نكسة السيسي: قضية الجزر وآفاق المعارضة

سياقات
إذا كان نظام الانقلاب العسكري قد بدأ عهده في ذلك الصيف الأسود لعام 2013 بمذابح وحملات من الاعتقالات والتعذيب والقمع لم نرى لها مثيل في التاريخ المصري الحديث، فهل نتعجَّب حين ينهي الانقلاب عامه الرابع في الحكم بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية وإسرائيل؟
نظامٌ عسكريٌ انقلابي يتبنَّى سياساتٍ اقتصاديةً قائمة على التقشف والجوع والفقر للغالبية من شعب مصر لمصلحة حفنة من الجنرالات والمليارديرات، وحلفائهم من أمراء وشيوخ وملوك الخليج، فهل نندهش حين يتنازل لنفس هؤلاء الحلفاء والمُمَوِّلين الخليجيين عن سيادة الشعب على جزء من أرضه؟
الثورة المضادة التي يمثلها نظام عبد الفتاح السيسي ليست مجرد عودة لنظام مبارك القديم. إذا كان نظام ما قبل ثورة يناير 2011 قائماً على أساس ثالوث مُقدَّس من القمع والليبرالية الجديدة وخدمة مصالح الإمبريالية وحلفائها الإقليميين، فنظام ما بعد انقلاب يونيو/يوليو 2013 يقوم بالضرورة على تصعيد وتعميق نوعي لمحاور ذلك الثالوث. فثالوث مبارك لم يحمه من الثورة، وبالتالي فرجال الثورة المضادة لا يمكنهم مجرد تكراره بنفس الشكل القديم. فأجهزة القمع في عهد مبارك لم تكن كافية لحماية النظام، فهي وفقاً لرؤية النظام الجديد لم تكن بالشراسة والعنف الكافيين لخلق متاريسٍ من الذُعر والخوف تمنع اندلاع الثورة. فإذا لم يكن الحبس والتعذيب كافيين في الماضي، فالقتل والإعدامات يصبحان ركناً أساسياً من أركان سياسة النظام الجديد.
وإذا كانت السياسات الليبرالية الجديدة قد فشلت في عهد مبارك في خلق نموٍ اقتصاديٍ مستقر، فرؤية نظام الثورة المضادة تقوم على تصعيد نوعي لما تتضمَّنه تلك السياسات من هجوم منظم على مصالح ومعيشة الأغلبية متجاوزاً كافة الخطوط الحمراء التي كان النظام القديم يخاف تخطيها.
وإذا كان نظام مبارك ومن قبله السادات كان قائماً على تحالف استراتيجي مع الامبريالية الأمريكية وما تطلبه ذلك من تنازلات في السيادة وخدمات عسكرية إقليمية (كامب ديفيد في السبعينات وحرب الخليج الأولى في بداية التسعينات)، فنظام السيسي يريد تجاوز كل ذلك إلى مستوى غير مسبوق من دور الدولة التابعة والتي تُسخِّر أرضها وجيشها لخدمة تلك المصالح (مسافة السكة والجزر مقابل التمويل والاستثمار ورضى الامبريالية الأمريكية والمشاركة الفعالة في حصار وتجويع قطاع غزة).
في نهاية السبعينات، وَقَّعَ نظام السادات معاهدة كامب ديفيد والتي قبل بمقتضاها التنازل عن السيادة الكاملة على أراضي سيناء وعن أي دورٍ في القضية الفلسطينية، بل قبل بتطبيع العلاقات مع الصهاينة على جثث الشعب الفلسطيني، في مقابل تحالفه الاستراتيجي مع الامبريالية الأمريكية ومعوناتها الاقتصادية والعسكرية. وفي بدايات التسعينات، قبل نظام مبارك أن يُحوِّل جيشه إلى مرتزقة تابعة للجيش الأمريكي في حرب الخليج الأولى في مقابل إلغاء الدول الكبرى لجزءٍ كبيرٍ من ديون مصر ورضاء ملوك وأمراء الخليج.
والآن يتنازل نظام السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير لملك السعودية في صفقةٍ تشارك فيها إسرائيل والولايات المتحدة بعد مفاوضاتٍ سريةٍ لا نعرف بعد عناصرها الأخرى (سيناء، وحصارغزة، وعلاقة إسرائيل بالممرات المائية، وعلاقات مشايخ وممالك الخليج بإسرائيل). ولا نعرف أيضاً الثمن الذي سيقبضه السيسي في مقابل هذا التنازل غير المسبوق عن السيادة.
مؤامرات؟
أحد العناصر الأساسية لدعاية نظام الثورة المضادة كانت ولا تزال فكرة وجود مؤامرة دولية ضد الدولة المصرية، تشارك فيها توليفةٌ واسعة ومتنوعة من الحكومات والأنظمة، في القلب منها تركيا وقطر. في البداية كانت معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة تُدرَج في قائمة المتآمرين على الدولة المصرية، ولكن مع وصول ترامب للسلطة في أمريكا، ومع الصفقات الاقتصادية والعسكرية الكبرى بين نظام السيسي وكل الدول الأوروبية الكبرى، بدأ انحسار القائمة على تركيا وقطر وعميلهما المحلي الإخوان المسلمين.
أياً كان وضع المؤامرة “الكونية” على السيسي ونظامه، فما يظهر بوضوح اليوم هو أن السيسي نفسه ينسج مؤامرةً كبرى على غالبية الشعب المصري. مؤامرةٌ بدأت مع تحضيره لانقلابه في 2013 في تنسيق مع مختلف الأجهزة الأمنية وكبار رجال الأعمال وأحزاب جبهة الإنقاذ وكبار المُمَوِّلين الخليجيين، وتعمَّقَت حين نفذ انقلابه وبدأ في هجومه الدموي، ليس فقط على الإخوان المسلمين، بل على كل ما كان قد تبقى من الثورة المصرية. هذه المؤامرة موَّلها ملوكُ وأمراءُ الخليج وعلى رأسهم العائلة المالكة السعودية. وهي مؤامرةٌ ليست فقط على غالبية الشعب المصري وثورته، بل أيضًا على المطالب الديمقراطية والاجتماعية لكافة الشعوب العربية. فالثورة المصرية والتونسية من قبلها خلقت زلزالاً جماهيرياً كاد أن يعصف بعروش شيوخ النفط وعلى رأسهم ملك مملكة الظلام السعودية. ولذا فعندما تجمَّعت رياح الثورة المضادة في مصر وتركَّزت حول شخص عبد الفتاح السيسي، تدفقت مليارات السعودية والإمارات كـ”الأرز” على مشروع الانقلاب، وفيما بعد على استقراره وبقائه. تلك المليارات لم تُنفَق فقط لوقف المد الثوري وإعادة النظام القديم بل أيضاً لإعادة تشكيل إقليمية تكون السعودية قيادتها.
لعبت السعودية منذ نشأتها دور رأس حربة الثورات المضادة في المنطقة العربية، ولم ينافسها في ذلك سوى الدولة الصهيونية منذ 1948. فهل من الغريب أن يتحوَّل النظام المصري إلى نظامٍ تابعٍ وخادم للمملكة السعودية (والسيسي كخادم خادم الحرمين الشريفين) في ظل دورها التمويلي الحيوي للثورة المضادة في مصر وفي ظل هيمنتها (مع باقي رأس المال الخليجي) أيضاً على مفاصل الاقتصاد المصري منذ تسعينات القرن الماضي؟
وهل من الغريب أن يتنازل خادم الخادم عن جزر استراتيجية لإرضاء مشاريع ولي ولي العهد الإقليمية؟
لعل أحد أهم دروس هزيمة الثورة المصرية تكمن في التحدي الذي تمثلاه رأسي حربة الثورة المضادة على المستوى الإقليمي: آلسعود وإسرائيل. ولعل أهم كوارث حكم الإخوان في مصر لم تكن فقط في الهرولة لإرضاء العسكر والأجهزة الأمنية وكبار رجال أعمال نظام مبارك، بل أيضاً في الهرولة لكسب رضاء ملك السعودية ومهادنة الصهاينة. فهم بذلك مهدوا الطريق وفتحوا المجال لانقلاب 2013 وحكم السيسي.
معارضة في القصر؟
الثورة المضادة بطبيعتها مُتطرِّفة ومُغامِرة. تُجازِف بما لم يكن النظام القديم قادراً على المجازفة به في المجالات المحورية الثلاثة (الاستبداد والإفقار والتبعية)، وتصل بهذه المحاور إلى مستوياتٍ لم يكن أحد يتصوَّرها. ولكن هذه الطبيعة تؤدي بالضرورة إلى انقسامات في صفوف الطبقة الحاكمة. فيظهر جناح من الحمائم في مواجهة جناح من الصقور. بالطبع الجناحان لا يختلفان حول مشروع الثورة المضادة والعداء للجماهير، ولكنهما يختلفان كثيراً حول التكتيكات والسياسات الملائمة للحظة السياسية. وقد رأينا ذلك بوضوح في قضية الجزر، ليس فقط في موقف بعض القضاة الرافض لتسليم الجزيرتين، رغم الدعم الشرس الذي يبديه غالبية القضاء المصري لنظام الانقلاب، ولكن أيضاً في بروز أصوات معارضة من داخل أروقة النظام. ظهر ذلك في بعض الأداء الإعلامي، وفي ظهور لحظي لمواقف معارضة من بعض رموز النظام القديم (سامي عنان وأحمد شفيق). وظهر أيضاً في رفض 101 من أعضاء برلمان الأجهزة الأمنية في التصويت على الاتفاقية.
ولكن هذا لا يعني أبداً أن هناك معارضة من داخل النظام، هو يعني فقط أنه في حالة المجازفات الكبرى لرأس النظام ستكون دائماً هناك بعض التباينات التكتيكية. وهي تمثل قبل كل شيء نوعاً من الاستعدادات الاستباقية في حالة فشل المجازفة. وهي بالضرورة تخفت وتتلاشى في حالة نجاح المجازفة. رأينا ذلك في التباينات حول فض اعتصامات رابعة والنهضة، وأحكام الإعدام، واتفاقية صندوق النقد الدولي، ورفع الدعم، ونراه اليوم في قضية تسليم الجزر. أي رهان على مثل هذه “المعارضة” في حد ذاتها هو رهان خاسر.
المعارضة خارج القصر
والسؤال الرئيسي هو ما الذي يمكنه إفشال مجازفة النظام؟ كيف نبني معارضةً فعَّالة لتسليم الجزر؟ كون قضية تسليم الجزر جزءًا من سياق تطوُّرِ الثورة المضادة والحكم الديكتاتوري لعبد الفتاح السيسي لا يعني بالطبع أن ننتظر حتى قيام الثورة القادمة لمنع تسليم الأرض أو استعادتها في حالة تسليمها. لن يبقى أرض أو شعب في تلك الحالة! صحيحٌ أن سياسات النظام بشكل عام وتسليم الجزر بشكل خاص يضعف من شرعية النظام ولكنه بالتأكيد لا يعني أن النظام على وشك السقوط أو أننا على أعتاب ثورة جديدة.
لنتذكَّر أن ما عطَّل تمرير الاتفاقية من أبريل 2016 حتى اليوم، وما فتح الباب لبعض القضاة للحكم ضد تسليم الجزر لم يكن سوى الحركة السياسية المعارضة بمظاهراتها وتضحياتها ومعتقليها وما تلاها من تحدي قانوني للتفريط في السيادة. ولكن تلك الحركة، رغم أنها الأوسع والأكثر تأثيراً منذ انقلاب ٢٠١٣، شكَّلت نقطة تحول لبعض الأحزاب السياسية التي انتقل شبابها وقواعدها من صفوف تحالف 30 يونيو إلى صفوف معارضة النظام. ر غم ذلك واجهت الحركة تحديَّين أساسيَّين؛ الأول هو درجة القمع وحجم الاعتقالات في مواجهة حركات سياسية معارضة منهكة وفي سياق تراجع عام وحالة عامة من الخوف والإحباط. والتحدي الثاني هو انحسار الحركة في إطار شباب الحركات الثورية والمعارضة دون امتدادها (باستثناء نقابة الصحفيين) للحركات العمالية والنقابات المهنية.
نحتاج اليوم حركةً جبهويةً واسعة تضم سياسياً كل المعارضين لتسليم الجزر من القوى السياسية الديمقراطية، حتى من لم يكن في البداية معارضاً بشكل واضح لانقلاب السيسي. لا يشمل ذلك بالطبع قوى ورموز النظام القديم أو معارضة شكلية من صفوف الثورة المضادة.
نحتاج لتوسيع صفوف الحركة بحيث تشمل كافة النقابات المهنية بمجموعات قاعدية من المهنيين تقوم بالضغط على قيادات النقابات لاتخاذ مواقف وقرارات وتبني فعاليات في مواجهة تسليم الجزر والتنازل عن السيادة. وبحيث تشمل الحركة العمالية، بهدف تحويل هذا المطلب السياسي إلى مطلب عمالي يتم ربطه بمختلف المطالب الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية الأخرى.
فقط بتوسيع الجبهة سياسياً وتعميقها اجتماعياً سنتمكَّن من بناء معارضةٍ فعَّالة قادرة على وقف هذه الصفقة القذرة، وربما تكون تلك الخطوة الأولى في بناء المعارضة السياسية للثورة المضادة في مصر ومُمَوِّلها السعودي وحليفهما الصهيوني والأمريكي.