رؤيتنا (تقرير سياسي دوري تصدره حركة الاشتراكيين الثوريين) – 19 يوليو 2018

ترامب: خطرٌ داهم لابد من التصدي له
يُقلِّل البعض من شأن ما يفعله ويقوله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيعتبرون سياساته وأفكاره خروجًا مؤقتًا عن النص الليبرالي الغربي التقليدي، وأن المؤسسات الحاكمة في أمريكا ستتمكَّن من الحفاظ على الاستقرار في الرأسمالية العالمية دون انفجاراتٍ كبرى حتى تنتهي فترة (أو فترتيّ) رئاسته. ولكن الخطورة الحقيقية لترامب ليست في شخصيته، بل في ما يمثِّله من تغيُّرٍ جوهري على المستوى الأيديولوجي والسياسي منذ الأزمة الاقتصادية في 2008 والركود الكبير الذي تسبَّبت فيه.
فعلى مدار ثلاثين عامًا من السياسات الليبرالية الجديدة منذ عهد رونالد ريجان في ثمانينيات القرن الماضي، أدت تلك السياسات إلى انخفاضٍ في الأجور، وزيادةٍ في البطالة لقطاعاتٍ واسعة من الطبقة العاملة، وتراكمٍ غير مسبوق لثروات كبار الرأسماليين (تُقدَّر ثروة مؤسس شركة أمازون بمائة وخمسين مليار دولار). تزامن ذلك مع ثورةٍ صناعية في الصين حوَّلتها من دولةٍ فقيرة من العالم الثالث إلى منافسٍ خطير للرأسمالية الأمريكية. ثم جاءت أزمة 2008 لتُدشِّن فترةً من البطالة والإفقار والسياسات التقشفية الاستثنائية مع زيادة جديدة في الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
السياسة الحالية لدونالد ترامب يجب أن تُفهَم في سياق هذا التاريخ. فهي تُمثِّل ردَّ الفعل اليميني المُتطرِّف لحقبة الليبرالية الجديدة والعولمة. هذه السياسة تنقسم إلى ثلاث محاور. أولًا الحرب التجارية وهي تمثل عودة للسياسات الحمائية القومية التي تميَّزت بها ثلاثينيات القرن الماضي. الخطورة الحالية لهذه الحرب التجارية، إلى جانب ما تثيره من نزعاتٍ شوفينية وقومية، تتمثَّل في احتمال القضاء على التعافي المحدود الذي شهده الاقتصاد العالمي والعودة إلى ركودٍ لا يقل ضراوة عمَّا حدث في 2008. فما بدأ بتعريفة جمركية تبلغ 25٪ على سلعٍ صينية مستوردة بقيمة 34 مليار دولار سرعان ما وصل بعد الرد الصيني المماثل إلى 50 مليار دولار من السلع المستوردة، ثم إلى 200 مليار دولار (علمًا بأن إجمالي الصادرات الصينية إلى أمريكا يبلغ 550 مليار دولار والصادرات الأمريكية إلى الصين لا يتجاوز 130 مليار دولار).
هذه الحرب التجارية، والتي تشمل أيضًا الاتحاد الأوروبي وكندا وأمريكا الجنوبية والهند واليابان، تُمثِّل زلزالًا اقتصاديًا ربما ينهي مرحلة العولمة التي شهدها النظام الرأسمالي العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
أما المحور الثاني، فهو التغيير في التحالفات الدولية الذي يحاول ترامب إحداثه. فقد شاهدنا التوتُّر السياسي الذي أحدثه ترامب بالموقف العدائي الذي أظهره خلال زيارته الأوروبية الأخيرة تجاه ألمانيا والاتحاد الأوروبي من جانب ومن الجانب الآخر التحالف العلني مع روسيا بوتين. لا نعرف إلى أي مدى سيصل هذا التحوُّل في التحالفات الدولية، ولكنه بلا شك أكبر تهديد للمنظومة الدولية التي أسَّسها الأمريكيون أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية.
والمحور الثالث في “غزوة” ترامب الأوروبية هو تحريضه ضد المهاجرين وتأييده لأقصى اليمين مُمَثَّلًا في حكومات المجر وإيطاليا والنمسا والأحزاب العنصرية في ألمانيا وبريطانيا. يُمثِّل هذا التأييد العلني لهذه القوى دفعةً غير مسبوقة للفاشية الأوروبية، بل ولليمين على المستوى العالمي.
أما الليبراليون الذين يريدون حلَّ المشكلة بالعودة لما قبل ترامب (أوباما وهيلاري كلينتون على سبيل المثال) فهم واهمون. فعندما تبنَّت أحزابٌ مثل الحزب الديمقراطي الأمريكي والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية سياسات الليبرالية الجديدة والعولمة الرأسمالية فهي بلا شك مهَّدَت لصعود اليمين الشعبوي.
ولكن مثلما يخلق فشل سياسات الليبرلية الجديدة الفرصة الموضوعية لظهور رد الفعل اليميني، مُتمثِّلًا في ترامب، فإنه وبنفس المقدار يخلق الفرصة الموضوعية لظهور رد الفعل اليساري، والذي تواصلت حلقاته من انتفاضة اليونان وحتى الاحتجاجات الاجتماعية الجارية الآن في العراق، مرورًا بالثورات في المنطقة العربية والاحتجاجات واسعة النطاق ضد سياسات الليبرالية الجديدة في أوروبا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا.
لذا فالخطر الذي يُمثِّله ترامب يجب أن يُواجَه بقوةٍ من اليسار الراديكالي عالميًا. أولًا بالدفاع عن التضامن الأممي بين الطبقات العاملة في مواجهة القومية والعنصرية، وثانيًا بطرح برامج اقتصادية تستبدل العولمة الليبرالية الجديدة ليس بالتنافس القومي والسياسات الحمائية بل بإعادة توزيع الثروة لصالح الطبقات العاملة على المستوى المحلي والعالمي، وثالثًا بالمواجهة المباشرة للقوى الفاشية والدفاع عن الأقليات والمهاجرين. ربما كانت المظاهرات الضخمة في بريطانيا ضد زيارة ترامب وكلِّ ما يُمثِّله بداية الطريق لوقف هذا الخطر الداهم.
السيسي في خدمة أغنياء مصر
إذا كانت الثورات الاجتماعية الناجحة تؤدي إلى إعادة توزيع للثروة من الأغنياء إلى الفقراء، فمما لا شك فيه أن الثورات المضادة تؤدي إلى إعادة توزيع للثروة من الفقراء إلى الأغنياء. أكَّدَت السنوات الأربع الأولى لحكم السيسي صحة هذه المقولة. فمع تنفيذ سياسات “الإصلاح الاقتصادى” بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي تضاعفت تكلفة الحياة اليومية لغالبية الشعب المصري مع انخفاض في الأجور الحقيقية في حين تضخَّمَت ثروات كبار رجال الأعمال ومليونيرات مصر بشكل عام.
وحتى يكون الكلام علميًا ودقيقًا وليس مجرد حديث اشتراكي معتاد عن الفقراء والأغنياء، لننظر إلى بعض الإحصائيات حول توزيع الثروة في مصر. هناك تصنيفٌ عالمي يقوم على أساس تقدير الثروة الإجمالية للأفراد وليس مجرد الدخل (بما يشمل العقارات والأراضي والسيارات والحسابات البنكية والشركات أو المحال، إلخ). في الحالة المصرية في عام 2017 شكَّل من تُقدَّر ثرواتهم بأقل من 10 آلاف دولار (180 ألف جنيه) أكثر من 98٪ من السكان، في حين شكل من تقدر ثروتهم بما بين 10 آلاف و100 ألف دولار (1.8 مليون جنيه) 1.7٪ من السكان. أما الجانب الآخر من الخريطة الطبقية فهو كالآتي: هناك 10716 شخص بثروات ما بين 1 و5 مليون دولار و1475 شخص بثروات ما بين 5 مليون و10 مليون دولار و1140 شخص بثروات ما بين 10 و50 مليون دولار و161 شخص بثروات ما بين 50 و100 مليون دولار و135 شخص بثروات ما بين 100 مليون و500 مليون دولار و18 شخص تقدر ثرواتهم بما بين 500 مليون ومليار دولار. أما المليارديرات بالدولار الأمريكي في مصر (أي 18 ألف مليون جنيه مصري فما فوق) فهم 19 شخص. (المصدر تقرير الثروة العالمية 2017 لمركز أبحاث بنك كريديت سويس).
هؤلاء هم من يملكون مصر السيسي. هؤلاء هم من يخدمهم ويبني لهم المدن ويحمي مصالحهم وينمي ثرواتهم. الجيش والشرطة في خدمة الأغنياء.
إلغاء الدعم على السلع الأساسية مع انخفاض قيمة الجنيه إلى أقل من النصف لم يزد فقط من معاناة الفقراء بل دفع بملايين من الطبقة الوسطى والمهنيين إلى الانضمام لصفوف الفقراء. لم يكتف النظام برفع الدعم بل ضاعف أسعار كافة الخدمات العامة من سعر تذكرة المترو والأتوبيسات إلى سعر تصريح الدفن وشهادة الوفاة! هذا الهجوم يجري بحجة أن الحكومة ليس لديها موارد وأن الطريق الوحيد للإصلاح هو أن يتكاتف الجميع لمصلحة مصر وأن المصريين عليهم التضحية من أجل بلادهم. ولكن السيسي لا يفرض التضحيات إلا على الفقراء والطبقة الوسطى. أغنياء مصر يعيشون في ثراءٍ غير مسبوق وتتراكم ثرواتهم في هذا العهد لتتجاوز مئات وآلاف أضعاف أجدادهم من ملاك الأرض في عهد الملك فاروق.
مصر السيسي جنة الأغنياء بشكلٍ يتجاوز حتى نهايات عهد مبارك. نتحدَّث كثيرًا عن هيمنة الجيش على الاقتصاد ولكنه في واقع الأمر يلعب دور المُنسِّق في خدمة شركات مملوكة لرأسماليين مصريين. من يتابع على سبيل المثال سوق العقارات والأراضي في مدينة السيسي الجديدة سيلاحظ على الفور كم الأموال المتراكمة لدى عائلات الرأسمالية المصرية. حتى سوق السيارات الفخمة مازال في حالة ازدهار رغم ارتفاع قيمة الدولار. أما الساحل الشمالي فكل يوم نسمع عن قرية جديدة بفيلات وشاليهات تتجاوز أسعارها عشرات الملايين في بعض الأحيان.
هذا كله في نفس البلد التي يتحدَّث رئيسها عن مدى فقرها وضرورة التضحية من أجلها. ونفس البلد التي يعيش أكثر من 40٪ من سكانها تحت خط الفقر!