بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

كيف تخلق الرأسمالية أزماتها.. الهجرة وزوارق الموت مثالًا

تحوّل البحر المتوسط إلى مقبرة لأحلام الآلاف من البشر الهاربين من كوابيس الفقر والبطالة والنزاعات المسلحة في بلدانهم، وهي نتيجة حتمية لسياسات السوق الحرة والليبرالية الجديدة بالإضافة للتدخلات العسكرية والاحتلال الاقتصادي، مما أنتج دولا فقيرة مستَغلة يهرب منها السكان إلى الدول الغنية المستغِلة.

جاء حادث غرق مركب راح ضحيته أكثر من 800 مهاجر قرابة سواحل إيطاليا أواخر الشهر الماضي، ليفجر أزمة المهاجرين في وجه حكومات الاتحاد الأوروبي، وبذلك يرتفع عدد الضحايا من بداية العام الحالي ليتخطى 1750 (حوالي 30 ضعف عدد الضحايا لنفس الفترة من العام الماضي).

إذ أقرّت الأمم المتحدة بأن منطقة أوروبا أصبحت أكبر تجمع للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.

وبنظرة إلى أكثر الأماكن التي يخرج منها المهاجرون وجذور الأزمات التي لا تقع بمنأى عن الإمبريالية وحلفائها، فستكون أهم الأماكن هي ليبيا، ودول وسط وغرب إفريقيا والقرن الإفريقي، وسوريا.

ليبيا والبوابة الرئيسية من المهاجرين الأفريقيين إلى أوروبا
بالرجوع إلى ما قبل الربيع العربي، كانت ليبيا، ولا تزال، البوابة الرئيسية للمهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا، وهي الورقة التي استغلها القذافي للضغط على الاتحاد الأوروبي والحفاظ على علاقاته معهم والتي قامت في الأساس على تصدير النفط والعمل كشرطي حراسة للبحر المتوسط في استيعاب الأراضي الليبية للمهاجرين الإفريقيين من شتى الدول، في مقابل الحفاظ على بقاءه في السلطة وتخلي دول الاتحاد الأوروبي عن دورها المعهود في التدخل من أجل “حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان”.

وفي 17 من فبراير 2011 وبعد سقوط بن علي ومبارك انتفضت الجماهير الليبية ضد الدكتاتور القذافي الذي لم يدخر جهدا في قمع ثورة الشعب الليبي بالطائرات المقاتلة وقصف المدفعية؛ لتدخل الثورة في مرحلة جديدة وهي الثورة المسلحة ضد النظام، وهنا استشعرت  دول الاتحاد الأوروبي – حلفاء الديكتاتور السابقين – ومعهم الولايات المتحدة الخطر من تهديد الثورة الجماهيرية لمصالح النفط فقام حلف الناتو بضربة جوية ضد قوات القذافي تحت غطاء من مجلس الأمن وجامعة الدول العربية التي تضم في عضويتها الإمارات والسعودية في نفس الوقت الذي تغزو فيه قواتهما البحرين لقمع الانتفاضة الجماهيرية هناك.

الهدف من هذه الضربة أن تلعب الولايات المتحدة وحلفاؤها الدور المعهود في “حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان” بالإضافة لاحتواء الثورة المسلحة وسحب البساط من تحت قدميها وتحجيم أي تحركات جماهيرية جذرية من شأنها تهديد مصالح الإمبريالية المتمثلة في حقول البترول واستبدالها بإصلاحات سياسية تحافظ على المصالح القائمة للإمبريالية. ساعد ذلك على الحد من تشكيل سلطة ثورية قوية تعبر عن الحراك الثوري وتطلعات جماهير الشعب الليبي في التحرر.

ومع تراجع ثورات الربيع العربي وصعود موجات الثورات المضادة بقيادة دول مجلس التعاون الخليجي، قدمت الإمارات ومصر الدعم لخليفة حفتر، القائد العام للجيش الليبي، في عملية عسكرية سميت بـ “عملية الكرامة” هدفها سيطرة الجيش الليبي على مجريات الأمور وانضمام ليبيا لمعسكر الثورات العربية المضادة.

كل هذه العوامل السابقة ساهمت في تقسيم ليبيا إلى دويلات لتمثل انتعاشة لحركة المهاجرين القادمين من  إفريقيا جنوب الصحراء في ظل عدم الاستقرار الأمني والصراعات المسلحة.

إفريقيا وتاريخ من نهب الثروات والصراعات المسلحة
أما بالنسبة لدول إفريقيا في الغرب والوسط والقرن الإفريقي التي تعتبر ملعبا للشركات المتعددة الجنسيات فقد تحولت الحياة هناك إلى كابوس، فعلى الرغم من توافر الموارد الطبيعية من مياه، وبترول، وثروة معدنية ومعدل الأعمار الأقل بين كل القارات، تعتبر أفريقيا القارة الأعلى من حيث المجاعات والفقر وانتشار الأمراض والأوبئة؛ مما دفع الآلاف إلى قطع الآلاف من الأميال داخل الصحاري والغابات في ظروف غير آدمية للوصول إلى سواحل ليبيا حيث يستقلون مراكب الموت إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.

تاريخيا، كانت أفريقيا محط أنظار القوى الاستعمارية الكبرى نظرا لثرواتها الطبيعية الهائلة، ففي الشكل القديم للاستعمارية “الكولونيالية” سيطرت القوى الاستعمارية بالقوة العسكرية على أهم مناطق الثروات الطبيعية لتسخيرها لتدوير عجلة الثورة الصناعية في أوروبا وخلق تراكم رأسمالي.

تم تقسيم القارة بينهم كالكعكة، ووضعوا حدودا جغرافية بناءا على مصالح الاستعمار، مما أدى لتقسيم الكثير من القبائل والجماعات العرقية على أكثر من دولة أو وجود جماعات عرقية بينها تاريخ من العداء داخل حدود دولة واحدة،  وهو ما يعتبر نواة للصراعات المسلحة والحروب الأهلية التي تثقل كاهل القارة حتى اليوم.

الآن، وفي القرن الحادي والعشرين، وقد انتهى عصر الاستعمار الكولينالي ودخل عصر جديد من الاستعمار وهو الإمبريالية حيث السيطرة الاقتصادية، تعمل الشركات متعددة الجنسيات في مجالات التعدين والبترول والزراعة وتعمل هذه الشركات على نهب ممنهج للموارد والثروات الطبيعية في أفريقيا.

تعتمد هذه الشركات على شبكة علاقات تتكون من رجال أعمال وأعضاء حكومات أجنبية ومسئولين أفارقة يتم شراء ولائهم مقابل حقائب من الدولارات بالإضافة للشركات العسكرية الخاصة، وهي مجموعة من المرتزقة والجنود السابقين من جنسيات مختلفة، يقومون بتأمين مصالح هذه الشركات ومسئوليها وحلفائهم من المسئولين الحكوميين في الدول الأفريقية، وتتم معظم صفقات التعدين والبترول بشكل سري فالأمر ليس سوى عمليات سرقة، فمن الضروري أن تتم بمنتهى السرية.

وبسبب فقر بعض الدول في الموارد الزراعية تتجه لشراء أراض في دول أفريقية وتقوم بزراعتها بواسطة أحدث التكنولوجيا لتوفير الأمن الغذائي، على سبيل المثال بسبب نقصان مخزون السعودية من المياه الجوفية قامت بالاستثمار الزراعي في أثيوبيا مما ساهم في تحقيق السعودية للاكتفاء من القمح في حين تعاني أثيوبيا من مجاعة!

سوريا وبشار.. 4 أعوام من جرائم الحرب
أما الثورة السورية التي تتعرض منذ 4 أعوام إلى جرائم وحشية من قبل قوات الأسد وتدخلات من قوى إقليمية ودولية نتج عن ذلك تدمير البنية التحتية وأصبحت الحياة في سوريا شبه مستحيلة بين مطرقة نقص الغذاء والخدمات وسندان قصف براميل بشار المتفجرة، وتخاذل الدول العربية في استقبال اللاجئين السوريين؛ مما دفع الآلاف إلى رحلات زوارق الموت في البحر المتوسط عن طريق تركيا.

اليمين المتطرف في أوروبا ومعاداة المهاجرين
على الجانب الآخر وفي أوروبا، فقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى انتعاش تيارات اليمين المتطرف المعروفة بمعاداتها للمهاجرين، واستخدام النعرات القومية ضدهم -الأمر أشبه بالخطاب الذي يردده إعلام الثورة المضادة في مصر ضد اللاجئين السوريين- واتهامها الدائم بأن تدفق المهاجرين على أوروبا هو السبب في الأزمة الاقتصادية والبطالة، بل تتزايد الدعاوى العنصرية لترك المهاجرين يغرقون في البحر ليكونوا عبرة لغيرهم!

اليمين المتطرف نجح في استغلال حوادث، كالهجوم على شارل إيبدو، في تأجيج مشاعر الكراهية ضد المهاجرين من المسلمين، ويعملون على استغلال ذلك من أجل تحقيق مكاسب انتخابية.

على سبيل المثال، نجح حزب الجبهة الوطنية المعادي للمهاجرين في فرنسا في الفوز بـ 25% من مقاعد البرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى تحقيق نجاحات في الانتخابات المحلية، وتتزايد التخوفات من فوزه بالانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها في 2017، وهو ما يعد كابوسا على الأقليات المهاجرة في فرنسا.

أما في ألمانيا، أكثر الدول الأوروبية من حيث استقبال اللاجئين والمهاجرين، والكثير منهم سوريون، تنشط حركة “أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب” المعروفة باسم “بيجيدا” والتي تعادي الأقليات المسلمة في أوروبا وتدعو إلى طردهم بحجة الخوف على المجتمع من “الإرهاب وتغيير هويته”.

بدأت حركة “بيجيدا” بتنظيم مسيرات معادية للمسلمين لم يتخطى عددها بعض المئات في البداية، قبل أن تتخطى حاجز الـ 20 ألف شخص عقب أحداث صحيفة شارل إيبدو في فرنسا، ولم يتوقف الأمر على ذلك بل امتد للاعتداءات الجسدية بالضرب والمضايقات وصولا إلى قيام مجهولين أكثر من مرة بإشعال النيران في مراكز إيواء لاجئين. ومن المعروف أن الحركة تضم في أعضائها نازيون جدد وأشخاص معروفون بإثارة الشغب.

الحكومات الأوروبية وتخاذل واضح  
أما موقف الحكومات الأوروبية من المهاجرين في البحر المتوسط فكان متخاذلا للغاية، فبعد أن تكفلت الحكومة الإيطالية بعملية “ماري نوسوترم”(بحرنا) التي تقترب ميزانيتها من الـ 9 مليون يورو شهريا والتي تقول الحكومة الإيطالية أنها نجحت في إنقاذ ما يزيد عن 100 ألف مهاجر منذ انطلاقها في أكتوبر 2013، تم إلغائها بحجة وجود مشاكل مالية واستُبدلت بعملية “ترايتون” التي تكفل بها الاتحاد الأوروبي وتبلغ تكلفتها حوالي ثلث تكلفة سابقتها “ماري نوستروم”.

وتعتبر عملية “ترايتون” عملية مراقبة للحدود فقط وتعمل داخل المياه الإقليمية الإيطالية، على عكس “ماري نوستروم”، التي تعتبر عملية تفتيش وإنقاذ وتمتد إلى قرابة السواحل الليبية.

وتنادي بعض الأصوات بالتدخل العسكري لمنع الزوارق من الخروج من سواحل ليبيا واصفة إياها بأنها عبودية القرن الحادي والعشرين.

لكن كل هذه الحلول لن تقتلع جذور الأزمة؛ لأنها في الحقيقة لا تعمل على ذلك بل تعمل على إبعاد الأزمة عن أوروبا قدر الإمكان.

وبالطبع لا يمكن فصل الدوافع الحقيقة لأزمة اللاجئين عن المنظومة العالمية. إن آلية عمل الرأسمالية والسوق الحرة لا تدور بدون المنافسة حيث الغني يبتلع الفقير، فالشكل الحالي للنظام العالمي هو الذي يحافظ على بقاء أفريقيا وغيرها في حالة حروب وصراعات من أجل ضمان  امتصاص ثرواتها حتى آخر قطرة بترول، لتحقيق التراكم والأرباح في أوروبا وأمريكا.


إن حل أزمة المهاجرين، وغيرها من الأزمات التي أنتجتها الرأسمالية، لن يتم بدون هدم النظام العالمي الذي يقوم على الاستغلال ومراكمة الأرباح، وإنشاء نظام جديد على أنقاضه حيث البشر قبل الأرباح.