لماذا يستمرون في قتلنا؟

تظل مذبحة رابعة العدوية، في الرابع عشر من أغسطس 2013، أكبر جريمة في تاريخ جرائم الدولة الحديثة في مصر. تضارب أرقام عدد الضحايا ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف قتيل، وغياب حصر حقيقي للمعتقلين والمختفين، إنما يوضحان مدى إجرام هذه الدولة. كانت المذبحة بمثابة إعلان واضح وصريح عن مضمون دولة 3 يوليو، دولة لا يمكن قياسها علة دولة مبارك، ولا يمكن اعتبارها امتدادًا لسياساته، هذه دولة أكثر وحشية بما لا يُقاس.
دولة عنوانها الإخفاء القسري للمعارضين وتصفيتهم جسديًا، بل في بعض الأحيان وصل الأمر إلى إلقاء بعضهم من شرفات منازلهم لا مجرد تقييدهم وإطلاق النار عليهم. دولة تحارب كل أطياف المجتمع المدني، بدءًا من الحركات الثورية والمبادرات الحقوقية التي تعارض سياسات الدولة على طول الخط، انتهاءً بالأحزاب السياسية التي وقفت من قبل في صف الدولة وكانت أقوي وأشرس المدافعين عنها. بل أن هذه الدولة أيضًا تحارب قطاع الأعمال الخاص، وتحاول فرض هيمنتها الاقتصادية قبل السياسية على رجال الأعمال وأصحاب الأعمال المتوسطة، تارة عن طريق استخدام العصا الغليظة، متمثلةً في القضاء والشرطة، كالقبض على أحد كبار رجال الأعمال بعد تصريحات له ينتقد فيها – على استحياء – ممارسات اقتصادية للدولة، وتارة عن طريق تأسيس شركات منافسة تسيطر على السوق خاضعة للجهات السيادية قادرة على احتكار جزء كبير من السوق المحلي.
دولة ذابت فيها تمامًا الفواصل بين الجهاز التشريعي والتنفيذي والقضائي، فمجلس الشعب الذي بدأ دوره انعقاده منذ أقل من شهر، لم يتوانى أعضاؤه عن التصريح بأن دور المجلس هو توسيع صلاحيات الرئيس الضخمة الممنوحه له بحسب الدستور الأخير، بل أن المتابع لجلسات المجلس سيجد أنه يوافق على قوانين صدرت في عهدي عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي، البالغ عددها 341 قانونًا، دون مناقشة. مجلس يعلم علم اليقين أنه ديكور تكميلي لمشهد عبثي يخرجه الأمن الوطني والمخابرات العامة. هذا المشهد مستمر طالما احتاجه النظام ليحفظ ماء وجهه أمام حلفائه الدوليين.
هذه الدولة لا يتورع قضاؤها عن حبس عشرات الآلاف في السجون بتهم نصفها ملفَّقة، والنصف الآخر متعلق بقانون التظاهر الديكتاتوري الذي يغلق أي منفذ للتعبير والاعتراض. أما القضاء، فلا يجد غضاضه في حبس المواطنين احتياطيًا لمدد تصل إلى ثلاث سنوات دون حكم أو حتى توجيه اتهام واحد. وعلى الجانب الآخر، نجد “العدالة” الناجزة في أحكام إعدام لمئات من الأشخاص من أول جلسة، لقاضٍ صرَّح أكثر من مرة بكراهيته لثورة 25 يناير وكل ما يمت لها بصلة، ثم يتبسمل ويتحوقل ويخطب عن أحكام المحكمة واصفًا إياها بـ”عنوان الحقيقة”.
على الرغم من أن هذه الدولة انتصرت تمامًا على الحراك ثوري، بل يمكن القول دون مبالغة أن ثورة يناير لم يبتق لنا منها الآن من أثرها إلا ما يبقي في قلوب وعقول كل من آمن بها، إلا أن هذه الدولة لا تزال تمارس أقصى درجات التنكيل والتشويه لأي شكل من أشكال المعارضة، التي تنحسر تمامًا في الوقت الراهن في محاولة الدفاع عن الحريات السياسية، والدفاع عن المعتقلين ومحاولات توثيق التعذيب الوحشي في السجون، والاختفاء القسري والاحتجاز غير القانوني. هذه الدولة تتعامل بأقصى درجات العنف والقمع مع أي صوت يخالف أوبريت الاصطفاف الوطني والتغني بعبقريه القائد الرئيس، على الرغم من محدوديه تأثير هذا الصوت.
هذا القمع الشديد والمتواصل من قبل الدولة يدفعنا دفعًا لسؤال واحد، لماذا؟ هم لا حاجه بهم إلى كل هذا، فيكفي أن تُعرض على النيابة والقضاء في قضيه عنوانها التظاهر أو التجمهر أو أي شكل من أشكال إبداء المعارضة، حتى تجد نفسك في أحد السجون شديدة الحراسة بما يتبعه من تعذيب وانتهاك لحقوق الإنسان. إذًا ما هو العائد من هذا القمع وهذا الاستعراض الدائم للقوة؟
لا يمكن تفسير هذا الأداء باعتباره خوف من حراك شعبي أو من الثورة، ولا يمكن أيضًا اعتباره جزءًا من اهتراء مؤسسات الدولة وثقافة عدم المحاسبة والمساءلة، هذا عداء مبدأي لكل ما تمثله ثورة يناير ومحاولة طمس أي أثر لها، عداء مستمر في الانتقام من كل ما له صلة بثورة يناير.
25 يناير 2011 كان بداية إدراك قطاعات واسعة من الجماهير بأن لهم قوة على الأرض قادرة على زلزلة أساسات الدولة، وعلى فرض أحلامهم وطموحاتهم على الحياة السياسية بشكل عام. كان يناير درسًا للجميع، الدولة وأجهزتها، وحلفاء النظام الخارجيين، وللجماهير نفسها التي صنعت الثورة، درسًا سيظل مفاده أن قطاعات واسعة من الجماهير قادرة على الصمود أمام ذراع النظام الأمنية والانتصار عليها، وأن هذه القطاعات لديها القدرة على إجبار الدولة على تنازلات ضخمة، وأن الحراك الشعبي قادر على محاكمة رموز النظام، وقادرعلى تحطيم كل ما بناه النظام على مدار عقود في شهور. بل كانت هناك إشارات واضحة على قدرة الجماهير على إسقاط النظام بكامله، واجتثاثه من جذوره، لكن ذلك يتطلب تنظيم وتوجيه سياسي كان غائبًا في 2011.
هذا هو ما يقاتل النظام ضده، الرعب والمارد الذي يحاول تحطيمه كل يوم. الأفكار والإمكانيات التي فجرها يناير هي العدو الأساسي لهذا النظام الآن. العدالة الاجتماعية، والحريات السياسية، والحريات الشخصية وحرية تشكيل المستقبل كلها كانت قبل يناير أفكار تُناقش، ربما في غرف مغلقة وقاعات محاضرات. بعد يناير، لا يكاد يخلو حديث سياسي من هذه الأفكار، مع أو ضد، من كل أطياف المجتمع والطبقات الاجتماعية. يناير كانت بمثابه إعلان عن ميلاد كائن جديد، لم يكن له مكان في المشهد من قبل، كائن كان له قدرة الحلم والأمل والتحدي من أجل مسح ما كان، وبناء ما قد يكون. سيستمر النظام في غيلائه وتغوله، محاولًا قطع الطريق على أية بذرة تُزرع من أجل إيجاد طريق للعودة، بدايةً من تفكيك اتحاد طلاب مصر المُنتخب، الذي فوجئ فيه بكلمة الطلاب التي أعلت راية يناير على حساب المجموعات المدعومة من النظام، إلى اعتقال عضو نقابة يناضل من أجل حق المحبوسين في الرعايه الصحية للمحتجزين في السجون بتهمة المشاركة في 25 يناير، إلى صحفي وباحث يحاول نقل حقيقة المجازر التي تحدث في حق المواطنين في سيناء.
سيظل القمع والإرهاب هو الملمح الأساسي للنظام، حتي يرسخ فكرة أن النتيجة الحتمية للخروج عليه هي الهزيمة، وأن دائمًا ما تنتصر الدولة حتى وإن تراجعت قليلًا، وعندما تتقدم سوف تكون أقسى من أقسى كوابيسنا. سيظل قمع الدولة وإرهابها طال الزمان أو قصر، حتى تثبت لنا أنها قادرة على لم شتاتها والانقضاض علينا وتحطيم كل ما عملنا من أجله. كل هذه المغالاة في القمع والعنف الوحشي للدولة إنما لترسيخ ذكرى لدى الجميع أن مصير كل من يحاول التظاهر أو الاعتصام هو نفس المصير الذي لاقاه معتصمو رابعة أو متظاهرو رمسيس ومسجد الفتح وغيرهم، فقط لتصبح ذاكرة التعذيب والقهر والامتهان هي المسيطرة على أذهان الجميع، ليدركوا أن لا عدالة أمام محكمة ولا يوجد من سيتضامن معه. هذا النظام يقاتل من أجل ترسيخ فكرة أن تضامنكم وتطلعاتكم، بمعني آخر ثورتكم، ثمنها دماؤكم.
أتي يناير هذا العام وقد خبى ضوء مشكاته، ولكن تظل دروسه حاضرة كل يوم. كل يوم يزداد قمع وإرهاب الدولة، كل يوم يسرق فيه الأغنياء وسياسيو النظام قوت الفقراء والكادحين. كل يوم يمت فيه حلم وأمل بغد نابع من قلب الإيمان بحق الإنسان في الحياة بمعناها الواسع، كل يوم هو درس لكل من آمن بمبادئ الثورة، كيف ولماذا هُزمنا؟ وما نتيجة هزيمتنا؟ وكيف نستعد للمستقبل؟ هذه هي الأسئلة التي على جميع من شارك في ثورة يناير ومراحلها المختلفة الاجتهاد من أجل الإجابة عليها.