتتكلف أضعاف ذلك ولا تبدأ في إنتاج الطاقة إلا بعد خمسة عشر عاماً من البدء في إنشائها.

لا يوجد خطة تقشفية يمكن أن توفر التمويل اللازم، حتى لو لغى الجنرال المجنون بند الأجور وضاعف ساعات العمل. وكيف سيعمل الاقتصاد بين اليوم وبين ذلك المستقبل البعيد؟ سيظل نظام السيسي مأزوماً، مديوناً، فاسداً متسولاً وتابعاً مطيعاً للسعودية والإمارات وللولايات المتحدة. أما العقلية العسكرية البيروقراطية في التعامل مع التخطيط الاقتصادي فلا يمكن أن تؤدي إلا لكوارث ومشاريع عملاقة على الورق وفارغة من أي مضمون (اللعب بجغرافيا المحافظات نموذجاً).

هذا كله لا يعني أن النظام سينهار سريعاً كما يظل يردد الإخوان، ولا يعني كذلك أن الثورة الثانية على الأبواب. فالأزمات الاقتصادية لا تؤدي في حد ذاتها لا للانهيار ولا للثورة. فجوهر شعبية السيسي مزيج بين التوقعات والخوف. الخوف من تفكك الدولة، من الفوضى والحرب الأهلية والإرهاب وانهيار الأمن.. ومستقبل داعشي النزعة. هناك رغبة عارمة في الاستقرار بأي ثمن لدى قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى وقطاعات ليست هينة من الطبقة العاملة والفقراء.

التوازن بين أجهزة الدولة الأمنية
كانت دولة مبارك تعتمد على تقسيم عمل وتوازن للقوة دقيق بين مختلف أجهزة الدولة ومراكز القوة. الجيش بمختلف قطاعاته في مقابل الرئاسة والداخلية، والمخابرات العامة والحربية في مقابا أمن الدولة، وكبار رجال الأعمال في مقابل قيادات الحزب الوطني. ظل هناك بالطبع تداخلاً وتعاوناً بين كل هذه الجهات، ولكن ظل هناك أيضاً تنافس حاد بينها على النفوذ والسلطة والثروة والتأثير. وقد نشأ هذا التفاعل والتوازن عبر عقود منذ العهد الناصري ومر بكثير من النزاعات والأزمات.

ولكن ثورة يناير جائت لتخلق شروخاً غير مسبوقة في تلك البنية ولتهز أركان ذلك التوازن. انهيار جهاز الشرطة وأمن الدولة وتمردات ولو جنينية في صفوف الجيش وانهيار مؤسسة الرئاسة العتيقة والتي كانت دائماً ما تستخدم التنافس بين مختلف مؤسسات الدولة للإبقاء على سلطتها.

ولعل الدور الرئيسي الذي لعبه السيسي والذي أوصله إلى كرسي الرئاسة، هو إنقاذ تلك المنظومة من التفكك والانهيار. فكان بلا شك العقل المدبر في المجلس الأعلى في إدارة معركة الحفاظ على تماسك الدولة. فقد لعب دوراً محورياً كمدير المخابرات الحربية في الحفاظ على وحدة الجيش ومنع تسرب تأثير الثورة إلى صفوفه (لن نعرف تفاصيل كل ذلك إلا بعد الإطاحة به). ولعب الدور الأكبر في إعادة بناء الداخلية وأمن الدولة ومنع خروج الاشتباكات بين الشرطة والجيش عن السيطرة. فعل ذلك في البداية بمساعدة الإخوان واستكمل مهمته على جثثهم.

ولكن الدولة المصرية بكافة أجهزتها مازالت في حالة تصدع شديد. ولحظة الزعيم المنقذ والموحد لن تطول كثيراً. فشبكات المصالح ومراكز النفوذ والسلطة والتوازن بينها من الصعب جداً أن تعود إلى سابق عهدها.

ولعل نقطة الضعف القاتلة (إن شاء الله) في سلطة السيسي هي افتقاده لحزب سياسي حقيقي. لم يعد من الممكن الاعتماد على آلة الحزب الوطني القديم والذي يريد عودة سطوته القديمة بكامل طاقتها (لاحظ شلل أو امتناع تلك الآلة خلال الانتخابات الرئاسية). السيسي بالطبع له ظهير شعبي أساساً من الطبقة الوسطى ولكن هذا الظهير ليس منظماً في حزب له بنية وأيديولوجية واضحة. الهستيريا الوطنية وذعر الطبقة الوسطى وحدهما لا يكفيان لتحويل تلك الجماهير إلى حزب سياسي مؤثر.

إن حالة الانسجام والوحدة الحالية في معسكر السيسي تقومان أساساً على ما هو سلبي ومؤقت: القضاء على آثار الثورة بل أيضاً الإقصاء الكامل للحزب الإصلاحي الجماهيري الوحيد في البلاد وهو الإخوان المسلمين. وكلما تأكدت استحالة تلك المهمة كلما ظهرت التشققات والانقسامات والشروخ في حلف الديكتاتور.

وما رأيناه من انقسامات في تمرد والتيار الشعبي ومن التحول من التأليه التام للسيسي إلى درجة ولو محدودة من النقد والمعارضة، هي مجرد مقدمات لما هو أعمق وأهم.

أزمة المعارضة والقوى الثورية
دائماً ما يخون الإصلاحيون الثورات. وإما أن تمهد تلك الخيانة لإزاحة الإصلاحيين واستكمال الثورة، أو انتصار الثورة المضادة لو غاب عن المشهد قوى ثورية فعالة لها جذور جماهيرية عميقة قادرة على قيادة المعركة ضد الثورة المضادة والإصلاحيين معا. والتاريخ مليء بالأمثلة. في الثورة الصينية الأولى (1925-1927) خان الستالينيون الثورة وكانت النتيجة تصفيتهم وتصفية الثورة تحت حكم الجنرال تشيانج كاي شك.وفي الثورة الألمانية (1918-1919) خان الاشتراكيون الديمقراطيون الثورة وكانت النتيجة صعود هتلر والنازية.

ولعل أحد الأمثلة القليلة الإيجابية حتى الآن هي الثورة الروسية. فقد أوصلت ثورة فبراير 1917 الإصلاحيون إلى السلطة بقيادة كيرنسكي، والذي سرعان ما خان مبادئ وأهداف الثورة ولكن البلاشفة تمكنوا أولاً من دحر الثورة المضادة والتي قادها الجنرال كورنيلوف ثم الإطاحة بكيرنسكي نفسه واستكمال الثورة ولو لحين.

من نصيب الثورة المصرية أنها تعرضت للخيانة مرتين. المرة الأولى من قبل الإخوان المسلمين الذين وصلوا إلى السلطة على أكتاف الثورة ثم سلموها لأعدائها ومهدوا الطريق بغباء استثنائي لثورة مضادة أطاحت بهم وبالثورة.

ولكن التمهيد النهائي للثورة المضادة جاء من خلال الخيانة الثانية للثورة على يد القوى الليبرالية واليسارية والقومية والتي أنشأت مع الفلول والمخابرات جبهة الإنقاذ وبعدها حركة تمرد وتنسيقية 30 يونيو. وقد لعبت تلك القوى دوراً أساسياً في تحويل ما بدأ كموجة ثورية جديدة ضد خيانة الإخوان لمطالب ومبادئ الثورة وضد تهاونهم مع الداخلية والجيش وضد سياساتهم وممارساتهم العنصرية تجاه النساء والأقباط وتجاهلهم لمطالب العمال، تحول كل ذلك الزخم الثوري إلى نقيده وإلى صعود الظهير الجماهيري للثورة المضادة.

ولكن كيف حدث ذلك التحول؟
ما بدأ كموجة ثورية جديدة تربط ما بين العداء للإخوان بسبب خيانتهم للثورة وما بين العداء لدولة مبارك بجيشها وداخليتها وفلولها، سرعان ما تمكن الإصلاحيون المدنيون من فك الارتباط بين العنصرين (مناهضة الإخوان و مناهضة دولة مبارك) وتركيز المعركة بالكامل على هدف الإطاحة بالإخوان كهدف وحيد.

وهنا لعب الإعلام البرجوازي ومن ورائه بالطبع جهاز المخابرات دوراً محورياً في توحيد المعركة ضد الإخوان وحدهم. وكان تبرير القيادات الإصلاحية “المدنية” بقبول ذلك هو تبرير كلاسيكي في انتهازيته. فمنطقهم يقول أنه إذا كان الإخوان عقبة في طريق استكمال الثورة يجب توحيد الصفوف للتخلص منهم أولاً ثم نلتفت بعد تلك المرحلة لمواجهة بقايا نظام مبارك. وبالتالي فرفع شعارات ومطالب مناهضة للجيش والشرطة والفلول في مرحلة المعركة ضد الإخوان يضعف قدرة الحركة على الإطاحة بهم. وكانت النهاية الطبيعية لهذا المنطق الانتهازي (الستاليني في مرحليته) هو ضرورة التحالف بين كل العناصر المعادية للإخوان بغض النظر عن موقفها من الثورة ومن مطالبها. ليس فقط التحالف مع الفلول والذي بدأ مبكراً في جبهة الإنقاذ ولكن الأهم والأخطر التحالف مع القلب الصلب لدولة مبارك- الجيش والشرطة والمخابرات.

وهنا أصبح شعار الإطاحة بالإخوان لتصحيح مسار الثورة هو مجرد غطاء لمشروع جوهر مضمونه هو أن الثورة نفسها هي التي أتت بالإخوان وهددت “الدولة” بالانهيار وبالحرب الأهلية. وأن الإطاحة بالإخوان وإعادة بناء “الدولة” هو السبيل الوحيد الآمن للخروج من الأزمة. أي الإطاحة بالإخوان وبالثورة لعودة الاستقرار والأمن، ولكن بدون مبارك وأسرته، ومع عودة العسكر وأجهزتهم إلى صدارة المشهد. وهو الهدف الذي لم يتمكن من تحقيقه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد الموجة الثورية الأولى.

30\6
وهنا يأتي يوم 30\6 ليس كتتويجاً لموجة ثورية في نفس اتجاه ثورة يناير 2011، بل في واقع الأمر كتمهيداً وتفويضاً جماهيرياً للثورة المضادة بإنقلابها العسكري ومجازرها واعتقالاتها.

بالطبع لم تكن تلك رؤيتنا أو تحليلنا نحن الاشتراكيين الثوريين في ذلك الوقت. فالأمور كانت شديدة التعقيد. فقد شاركنا في 30\6 مع غيرنا من القوى الثورية على أساس أن تعبئة جماهيرية بهذا الحجم وفي سياق موجة من الاحتجاجات والإضرابات التي سبقتها، ستتمكن من تطهير صفوفها من الخونة ومؤيدي الجيش والشرطة. أو على الأقل من خلق درجة من الاستقلالية لقطاع من الجماهير يريد التخلص من الإخوان كجزء من استكمال الثورة ضد دولة مبارك.

ولكن واقع اليوم نفسه كان كافياً لإثبات أن توازن القوة لم يكن في صالحنا على الإطلاق. فرغم تشابه مشاهد الحشود المليونية وتشابه بعض شعارات المظاهرات”الشعب يريد إسقاط النظام”، فالمحتوى الاجتماعي والسياسي لتلك الحشود والشعارات كان قد تحول إلى نقيض الموجات السابقة من الثورة. فكان العنصر الجماهيري الأكثر تأثيراً وهيمنة هو الطبقة الوسطى المدينية بمسيحيها ومسلميها وبنسائها ورجالها، في حالة غلب عليها هستيريا العداء للإخوان ممتزجة بهستيرية تمجيد الجيش والإحتفاء به، بل والشرطة أيضاً. نفس الشرطة التي مزقتها الثورة الأولى ونفس الجيش الذي هتف ضده وضد مجلسه الأعلى الملايين خلال 2011-2012.

من أكثر الأشياء التي أثارت التخبط بشأن طبيعة 30\6 هو مفهوم خاطئ وتبسيطي لما نسميه “الجماهير” و كذلك “الشعب”. ليس فقط لأن الشعب والجماهير تنقسم لطبقات اجتماعية مختلفة، ولكن أيضاً لأن قطاعات مختلفة داخل كل طبقة تتباين وتتعارض في درجات الوعي وبالتالي في دوافع تحركها والشعارات والمطالب التي تتبناها.

مصدر ثاني لحالة الالتباس التي أثارها 30\6 هو كون الثورة المضادة تستخدم كثيراً من الوسائل والشعارات بل وأشكال الحشد التي تستخدمها الثورة. بل أن كثير من الثورات المضادة في التاريخ تصور نفسها كثورة جديدة أو ثورة تصحيح، ليس فقط كوسيلة للخداع ولكن أيضاً لأن جماهير الثورة المضادة ترى بأنها بصدد ثورة جديدة.

الموقف من الإخوان المسلمين
ولكن إلى جانب كل هذه التعقيدات كان هناك مصدراً آخر لتخبط الثوريين ونحن بالطبع منهم، تجاه الأحداث. وهذا المصدر كان الرؤى المتباينة حول طبيعة الإخوان المسلمين. تبنى الاشتراكيون الثوريون منذ تسعينات القرن الماضي رؤية وتحليل للحركة الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين، تناقضت بشدة مع ما كان بتبناه معظم فصائل اليسار المصري من حزب التجمع والحزب الشيوعي المصري مروراً بمجموعات أصغر لم تعد موجودة الآن مثل حزب الشعب الاشتراكي وحزب العمال الشيوعي.

كل تلك الفصائل الغارقة في أمراض الستالينية بمختلف تنويعاتها كانت ترى في الإخوان المسلمين نوع من الفاشية الدينية العميلة بشكل أو بآخر للإمبريالية الأمريكية والمعادية لما كانوا يسمونه الحركة الوطنية المصرية. ومع اتساع نفوذ الحركات الإسلامية بشكل عام والإخوان المسلمين بشكل خاص، تراوحت مواقف اليسار بين التأييد العلني لنظام مبارك في مواجهة تلك الفاشية الدينية بحجة الدفاع عن الدولة “المدنية” وأن فاشية الإخوان أسوأ كثيراً من استبداد مبارك.

وكان هذا هو موقف رفعت السعيد وحزب التجمع وتابعه الحزب الشيوعي المصري. في حين تبنت فصائل على يسار التجمع موقفاً مختلفاً ظاهرياً ولكنه مماثلاً في الجوهر.ويطرح هذا الموقف أنه في المواجهة بين دولة مبارك والحركة الإسلامية فنحن أمام فصيلين من البرجوازية يتنازعان حول السلطة. أي أنه علينا أن نعادي الطرفين معاً ونعمل على بناء منبر أو حزب يساري جماهيري يمثل بديل ثالث لظلامية الإسلاميين واستبداد مبارك. ولكن هذا الموقف لم يختلف عن موقف رفعت السعيد عملياً. فلم يكن لليسار جماهير منذ ثمانينات القرن الماضي. والصراع السياسي كان ما بين نظام مبارك من جانب والحركة الإسلامية من الجانب الآخر. والحياد في مثل هذه الظروف يكون بمثابة دعم الطرف الأقوى ضمنياً إن لم يكن علنياً. بل الأسوء من ذلك أن اعتبار الحركة الإسلامية حركة فاشية أو شبه فاشية كان يعني دائماً أن موقف رفعت السعيد هو الأكثر إتساقاً. فلا يوجد بالنسبة لليسار الماركسي بل بالنسبة للطبقة العاملة، والتي كانت كل هذه الفصائل تتحدث بإسمها، ما هو أخطر وأسوأ من وصول الفاشية إلى الحكم. (هذا التناقض التحليلي هو ما أدى في نهاية المطاف إلى توحد كل هؤلاء مع رفعت السعيد وإرتمائهم في أحضان السيسي بعد وصول الإخوان للسلطة).

وإذا كان موقف الستالينيين بمختلف تنويعاتهم (من رفعت السعيد إلى كمال خليل) يؤدي إلى استنتاج مضمونه “دائماً ضد الإسلاميين، أحياناً مع الدولة”، فقد كان تحليل الاشتراكيين الثوريين للحركات الإسلامية يؤدي إلى عكس ذلك الاستنتاج “دائماً ضد الدولة، أحياناً مع الإسلاميين”.

شكلت الحركة الإسلامية بالنسبة لنا حركة مليئة بالتناقضات، متعددة الفصائل، شهدت تغييرات وتحولات كثيرة عبر تاريخها. وأن تجميدها في لحظة تاريخية واحدة أو التعامل معها ككتلة صماء يتنافى تماماً مع أي منهج علمي لفهم وتحليل تلك الحركات.

بالنسبة لنا لم يكن من الممكن فهم الإخوان المسلمين إلا من خلال السياق التاريخي لتطورهم والتكوين الاجتماعي المتغير لقياداتهم وكوادرهم وجمهورهم الأوسع. وأيضاً بالتالي موقعهم من الصراع الطبقي والسياسي في مصر.

هذا ليس المجال لتقديم تحليل ماركسي تفصيلي للإخوان (هذا موجود في أدبيات الاشتراكيين الثوريين ومتاح للجميع عبر بوابة الإشتراكي). ولكن ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن توصيفنا للإخوان المسلمين كحركة إصلاحية تحمل بداخلها تناقضات طبقية، وذات منظور اجتماعي محافظ. أي أنها ليست حركة فاشية ولا تمت بأي صلة للفاشية، قد أثبت صحته تماماً في مسيرة الإخوان من المعارضة إلى السلطة إلى المعتقل.

وقد ظل الإخوان خلال العقد الأخير لنظام مبارك هم أكبر تنظيم جماهيري معارض. ولكن هذه المعارضة ظلت في أطر إصلاحية محافظة، تتأرجح بشكل دائم بين المهادنة وبين المواجهة المحدودة. ولكن في غياب البدائل السياسية المنظمة وقزمية المنافسة اليسارية والليبرالية والقومية، ظل الإخوان يمثلون المعارضة الوحيدة المقنعة ضد فساد واستبداد النظام بالنسبة لقطاع واسع من الشرائح الدنيا للطبقة المتوسطة والفقراء بما فيهم الطبقة العاملة.

وكان أداء الإخوان في المرحلة الأولى من الثورة خير دليل على طابعهم المتناقض. شبابهم وقواعدهم تشارك في الثورة بقوة في حين يتفاوض قادتهم مع رموز نظام مبارك للوصول لحل وسط. وبعد سقوط مبارك واستيلاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة، عقدت قيادة الإخوان صفقتهم التاريخية مع العسكر. عمل الإخوان على استيعاب وتصفية الثورة في مقابل المشاركة في الحكم. وهي صفقة كلاسيكية تكررت كثيراً في تاريخ الثورات. صفقة عقدها كرنسكي والمناشفة مع بقايا نظام القيصر في الثورة الروسية، والاشتراكيين الديمقراطيين الألمان مع قادة الجيش في الثورة الألمانية، بل حتى سلفاتور ألندي الماركسي مع قائد الجيش التشيلي بينوشيه ما بين 1970 و1973.

ومع وصول محمد مرسي للرئاسة، أصبح مصيره ومصير الإخوان محتوماً. فلا الإخوان كانوا قادرين على استيعاب الثورة وتهدئة الشارع وبركان المطالب الاجتماعية والآمال والطموحات التي فجرتها الثورة، ولا كانوا قادرين على السيطرة على المفاصل الرئيسية للدولة من جيش وشرطة وقضاء وإعلام ولا على المفاصل الرئيسية للاقتصاد المصري باحتكاراته الكبرى والتي ظلت في أيدي نفس بليونيرات وجنرالات حقبة مبارك.

وكلما ازدادت أزمة الإخوان في الحكم كلما ارتكبوا مزيداً من الأخطاء والجرائم، في محاولة للحشد الديني والطائفي الرجعي. حوصر الإخوان بين ثورة لا يريدون استكمالها ولا يستطيعون استيعابها وبين ثورة مضادة لم يتمكنوا من ايقافها رغم سيل التنازلات التي قدموها لأركان تلك الثورة المضادة.

واستخدم الجيش بمساندة القوى الإصلاحية المدنية 30 يونيو كغطاء للإنقلاب العسكري وتحويل الغضب تجاه الإخوان إلى تفويض دموي ليس فقط لتصفية الإخوان بل لتصفية ثورة 25 يناير. وما بدأ بمجازر واعتقالات في صفوف الإخوان سرعان ما تحول إلى حرب شاملة على كل من شارك في تلك الثورة وعلى كل مبادئ ومطالب تلك الثورة. هذه الحرب التي يحتفلون الآن بمرور عاماً على شنها.