رؤيتنا (تقرير سياسي دوري تصدره حركة الاشتراكيين الثوريين) – 22 أغسطس 2018

المأساة السورية
من الصعب المبالغة حول حجم المأساة السورية، فما بدأ بثورة شعبية ديمقراطية في درعا في ٢٠١١ انتهى في يونيو ٢٠١٨ مع استسلام آخر فصائل المقاومة أيضًا في درعا لجيش بشار الأسد تحت رعاية روسية.
يتناسى الكثيرون أن الثورة السورية بدأت بمظاهرات جماهيرية سلمية شارك فيها مئات الآلاف ووحدت بمطالبها الديمقراطية بين الرجال والنساء وبين السنة والشيعة وبين المسيحيين والمسلمين وبين العرب والأكراد وعبرت عن وعي متجاوز للانقسامات الطائفية التي طالما استخدمها نظام البعث للاستمرار في السلطة. عبرت الثورة أيضًا عن درجة عالية من التنظيم الديمقراطي من خلال تشكيل اللجان الشعبية المنتخبة لقيادة الحراك ولتنظيم كافة مناحي الحياة في المناطق المحررة.
ولكن نظام بشار الأسد راهن من اللحظة الأولى على قدرته على هزيمة الثورة بمزيج من القمع الوحشي والتحريض الطائفي. وقد أدى القمع الدموي للمظاهرات إلى تسليح اللجان الشعبية في بداية الأمر للدفاع عن المظاهرات من وحشية قوات النظام والشبيحة (البلطجية المسلحين) ولكن تفكك الجيش السوري على أسس طائفية وانضمام كثير من الضباط والجنود إلى صفوف المعارضة سرعان ما دفع ما بدأ بثورة شعبية سلمية ضد نظام ديكتاتوري إلى حرب أهلية طائفية.
وفي عام ٢٠١٢، عندما كان نظام الأسد على وشك السقوط في مواجهة استمرار الحراك الشعبي ومعه المعارضة المسلحة، استدعى بشار حلفاءه إيران وحزب الله لإنقاذ النظام ومن جانب آخر تدخلت دول الخليج وتركيا لدعم العناصر السنية في المعارضة.
وقد شاركت جميع هذه القوى في تحويل الصراع إلى حرب أهلية طائفية مدمرة. فمن جانب قام الجيش السوري بتدمير كل المدن التي تركزت فيها القوى المعارضة تدميرًا كاملًا بمساعدة القوات الإيرانية والسلاح الجوي الروسي. ومن جانب آخر احتلت داعش مناطق واسعة تتمركز حول رقا وقامت فيها بمذابح منظمة وتطهير طائفي وحشي بمساعدة مباشرة وغير مباشرة من السعودية وتركيا.
وكانت المحصلة ستة ملايين من اللاجئين خارج سوريا وستة ملايين من النازحين داخليًا في مخيمات ونصف مليون قتيل وتدمير ٦٥٪ من إجمالي المباني في المدن والقرى السورية.
وحتى المقاومة الكردية والتي شكلت المقاومة المسلحة الرئيسية ضد داعش من جانب وضد بشار الأسد من الجانب الآخر، فقد اعتمدت على الدعم والحماية من الأمريكيين والأوروبيين والذين سرعان ما تخلوا عنهم في مواجهة الجيش التركي الذي احتل مراكزهم الرئيسية ودفعهم للتفاوض مع بشار الأسد.
استخدمت الديكتاتوريات العربية وعلى رأسها نظام السيسي مثال المأساة السورية للدعاية ضد الثورة بل ضد المعارضة في حد ذاتها. “أتريدون أن تصبحوا مثل سوريا؟ انظروا ماذا حدث للشعب السوري عندما قام بثورة على النظام الحاكم!”، و”الثورة لا تؤدي إلا للفوضى والدمار والموت.” ولكن هذا المنطق في واقع الأمر معكوس. فنجاح الثورة السورية في الإطاحة بالأسد ونظامه كان الطريق الوحيد لتفادي الفوضى والدمار. ديكتاتورية الأسد وثورته المضادة القائمة على استثمار الطائفية والعنف الوحشي للاستمرار في الحكم هو ما دمر سوريا بسببه وقتل وشرد شعبها. بشار الأسد، مثله مثل عبد الفتاح السيسي، مستعد للتضحية بالشعب من أجل الحفاظ على النظام.
الانتصار الحالي للأسد ليس نهاية المطاف، فاستمراره في الحكم قائم على التدخل العسكري المباشر لروسيا وإيران وبدونهما لن يصمد الأسد أكثر من أسبوع. والجماهير السورية التي ثارت على النظام ستتمكن عاجلًا أو آجلًا من إعادة توحيد صفوفها والإطاحة بالأسد ونظامه الإجرامي وإعادة بناء سوريا جديدة قائمة على تلك المطالب والشعارات التي فجَّرتها الثورة في درعا منذ سبعة سنوات.
صوري، شيَّري، افضحي
السجال واسع النطاق الذي أحدثته واقعة ما سمي بـ”فتاة التجمع” قد فجَّر من جديد قضية التحرش الجنسي في مصر وأظهر مدى الانقسام في المجتمع المصري بشكل عام بين رؤية رجعية تعادي حقوق المرأة وبين وعي نسائي جديد يصطدم بهذه الرؤية بل ويتحداها.
امرأة عاملة تقف على الرصيف في انتظار الأتوبيس الذي يقلها إلى عملها، فتتعرض بشكل متكرر لمعاكسات من رجال يقفون بسياراتهم ويبدأوا في الحديث معها بدون سابق معرفة، ويدعونها إما للركوب معهم أو الذهاب معهم إلى مقهى قريبة. حدثٌ تتعرض له أو لمثله آلاف النساء المصريات كل يوم. ولكن أن تتجرأ المرأة وتتحدى هؤلاء الرجال وتصور الواقعة وتنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا بالطبع ما فجَّر السجال وحوَّله إلى قضية إعلامية في مختلف القنوات التلفزيونية.
أدى التصرف الشجاع لتلك المرأة إلى سيل هائل من الهجوم عليها بالسباب والإهانات واعتبارها هي وليس المتحرشين بها سبب المشكلة. “أنظر ماذا كانت تلبس”، “لم تكن محجبة”، “هي التي أغوت الرجال”، “لماذا تقف هكذا في الشارع”، “لابد أنها داعرة”، إلى آخر التعليقات الحقيرة والمُحرِّضة.
ولكن هناك أيضًا سيل من التعليقات التي تبدي الإعجاب بشجاعة المرأة وتعتبر ما فعلته ليس فقط حقها ولكن مثالًا شجاعًا لما يجب أن تفعله كل إمرأة تتعرض للتحرش الجنسي.
وهناك من بين من يدافعون عن المتحرشين من يدعون أن الرجلين لم يرتكبا جرمًا، فهم فقط أبديا إعجابهما ودعاها بشكلٍ “متحضر” للتعارف، بل وأن هذا شيء طبيعي ومقبول حتى في الدول الأوروبية. إلى جانب أن هذه الآراء تعبر عن درجة كبيرة من الإحساس بالدونية تجاه “أوروبا والدول المتحضرة”، فصحة هذه المعلومة لا تعني إلا أن التحرش ظاهرة عالمية وأن النساء في أوروبا أيضًا يتعرضن لكافة أشكال التحرش من المعاكسات والسخافات اللفظية إلى الاعتداء الجنسي.
حركة “أنا أيضًا” التي انطلقت منذ عامين في أمريكا والتي سرعان ما أصبحت حركة عالمية شاركت فيها الملايين من النساء في مختلف أنحاء العالم أظهرت أن التحرش والاعتداء الجنسي في البيت والشارع وفي أماكن العمل والمواصلات والمساحات العامة لا زالت ظاهرة عالمية وليست فقط ظاهرة مصرية أو عربية.
التحرش الجنسي في مصر أعنف وأكثر انتشارًا لأن الأزمة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والثقافية أعمق وأكثر استفحالًا.
الهجوم الإعلامي والفيسبوكي على “فتاة التجمع” هو تعبير عن مدى الذعر تجاه كل تحدي لفكرة العائلة التقليدية ودور المرأة فيها. المرأة دورها في المنزل كزوجة وأم أو بنت مطيعة. أما الشارع والمساحات العامة فهي ملك الرجل، ومجرد وجود المرأة فيها بما يعني من حرية الحركة والمشاركة كعاملة أو موظفة أو طالبة أمر مرفوض بل يعطي الرجال الحق في التحرش بها، خاصة إن تجرأت وأبدت حريتها فيما تختاره من ملابس ولم تلتزم بزي يخفي ملامح جسدها تمامًا.
هذه الأفكار الرجعية ليست قدرًا أو تعبيرًا عن ضرورة بيولوجية على سبيل المثال. بل إنها رؤية تتبناها الدولة المصرية والمؤسسات الدينية والحركات الإسلامية وتهيمن على قطاعات واسعة من الرجال والنساء. ولكن الثورة المصرية في يناير ٢٠١١ والمشاركة الواسعة للنساء فيها والحركة النسائية واسعة النطاق التي فجرتها، مثلت تحديًا ضخمًا لتلك الأفكار المهيمنة. وقد فرضت سنوات من الثورة المضادة تراجعًا لتلك الحركة وذلك التحدي وجعلت مجرد التحدي الفردي مثل الذي قامت به “فتاة التجمع” يثير كل تلك ردود الفعل العنيفة.
ما نحتاج إليه اليوم ليس فقط تشجيع النساء على تحدي ومقاومة وفضح كافة أشكال التحرش بشكل فردي، ولكن أيضًا العمل على بناء حركات جماعية لمناهضة كافة أشكال اضطهاد المرأة بما في ذلك عدم المساواة في الأجور والحقوق والقوانين. ولكن ذلك لن ينجح إلا إن كان جزءًا لا يتجزأ من حركة ثورية تناضل ضد كافة أشكال الاضطهاد وكافة أشكال الاستغلال وتكون بالفعل منبرًا لكل المضطهدين.