ما يثيره اتهام البلشي من تساؤلات

“النقابة مؤسسة من مؤسسات الدولة” هي العبارة المتكررة على لسان كل من يدعي الحكمة من أعضاء نقابة الصحفيين في مواجهة زميل لهم يبدو عليه إمارات الغضب من انتهاكات الدولة لحرية الصحافة وللحقوق الأساسية للصحفيين، فيما يتعلق بمزاولة المهنة، وصولًا إلى الحريات الأساسية كبشر بما فيها حق الحياة أصلًا، في ظل حالات متكررة لحرمان الصحفيين المحبوسين من الدواء.
تشير العبارة السابقة إلى حدود مُتخيَّلة في ذهن هؤلاء “الحكماء” لمدى قدرة النقابة على رفع صوتها في مواجهة الدولة دفاعًا عن تلك الحقوق، بدعوى أن ثمة قيود لا يعيب النقابة الالتزام بها كمؤسسة من مؤسسات الدولة تلك.
كان جمعًا ليس كبيرًا من الصحفيين قد تجمهروا خارج غرفة اجتماع مجلس نقابة الصحفيين اليوم في محاولة للضغط عليه لاتخاذ موقف قوي من البلاغ المقدم من وزارة الداخلية ضد عضو مجلس النقابة خالد البلشي. وفي خلفية المشهد كان صدى العبارة السابقة يتردد في أرجاء النقابة في مواجهة مطالبات هذا الجمع بتجميد احتفال النقابة باليوبيل الماسي لتأسيسها.
أثمر ضغط الصحفيين بالفعل بيانًا لوَّح فيه المجلس الحالي للمرة الأولى ربما باتهام جهاز الدولة بالوقوف خلف القمع الذي تواجهه الصحافة، لكن لم يثمر على ما يبدو أي جديد فيما يتعلق بالتحلل من “التزام” النقابة برعاية رئيس الجمهورية – وهو المسئول الأول عن هذه الانتهاكات أصلًا – لاحتفال اليوبيل الماسي.
للوهلة الأولى، ما من تفسير لهذا الالتزام الذي قيَّدت به النقابة نفسها، إلا تلك العبارة التي تتردد بلا توقف تقريبًا من قِبَل أعضاء النقابة المحافظين في مواجهة كل انتقاد يرفعه صحفي في مواجهة الدولة مطالبًا بتدخل النقابة. ففي الوقت الذي يبدو فيه التراجع عن دعوة السيسي لرعاية حفل اليوبيل الماسي مستحيلًا تقريبًا، ثمة تساؤل يطفو على السطح في المقابل حول الداعي أصلًا لإطلاق تلك الدعوة من البداية.
واقع الأمر أن الداعي كان ظن أعضاء في مجلس النقابة أن تلك المبادرة من قبلهم قد تؤدي إلى” تنازلات” يقدمها السيسي ربما يكون من بينها إطلاق سراح “أسرى” النقابة في سجونه. وربما يكون فك أسر أولئك غاية نبيلة للحد الذي تبدو في سبيلها كل وسيلة مبررة، لكن ثمة وسيلة أخرى بدا أنها لم تخطر في بال أعضاء المجلس، وهي تعليق الاحتفال برمته من البداية أصلا لا احتجاجًا على ما نال البلشي من وزارة الداخلية الآن، بل ما نال أعضاء النقابة والمهنة نفسها من تنكيل على يد النظام.
ما من شيء يضمن للنقابة نجاح مسعى تعليق الاحتفال طبعًا، لكن ما من شيء يضمن في المقابل أن ينجح المسعى الأول كذلك، حتى لو كان أعضاء في المجلس قد حصلوا على وعود مسبقة من السيسي أو مقربين منه، بل الأرجح الآن ألا ينجح هذا المسعى تبعًا لمقدمات من قبيل تقديم بلاغ ضد عضو في المجلس للمرة الأولى في تاريخ النقابة.
وبما أن رد فعل السلطة على هذا المسعى أو ذاك ليس حتميًا، فما من تفسير لميل المجلس نحو” التودد” بدلًا من “الاحتجاج” إلا هيمنة مفهوم النقابة كمؤسسة من مؤسسات الدولة على وعي أعضاء المجلس – وهم متباينين إلى حدٍ ما في اتجاهاتهم. هذه العبارة مختلقة تمامًا ولا أصل لها قانوني أو سياسي على الإطلاق.
النقابات ليست مؤسسات تابعة للدولة، النقابات عمومًا هي آلية أصحاب المهنة الواحدة للدفاع عن المصالح المشتركة في مواجهة صاحب العمل في الأساس، والدولة من خلفه، بقدر ما قد تنحاز الدولة لصالحه. أما في مصر فالدولة في كثير من الأحيان هي صاحب العمل أصلًا، كما هو حال المؤسسات الصحفية “القومية” المملوكة للدولة، وهو ما يجعل الدولة صاحبة مصلحة مباشرة في مواجهة الصحفيين، بخلاف انتهاكاتها بحقهم في سياق عدائها للحريات العامة عمومًا.
وفي المقابل، فنقابة الصحفيين كغيرها من النقابات “ليست حزبًا سياسيًا معارضًا”، وهي عبارة أخرى رائجة بشدة في النقابة أيضًا. هذه العبارة صحيحة فعلًا، فالنقابة لا يجب إلا أن تعبر عن المصالح المشتركة لأبناء المهنة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، لكنها كذلك ليست حزبًا سياسيًا مؤيدًا للنظام بكل تأكيد، فأي مبرر إذن لدعوتها للرئيس لـ”رعاية” احتفالها باليوبيل الماسي؟