ضابط ومخبر وقاضي

“احنا في التزوير ماتقلقش.. ابقى وريه لسيادة الوزير.. مفيش مشكلة.. احنا تحت أمركم.. التزوير على ودنه”.
اللواء شاهين مساعد وزير الدفاع للشئون الدستورية والقانونية مازحا مع اللواء عباس كامل مدير مكتب عبد الفتاح السيسي.
مقتطف من تسريب هاتفي من مكتب عبدالفتاح السيسي قبل توليه منصب رئيس الجمهورية. التسريب عبارة عن 5 مكالمات تليفونية لقيادات بالمجلس العسكري والسيسي بحسب ما أعلنته قناة الجزيرة، ونقلا عن قناة “مكملين” المقربة من جماعة الإخوان المسلمين. جاء في التسريب اعتراف اللواء ممدوح شاهين باحتجاز الرئيس المعزول محمد مرسي في مبنى عسكري بأبي قير في الإسكندرية وتزوير مكان احتجازه عقب الإطاحة به في 3 يوليو 2013.
لا يمكن النظر إلى هذه التسريبات بنظرة مجردة عن جميع الأحداث المتلاحقة والتي تكاد في تسارعها تخنق الأنفاس، ولا يمكن النظر إليها هكذا بوضعها تسريبا يُعتبر الأخطر من نوعه (التسريبات الأولى كانت في مطلع أكتوبر 2013، لمقطع مصوّر للسيسي في اجتماع عام مع الضباط، يتلقى أسئلتهم، ثم موجة ثانية من التسريبات لحوار السيسي مع رئيس تحرير “المصري اليوم” ياسر رزق، في عدة مقاطع يمزح فيها السيسي مع رزق ويطلب منه عدم نشرها بالصحيفة). هذه التسريبات لا تؤكد فقط فساد وقذارة المؤسسة العسكرية، فلقد تجاوزنا هذه النقطة على مدار أكثر من 3 سنوات، فلم نرى ولم نعي هتاف “يسقط حُكم العسكر” سوى الآن وأكثر من أي وقت مضى. هذه التسريبات تؤكد أن ثلاثية الدولة المصرية (الشرطة – الجيش – القضاء) لا يمكن إصلاحها، أو حتى التعويل على أي شيء فيها.
الحديث المسرب لمكالمة هاتفية بين مدير مكتب السيسي وأحد “ترزية” التعديلات الدستورية الذي قام به المجلس العسكري في مارس 2011، اللواء شاهين، وحديثهم عن مدى تورط القضاء والشرطة في عملية تلفيق متكاملة الأركان لأحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين، الرئيس المعزول محمد مرسي، يؤكد شيئا واحدا أن حديثنا سينصب هذه المرة على ضابط ومخبر وقاضي.. الجيش والشرطة والقضاء.
لكني سأجد نفسي مضطرا في البداية إلى التأكيد مرة بعد مرة على أن الأزمة في الأساس لا تكمن في سطحية الموضوع حول إشكالية سجن محمد مرسي من عدمه، فنظام الإخوان، وفي مقدمتهم محمد مرسي، متورطين في أحداث الاتحادية والمقطم ومن قبلهم أحداث مجزرة بورسعيد الثانية، وليس كما جاء في سياق التهم الملفقة لهم من “التخابر مع جهات أجنبية” وفي مقدمتها حركة حماس، والذي يعتبر النظام المصري بداية من مبارك متهما في مثيلاتها. النظام لن يحاكم نفسه في تهم تتعلق مثلا بأحداث ستاد بورسعيد المتورط فيها كبار رجالات الداخلية والجيش، لكن كما يقولون في التفاصيل يكمن الشيطان، الشيطان هذه المرة أبى سوى أن يعلمنا كيف كانت الخطيئة بين ثلاثي أضواء الدولة المصرية.
ظهرت جمهورية الضباط في الأصل فى أعقاب الإطاحة بالنظام الملكي على يد القوات المسلحة المصرية فى عام 1952، وخصوصا بعد تثبيت جمال عبدالناصر رئيسا للبلاد عن طريق استفتاء شعبي عام 1956. وقد جرى نزع الصبغة العسكرية جزئيا عن مجلس الوزراء إلى حد كبير فى عهد خلفه أنور السادات في السبعينيات، واستمر هذا الاتجاه في ظل التهميش السياسي الظاهري للقوات المسلحة المصرية خلال رئاسة حسني مبارك، والتي بدأت في عام 1981، وهو رابع عسكري يشغل هذا المنصب منذ أن تعين اللواء محمد نجيب رئيسا للوزراء عام 1952، ثم رئيسا للجمهورية عام 1953. لم تَزل جمهورية الضباط يوما، بل توسعت بأشكال جديدة لتصبح الدعامة الأساسية لنظام مبارك القائم على المحسوبيات، إلى أن خرجت من ظلّه لتتولى السلطة الكاملة فى أوائل عام 2011.
يعتقد ضباط الجيش من ذوي الرتب العليا بأنهم خلقوا للدفاع عن تراب الوطن المقدس فقط في أعينهم، وبأنه لولاهم لأصبحت مدرعات الجيش الإسرائيلي الآن في التجمع الخامس.
من هذه النقطة يسير الضباط، أو فلنقل “جمهورية الضباط”، نافخي صدورهم من جملة الامتيازات والحصانة المتمثلة في القضاء العسكري “الشاكم” الأول والأخير للألسنة المعارضة، فجمهورية الضباط ترى نفسها فوق الجميع. في المقابل لم تكتفِ جمهورية الضباط بتلك الامتيازات أو بالبدل العسكرية المنمقة، فسيطروا على الوظائف الرئيسية في الدولة، مشكّلين بذلك الأغلبية الساحقة من كبار الموظفين الدبلوماسيين، ونسبة كبيرة من رؤساء ومديري وأعضاء مجالس الشركات الحكومية، كما شكلوا نسبة كبيرة جدا من الوزراء ووكلاء الوزراء، والمدراء العامين ومدراء الوزارات المختلفة، إضافة إلى السواد الأعظم من كبار العاملين والإداريين في الأجهزة الأمنية، فضلا عن نسبة كبيرة جدا من المناصب الرئيسية في مجال الثقافة والصحافة والإذاعة والتلفزيون، غير أن عدد المحافظين الذين يتم استقدامهم من القوات المسلحة يُخفي بشكل صارخ الحجم الحقيقي لتوغل المؤسسة العسكرية في الحكم، فالضباط المتقاعدون يشغلون نسبة أكبر من المناصب الثانوية، مثل نائب المحافظ، ومدير مكتب المحافظ، والأمين العام والأمين العام المساعد للمجلس المحلي في المحافظة.
لنوضح جملة الامتيازات التي تتمتع بها جمهورية الضباط، والتي لم يكتفِ العسكريون في مصر بما حققوه من مكاسب سياسية بعد انقلابهم على السلطة في 3 يوليو 2013، بل شرعوا سريعا في مد أركان إمبراطوريتهم الاقتصادية الأخطبوطية. في السطور القادمة، نرصد أهم الامتيازات الاقتصادية للجيش بعد الانقلاب سواء تلك التي حصلت عليها شركات الجيش من العقود الحكومية أو من تخصيص الأراضي أو الامتيازات الخاصة التي حصل عليها الجيش بوصفه أحد مؤسسات الدولة.
في نوفمبر 2013، أصدر الرئيس الموقت عدلي منصور قرارا يسمح للحكومة بالتخلي عن المناقصات وإسناد المشروعات لأي شركة في الحالات العاجلة، تبعه قرار آخر في 23 أبريل 2014، يحظر بموجبه الطعن من طرف ثالث على العقود التي تبرمها الحكومة مع أي طرف، مصريا كان أو أجنبيا، سواء أكانت تلك العقود متعلقة بالخصخصة أو ببيع أراضي الدولة أو بأعمال مقاولات أو غير ذلك. الأمر الذي وصفه المحللون بكونه خطوات لإضفاء الشرعية على عقود الإسناد المباشر التي تمنحها الحكومة والتي يعد المستفيد الأكبر منها هي شركات جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، والتي تحظى بنصيب الأسد من العقود الحكومية.
أما الدستور فقد عمل على تحقيق توازن بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان، إلا أنه وسًع الامتيازات الضخمة التي يحظى بها الجيش، باشتراط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على اختيار وزير الدفاع خلال فترتين رئاسيتين كاملتين من وقت التصديق على الدستور. ولا تشير المسودة إلى كيفية عزل وزير الدفاع أو مَن الذي يملك سلطة عزله، فمن امتيازات الطرق والأراضي إلى تطوير السيرك القومي.. أكثر من 20 امتيازا اقتصاديا للجيش المصري بعد انقلاب 3 يوليو.
بعد أن فقد الحزب الوطني الديمقراطي موقعه المهيمن في السلطة، أصبح الجيش هو القوة السياسية صاحبة القرار على الساحة المصرية. لكن حتى قبل ذلك، لم يكن القطاع العسكري مجرد جيش لكنه نظام سلطوي شامل يتدخل في جميع شئون المجتمع.
بل ينبغي الإشارة إلى أن الداخلية متورطة أيضا في الاعتداء على رجال القضاء في سوابق عديدة قبل خلع مبارك أهمها ما حدث في مذبحة القضاة عندما تعرض عدد من هؤلاء القضاة إلى السحل والإهانة ومنهم المستشار محمود حمزة على يد أجهزة الأمن، ثم اندفعت بعدها السلطة التنفيذية إلى منزلق تحويل بعض المستشارين وبينهم المستشاران هشام البسطويسي ومحمود مكي إلى التحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا، ثم بعد ذلك إلى اللجنة الصلاحية.
لكن حتى هذه المشاحنات “الهامشية” لم تمنع من تشابكات العلاقة بين القضاء والشرطة والجيش، فحتى أصابع اليد الواحد ليست على نفس الدرجة من التشابه، لكنها في النهاية تمثل يدا واحدة ينبغي لها ترك الخلافات والنظر إلى الأمام.
فحتى صعود نجم الأجهزة الأمنية فى المعركة ضد الإسلاميين أبان حكم المخلوع، والذي حول الأنظار عن المؤسسة العسكرية نوعا ما، لم يعني شيئا، لأن القوات المسلحة استمرت فى لعب دور لا غنى عنه في المحافظة على النظام، فالمتقاعدون العسكريون استمروا في شغل الوظائف فى جميع مستويات الحكم المحلي، وعملوا كذراع تنفيذية وأمنية موازية، ورجال القضاء ظلوا فاتحي الأفواه أمام انتخابات مجلس الشعب في 2010، عندما رأى الحزب الوطني الديمقراطي الحزب بأن إلغاء الإشراف القضائي الكامل على الإنتخابات لا يمس نزاهتها، أما الداخلية فقد ظلت الراعي الأول والأخير للنظام المصري، لم يختلف الأمر كثيرا لا قبل الثورة ولا بعد الثورة!
يتحدثون عن القضاء المستقل.. عن ماذا سيستقل القضاء؟ عن أجهزة الدولة ومؤسساتها، أم عن وزارة المالية التي يتقاضى رجال القضاء منها سنويا نحو 4.5 مليار جنيه سنويا؟
لقد أوضحت التسريبات الأخيرة وحديث اللواء شاهين بأن النائب العام أرسل المستشارين مصطفى خاطر وابراهيم صالح لتزوير أوراق قضية مرسي، بأن القضاء المصري قضاء مستقل عن باقي العصابة شأنه في ذلك شأن الجيش والشرطة، فهو يُعتبر أحد أفرع العصابة الحاكمة، وبالضرورة ينبغي أن نأخذه من ناحية أحد مراكز القوى وأعمدة الدولة المصرية.
لكن الشيئ الأكيد من وراء هذه التسريبات أن الدولة المصرية تطرح فكرة وجود مراكز للقوى بداخل الدولة، مراكز قوى تمثل فيها مؤسسة الرئاسة أحد الأوجه “الكرتونية” لها وما خفي كان أعظم. المعركة مستمرة ودعوات هدم الدولة المصرية ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد وليس على سبيل السخرية. فما خلق الله من داء إلا وله دواء، ودواء الدولة المصرية.. الهدم.