الخريطة السياسية تتغير
مقاومة نظام الثورة المضادة: فرص وتحديات

توضح أحداث الأسابيع الست الماضية كم نحن في مرحلة معقدة ومليئة بالتناقضات في مسيرة المواجهة مع نظام الثورة المضادة. فمن جانب تتسم سياسات النظام بدرجة غير مسبوقة من الوضوح الطبقي والسياسي، سواء فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية أو الدور الإقليمي أو التبعية للإمبريالية والصهيونية.
سياسات النظام
على مستوى السياسة الاقتصادية، يتبنى النظام ليبرالية جديدة متطرفة تعتمد على إلغاء الدعم، وتحرير الأسعار، وتقليص الخدمات والنفقات العامة، وتخفيض الأجور الحقيقية من خلال تخفيض قيمة الجنيه. من الجانب الآخر يعتمد النظام كليًا على تدفق المنح والقروض من الخليج والدول الصناعية الكبرى، ويُدخِل البلاد في دوامة من الديون لتمويل المشاريع الكبرى وتسليح الجيش، وهذه الدوامة ستعني عقودًا من التقشف والفقر للطبقة العاملة والموظفين الذين سيُجبَرون على تسديد هذه الديون وفوائدها.
أما الجانب الآخر من الوضوح الطبقي والسياسي فيتعلق بالدور الإقليمي للنظام، حيث يثبت دوره كحليف أصغر للسعودية (زيارة الملك وهدية الجزيرتين نموذج غير مسبوق على ذلك)، وحليف استراتيجي للصهاينة (تطويق وحصار الشعب الفلسطيني ومقاومته)، بل والإعلان عن توجه نحو توطيد العلاقات مع الصهاينة. والجانب الآخر للسياسة الخارجية هو دور النظام المصري والجيش المصري في خدمة المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة، والمرتكزة الآن على محاربة “الإرهاب” وتطويق ووقف توسع أزمة اللاجئين. والدور في هذا المجال يشمل سيناء والبحر المتوسط وليبيا.
وبالطبع تؤدي هذه التوليفة من السياسات الداخلية والخارجية إلى صعود موجات متتالية من الغضب الجماهيري، تجاوزت منذ فترة حدود المعارضة الإخوانية للانقلاب، وبدأت في تخطي حواجز الخوف التي خلقها القمع الدموي لكل أشكال المعارضة.
هذا الهجوم الطبقي والسياسي والأيديولوجي غير المسبوق من قبل الدولة العسكرية والطبقة الحاكمة على مصالح الغالبية العظمى من الشعب المصري، باستخدام الجيش والداخلية وكافة الأجهزة الأمنية التابعة لهما، إلى جانب القضاء والإعلام وبرلمان المخابرات وأمن الدولة، تسبب في إحداث عدد من الشروخ والتغيرات في الخريطة السياسية في مصر.
تغيرات هامة
أول هذه التغيرات هو أن التبرير الأيديولوجي للهجوم، وهو مواجهة خطر الإخوان، لم يعد يجدي. الإخوان في أضعف مراحلهم منذ الخمسينات، وقد دفعهم القمع والضربات الأمنية من جانب، والانشقاقات والتمزقات الداخلية من جانب آخر، إلى حالة من الشلل والتراجع يبدو أنها ستطول، والأهم من ذلك أن ذلك أصبح واضحًا للجماهير. هذا يعني أن فزاعة الإخوان لم تعد بالمرة ما كانت عليه منذ عامان، حتى لقطاعات مثل الطبقة الوسطى القبطية.
التغيير الثاني يتعلق بما طرأ على ما يمكن تسميته بـ”تحالف ٣٠ يونيو”، حيث ضعف العدو المشترك لهم – أي الإخوان – من جانب، ومن جانب آخر الهجوم الهستيري من قبل الأجهزة الأمنية على كافة أشكال وقطاعات المعارضة والاحتجاج، بالإضافة إلى التعبير المباشر والفج عن توجهات النظام الإقليمية والطبقية الداخلية، كل تلك العوامل دفعت بقطاع واسع نسبيًا من داعمي الانقلاب إلى صفوف المعارضة، بالطبع بدرجات متفاوتة من التردد والانتهازية، ولكن بدون شك أصبح قبول سياسات السيسي ونظامه أصعب كثيرًا مما كان عليه في لحظات الحسم في ٢٠١٣.
أما التغير الثالث، وهو أيضًا نتاج لكل ما سبق ذكره، فهو توسع الفجوات والخلافات بين مختلف أجنحة وأجهزة النظام نفسه، بين أولئك الذين يريدون توسيع وتعميق شبه دائم للقمع مهما كانت الأثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين هؤلاء الذين يرون أن الأوان قد حان لتخفيف الهجوم ولدرجة من الاستيعاب، بل ربما حتى للمصالحة خوفًا من الدفع نحو موجات ثورية جديدة أكثر عمقًا وقوة، وربما عنف من كل ما سبق.
التغير الأهم بالنسبة لنا، والمرتبط بالتأكيد بكل ما سبق، فهو تطور الحركات الاحتجاجية. فقد شهدنا موجات متتالية من الاحتجاج الاجتماعي والديمقراطي والسياسي، بدايةً بمظاهرات الموظفين ضد قانون الخدمة الوطنية، مرورًا بمظاهرات جماهيرية ضد همجية الشرطة، ووقفات الأطباء وتجمعات الألتراس، حتى وصلنا لنقطة تداخلت فيها المعارضة السياسية بالتظاهر الاحتجاجي حول قضية الجزر خلال أبريل ٢٠١٦.
رؤيتنا
ولعل تعقيد المشهد وتعدد المسارات وعمق الأزمة يفسرون حالة السيولة السياسية الحالية والتحولات والتطورات المتلاحقة. فمن مظاهرات كبيرة وواعدة عبَّرت عن جبهة واسعة من القوى المعارضة الجذرية والإصلاحية، بدت للكثيرين وكأنها بداية لحراك سياسي واعد، إلى موجات واسعة من الاعتقال والتهديد والقمع والأحكام والغرامات عطلت الحركة وحولت الكثيرين من تفاؤل مبالغ فيه إلى العودة إلى مربع الإحباط واليأس، أو على الأقل حالة من التخبط بين التفاؤل والتشاؤم طبقًا لتطور الأحداث المتعاقبة.
هنا يصبح الوضوح السياسي والوصول لرؤية متماسكة حول وضع الحراك السياسي والاجتماعي وسبل وآفاق تطويرهما، مسألة شديدة الأهمية. ما تثبته لنا التطورات حتى الآن يمكن تلخيصه في تصور حركة الاشتراكيين الثوريين في النقاط التالية:
١- نظام السيسي مأزوم سياسيًا واقتصاديًا وأيديولوجيًا. فهو نظام “طوارئ” قائم على ثورة مضادة لا يمكن أن يخلق حالة من الاستقرار الطبقي أو السياسي.
٢- مثل هذا النظام يزداد اعتماده يومًا بعد يوم على القمع المباشر. أما حالة الخوف من الفوضى والانهيار والإخوان والإرهاب، فربما كانت تلعب دورًا أيديولوجيًا مساندًا في الفترة الأولي بعد الانقلاب ولكن ذلك الدور ينهار بشكل سريع الآن.
٣- هذا يعني أن النظام يفقد ظهيره الجماهيري، وهذا ما أظهرته هزلية مؤيدي النظام خلال أبريل ومايو، فضلًا عن أنه يفقد حلفاءه السابقين في الانقلاب من أحزاب وحركات إصلاحية بدأت منذ فترة في معارضته.
٤- هذا يدفع في اتجاهين متعاكسين؛ الأول ارتفاع وتيرة الاحتجاج السياسي والاجتماعي وتوسيع الجبهات والحملات المعبرة عنها. والثاني ارتفاع وتيرة القمع والحصار والتضييق من قبل الدولة وأجهزتها الأمنية المذعورة.
٥- هذه الحالة ستستمر لفترة طويلة نسبيًا، بين صعود موجات احتجاجية وإمكانيات لحملات وجبهات معارضة لسياسات النظام الداخلية والخارجية، وبين نظام محاصر سيستخدم كل ما لديه من أسلحة لمنع أن يتحول ذلك إلى حراك شبيه بما أطاح بنظام مبارك، مع بداية الألفية ثم انطلاق حركات التغيير، مرورًا بتطور الحركة العمالية، حتى اندلاع الثورة في 2011.
٦- هذا يعني أن المعارضة الجذرية في حاجة لأن تبلور استراتيجيات وتكتيكات ملائمة لسلسلة طويلة من المعارك، تحافظ على استقلالية التكوينات السياسية لهذه المعارضة، وفي نفس الوقت تتدخل بشكل جبهوي مُنسَّق وفاعل في مختلف المعارك لتطوير وتوسيع وتعميق الحراك الاجتماعي والسياسي المعارض للثورة المضادة.
٧- لابد على المعارضة الجذرية أن تتجنب التفاؤل غير المدروس والمغامرات السياسية غير المحسوبة، وأن تتحرك بشكل واقعي وعملي في إطار جبهوي في المعارك القائمة. أكبر خطر أن نتصور أن النظام على وشك السقوط أو الانهيار، فصحيح أن النظام مأزوم وهناك بالفعل فرص لبناء معارضة جذرية لم تكن متاحة منذ عامين، ولكنه نظام شرس قائم على القمع الدموي وعلى الخوف والترهيب. وبالتالي فحربنا معه هي حرب طويلة ومعاركها لن تكون سهلة أو سريعة (معركة الجزر أو رفض النظام تقديم أي تنازلات في معركة الصحفيين نموذجًا، وكذلك استعداده لاعتقال ومحاكمة الآلاف).
٨- صعوبة المعارك لا يجب أن تؤدي أيضًا لأي نوع من التشاؤم أو العودة إلى مربع الإحباط والانسحاب. لقد بدأ بالفعل الحراك الديمقراطي والاجتماعي والاقتصادي ضد نظام الثورة المضادة المأزوم. وسنسعى بكل ما أوتينا لبناء أوسع جبهة ديمقراطية تقود المعارك في الحرب التي لابد أن نضع في اعتبارنا أنها طويلة وشاقة ومليئة بالتحديات.