“صبَّح” على القضاة ونواب البرلمان

موجة غضب تجتاح الشارع المصرى في الفترة الأخيرة، بدايةً من تظاهرات الأولتراس المطالبين بالتحقيق في مجزرتي بورسعيد والدفاع الجوي ومحاكمة قتلة الشهداء، مرورًا باحتجاجات الأطباء لأجل كرامتهم بعد تعرضهم للإهانة والتعدي في عدة وقائع أشهرها واقعة المطرية، ومن أجل محاكمة كل من أهان الاطباء. هتفوا “الداخلية بلطجية” في جمعية عمومية غير مسبوقة من حيث العدد والأهداف في تاريخ نقابة الأطباء. تلاها غضب أهالي منطقة الدرب الأحمر بعد مقتل أحد أبناء المنطقة على يد أمين شرطة، ومحاصرتهم لمديرية الأمن وتزايد الأعداد ورفعهم شعار “مش عاوزين داخلية”.
يتزامن ذلك مع تبرئة قتلة الشهيدين سيد بلال وشيماء الصباغ، مما يجعل الشعب في حالة غليان وغضب ويرتعد النظام خوفا من اجواء الغضب التى يراها مشابهة لاجواء ثورة يناير والتى قد تطيح به الكامل اذا ادرك الجماهير عدوهم الحقيقي المتمثل في السيسي قائد الثورة المضادة ونظامه الديكتاتورى الفاسد.
يدرك النظام جيدًا خطورة تلك الاحتجاجات المتفرقة، ومدى تأثيرها عليه عند انتشارها من نقابة لأخرى، ومن فئة لأخرى حتى تشمل أعدادًا وقطاعات كبيرة من المطحونين والمقهورين، متوحدين ضده مرة اخرى. فاتجه لاسترضاء المحتجين واحتواء غضبهم، فتارة يدعو الأولتراس للاحتماع معهم والنقاش حول مطالبهم، وتارة أخرى يوجه الاعتذارات لأهالي شهيد المطرية ويتعهد بالتحقيق وتقديم الجاني للمحاكمة، منتهجًا سياسة “بص العصفورة” ليصرف الشعب عن مطالبه.
ويستخدم كارت النزعة الوطنية الذي لطالما استخدمته الحكومات ضد الطبقات الفقيرة والوسطى من الشعب، فالوطن للأغنياء والوطنية للفقراء، فيبدأ السيسي وإعلامه يروجان لمدى الأزمة وعجز الموازنة في ميزانية الدولة، وأن الدولة على مشارف الانهيار المادي تحت وطأة الديون وتكاليف المشاريع الضخمة التي تم بناؤها، والتي لم تجلب مليمًا حتى الآن، ليقنع الشعب بالتخلي عن مطالبه المشروعة تحت “شعارات المصلحة العامة” و”نبذ المطالب الفئوية” و”التضحية لأجل مصر”.
بالطبع تلك المصلحة العامة المقصود بها هو مصلحة الرئيس وحكومته وأجهزة دولته وكبار رجال الدولة، وليس الشعب المطحون. بينما كان النظام منذ أشهر سابقة يزيد مرتبات العسكريين ومعاشاتهم بنسب تصل إلى 25%، ويزيد من الامتيازات التي يحصلون عليها مرة تلو الأخرى، فيما يوجَّه خطابه للشعب قائلًا: “مش قادر اديك”، وللعمال: “هتاكلوا مصر يعني؟”.
تعد هذه التناقضات من سمات النظام الأساسية وهي ما تجعل خير البلاد وثرواتها للأقلية، والصبر والتضحية وترديد الشعارات الرنانة والعاطفية للأغلبية. وها هو التاريخ يعيد نفسه، فقد صرح السيسي بمنتهى التبجح أنه سيتم تحقيق نهضة شاملة في 2063! فلِمَ إذن لا ينتظر العسكريون والقضاة ونواب البرلمان والإعلاميون اللامعون معنا حتى ذاك التاريخ.
في يناير الماضي، زادت مرتبات القضاة 5 آلاف جنيه، تحت اسم جهود ذاتية أسوةً بقضاء مجلس الدولة. وفي نفس الفترة، تُدرس زيادة مرتباتهم 700 جنيه، وجدير بالذكر أن في يونيو الماضي قد زادت مرتبات القضاة الأساسية والحوافز ومكافآت التميز الذاتي والبدل الصحي بنسبة 30 %، ومازالت دراسة رفع الرواتب والامتيازات مستمرة!
وفي الأسبوع الماضي، استُحدِثَت مادة في اللائحة الداخلية لمجلس النواب، رقمها 430، تنص على تقاضي نائب البرلمان مكافأة شهرية تقدر بـ15 ألف جنيه تُستَحق من تاريخ حلف اليمين، وتزداد بنسبة 7% سنويًا، ولا يجوز التنازل عنها أو الحجز عليها، وتكون معفاة من جميع أنواع الضرائب والرسوم، ليصل إجمالي المكافآت التي يحصل عليها أعضاء مجلس النواب جميعًا إلى 90 مليون جنيه سنويًا! إضافةً إلى بدلات الانتقال والعلاج والنفقات المعيشية والسيارات المخصصة لنقلهم من مكان لآخر. ومن اللافت للنظر أن كل هذه الامتيازات والزيادات تخص أعضاء نواب البرلمان الذين يعدوا في غالبيتهم من الأغنياء، حيث تصل تكاليف الدعاية الانتخابية للمرشح الواحد لملايين الجنيهات حتى بلوغه قبة البرلمان.
وفي ظل هذه الأجواء، نجد السيسي يطالب المواطن البسيط بالإنفاق على الدولة، بدايةً من دعوته للتبرع لصندوق “تحيا مصر”، مرورًا بـ”التصبيح على مصر بجنيه”، فيعتمد السيسي في خططه “للتنمية” على مرتبات المواطنين الضئيلة التي لا تصلها زيادات أو مكافآت أو امتيازات، لصالح رجال الدولة. فالمواطن هنا إذن مُطالَب بدفع رواتب القضاء والجيش والشرطة ونواب البرلمان وتمويل المشاريع الوهمية حتى 2063 القادم.
إن تحسين الخدمات الأساسية المُقدَّمة للمواطنين، مثل التأمين الصحي والتعليم والتوظيف والحفاظ على الأمن، وغيرها من الحقوق، تحتل المراتب الأخيرة – إن كانت موجودة أصلًا – في قائمة أولويات النظام. فالأولوية الأهم هي بقاؤه والحفاظ على أركانه ومعاونيه وتشتيت الشعب عن أي مسار للمطالبة بحقوقه وحقه في الحياة الكريمة.