الدولة بين الزمالك والرست

“هتاكلوا مصر يعني؟”
قائل هذه الكلمات كان يدرك جيدا ماذا يقصد بـ”مصر”، إذ يقصد بها الطبقة الحاكمة المستغِلة لكبار موظفي الدولة وقيادات الجيش والشرطة ورجال الأعمال، كما يدرك أيضا طبيعة مهمته المتمثلة في القضاء على أي حراك أو محاولة أو حتى رأي من شأنه أن يقود الجماهير لانتزاع حقوقها من مستغليها.
في ضوء هذا المفهوم، تصبح حقوق الملايين من الكادحين مسائل مؤجلة إلى أجل غير معلوم، والمطالبة بهذه الحقوق عملا غير وطني، وعلى النقيض من ذلك تصبح رغبات الطبقة الحاكمة ضرورة ملحة تفرد لها مساحات النقاش وتُحشد لها المجهودات.
إذا اتفقت معي على هذا المفهوم، يمكننا سويا أن نقرأ الكثير مما يحدث حولنا.
قرية الرست بمحافظة الشرقية مثلها مثل كثير من قرى مصر المحرومة من الماء، يسكنها أكثر من 20 ألف نسمة يشترون مياه لا تصلح للاستهلاك الآدمى ليشربوها فتصيبهم بالأمراض، وكعادة مثل هذه المشكلات لا تصل إليها سوى كاميرات المغامرين من النشطاء والصحفيين. أما عن موقف الدولة من ذلك فهو مسلسل من التجاهل والوعود الكاذبة.
على الجانب الآخر تطالعنا الصحف بانعقاد ثانى جلسات الحوار المجتمعي مع سكان الزمالك ليحاول رئيس الهيئة القومية لمترو الأنفاق إقناعهم بعمل محطة للمترو بحيث يستفيد منها موظفي المصالح الحكومية وطلاب الكليات الكائنة بالزمالك وسط رفض تام من الأهالي عبرت عنه إحدى الحاضرات بقولها :”لو عملتوا محطة في الزمالك سنكون أقل من سكان بولاق وإمبابة”.
هكذا هي الدولة دائما تجدها حاضرة بالرفق والاحتواء كتابع مطيع في حي الزمالك ويندر وجودها في الرست إلا بالقمع والاستغلال. الأمثلة على ذلك كثيرة، فإضرابات الأطباء وموظفي البريد، وغيرها من الإضرابات في عدد من القطاعات، انتهت إلى ضرورة تحلي المضربين بالصبر والوقوف إلى جانب الدولة في محنتها، ويكفي أن يلوح العاملون بهذا المصنع أو تلك المؤسسة بأن لهم حقوق لتنهال دعاوي رجال الدين وإعلاميي الدولة لحثهم على نبذ تلك الفكرة الفاسدة من رؤوسهم، فالدولة أمامها ما هو أهم من توفير العيش الكريم للمواطنين.
على الجانب الآخر، تجد مرتبات ضباط الجيش والشرطة تتضاعف عدة مرات خلال فترة وجيزة بمنتهى الانسيابية في تمرير القرار الحكومي بالزيادة وكأن خزائن الدولة امتلأت فجأة وخصيصا لهذا القرار. وذلك يبدو متماشيا مع المفهوم الذي اتفقنا عليه سلفا في أول المقال. فالدولة تهتم بقمعك أكثر مما تهتم براتبك ورعايتك الصحية والخدمات التي تقدمها لك، أو لنكون أكثر دقة، يمكننا أن نقول أن لهذا كانت الدولة في الأساس.
الأمثلة كثيرة على انحياز الدولة لمصالح مَن تمثلهم من ملاك السلطة والمال على حساب الملايين من الجماهير العاملة والمنتجة، لكن يبقى أن نمر سريعا على كلمات من عهد مضى لمصطفى النحاس، رئيس وزراء مصر في الثلاثينات من القرن الماضي، يتحدث فيها عن المطالب العمالية محاولا إثناء العمال عن سعيهم لتحقيق مطالبهم فيقول: “عليكم أن تبتعدوا عن الآراء الضارة المتطرفة، وأن تقيموا حركتكم على أساس التعاون الوطيد بين العمل ورأس المال”.
انتهت كلمات مصطفى النحاس التي تصف نداءات الجماهير المشروعة من أجل حقوقها بالآراء المتطرفة وتنتهي مع كلماته أي محاولة لإثبات أن الدولة، في أي عهد، وضعت مصلحة الطبقة العاملة بعد مصلحة أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال، وفى نفس الوقت تبدأ الحاجة لتنظيم صفوف الجماهير في التزايد إذ لا سبيل لتحقيق أي مكاسب أو انتزاع أي حقوق إلا بنضالات جماهيرية منظمة ومرتبطة ببعضها، فالطبقة الحاكمة لا تغير نواياها. قد تكون أكثر بلاغة فتستخدم عبارات أخف حدة وكلمات ألطف لتفصح بها عن تلك النوايا، أما إذا كانت متدهورة الثقافة ركيكة اللغة فستجدها تلجأ لعبارة مثل “هتاكلوا مصر يعني؟”.