من سانتياجو إلى القاهرة: تاريخ من الانقلابات

مذبحة رابعة العدوية هي عنوان وجوهر النظام الحاكم في مصر منذ انقلاب يوليو 2013. إن شرعية النظام، والتي تآكلت كثيراً منذ ذلك الحين، تعتمد إلى حدٍّ بعيد على قدرته على الدفاع عن ضرورة تلك المذبحة. فإذا لم يكن اعتصام رابعة اعتصامًا مُسلَّحًا خطيرًا، وإذا لم يكن مُنظِّمي ذلك الاعتصام مجرمين وإرهابيين يُخطِّطون لتحويل المواجهة إلى حربٍ أهلية، فكيف كان يمكن تبرير قتل أكثر من 1000 شخص في أقل من ساعتين في ذلك الفض الدموي للاعتصام؟
وإذا كان ذلك هو تبرير المذبحة، فكيف لا تكون الأحكام بتلك القسوة والوحشية؟ هذا التبرير وتلك الرواية للأحداث لهما أهمية قصوى في بقاء التحالف بين الجيش والشرطة اللذين قاما بالمذبحة وبين القضاء “الشامخ” الذي أعطى الشرعية للمذبحة بأحكام الإعدام الأخيرة. وهو للأسف سيعني غالبًا أنه حتى لو قامت محكمة النقض بتخفيض عدد المحكوم عليهم بالإعدام سيظلوا رقمًا كبيرًا ومخيفًا، وإلا اهتز التبرير القانوني لإراقة الدماء غير المسبوقة في مذبحة رابعة.
ذلك “العدوان الثلاثي” للجيش والشرطة والقضاء لم يكن مُوجَّهًا فقط ضد الإخوان، بل في جوهره كان مُوجَّهًا ضد ثورة يناير 2011 وما مثَّلَته من تهديد لمصالح ذوي السلطة والثروة في مصر. درجة الوحشية تتناسب مع درجة الرعب التي بثَّته تلك الثورة في صفوف رجال ونساء النظام القديم.
هكذا تكون الثورة المضادة، ليس في مصر وحدها بل في كلِّ حالةٍ ثورية تُهدِّد مصالح الطبقة الحاكمة ولكن لا تتمكَّن من استكمال العملية الثورية. ففي انقلاب الجنرال بينوشيه في تشيلي والذي يمر عليه اليوم 45 عاماً، رأينا نفس ذلك التحالف ونفس تلك الوحشية. بل كثير من مراحل ذلك الانقلاب وعواقبه تكاد تكون “النموذج” الذي تحرَّك على أساسه ونفذه السيسي بعد أربعين عامًا من انقلاب أستاذه بينوشيه.
هناك بالطبع اختلافٌ نوعي بين أحداث تشيلي 1973 وأحداث مصر 2103. ففي تشيلي كان الانقلاب العسكري ضد حكومةٍ يسارية لها تأييد واسع من الحركة العمالية والنقابات. أما في مصر فكان الانقلاب ضد حكومة الإخوان المسلمين التي كانت تُنفِّذ نفس سياسات النظام القديم وعارضتها في ذلك قطاعات واسعة من الجماهير. والمقارنة هنا ليست بالطبع بين سلفادور آيندي وحكومته الاشتراكية وبين محمد مرسي وحكومته الإخوانية. المقارنة بين طبيعة الانقلابين العسكرية الدموية ودور مختلف أجهزة وقطاعات الدولة فيها.
في تشيلي كما في مصر، قام القضاء بتمهيد الطريق للانقلاب العسكري باستخدام القانون لتعطيل عمل السلطات التنفيذية المنتخبة. وقامت أيضًا قطاعاتٌ من كبار موظفي الدولة في مختلف الهيئات والوزارات بخلق حالة من الشلل والتعطيل مما انعكس في أزماتٍ في الطاقة والتموين والخدمات الأساسية.
وفي تشيلي كما في مصر، اكتشف الجميع أن قادة المؤسسة العسكرية ليسوا محايدين سياسيًا، بل هم مستعدون للدفاع عن الوضع القائم ومصالح الطبقة الحاكمة مهما كان الثمن، وأنهم إذا ما تهدَّدَت تلك المصالح سيُوجِّهون أسلحتهم نحو نفس الشعب الذي يدَّعون حمايته.
وفي تشيلي كما في مصر، فاق عنف ووحشية الانقلاب كل التوقُّعات. في تشيلي تجلَّت مذابح الثورة المضادة في قتل الآلاف من النقابيين واليساريين ومؤيدي حكومة سلفادور آيندي في الأسابيع الأولى بعد الانقلاب ورأينا تلك الصور المُفزِعة لمئات الجثث المرصوصة جنبًا إلى جنب في ممرات إستاد سانتياجو. وفي مصر سالت دماء مذابح الثورة المضادة في رابعة العدوية حيث قُتِلَ أكثر من ألف من مؤيدي الإخوان ومعارضي الانقلاب ورأينا نفس صور الجثث المرصوصة، هذه المرة في ممرات وساحات جامع رابعة العدوية.
وفي تشيلي 1973 كما في مصر 2013، جاء الانتقام المُنظَّم مِن كلِّ مَن شارك في تحدي النظام القديم أولاً بالقتل والقمع المباشر وثانياً باعتقال عشرات الآلاف. وهنا جاء الدور الثاني للقضاء (بعد دوره الأول في التمهيد للانقلاب) بإصدار أحكام إعدام ومؤبد للآلاف. وفي الحالتين لم تكن للأحكام علاقة بالقانون أو بجرائم ارتُكِبَت بل فقط نتيجة قرارات سياسية متفق عليها بين القادة العسكريين و”القضاء الشامخ” تستهدف إخماد الثورة والمعارضة وخلق حالة من الخوف والصمت لعقود قادمة (حالة الأمن والاستقرار التي كان بينوشيه يتحدَّث عنها في سبعينيات القرن الماضي والتي لا يكف السيسي عن ذكرها منذ انقلابه).
وأخيراً في تشيلي كما في مصر، احتفل الإعلام ومثقفي الطبقة الحاكمة بل وكثير من السياسيين الليبراليين ليس فقط بالانقلاب العسكري والثورة المضادة بل أيضًا بالمذابح الوحشية بحجة عودة الاستقرار وإنقاذ والبلاد من الفوضى والحرب الأهلية.
ربما كان الدرس الرئيسي للتجربتين التشيلية والمصرية هو ما قاله أحد قادة الثورة الفرنسية (سان جوست): “من يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيده”. الدولة الرأسمالية بجيشها وشرطتها وقضائها وإعلامها ستقاتل حتى النهاية دفاعًا عن النظام القديم ودفاعًا عن مصالح الطبقة الحاكمة.
إن أحكام الإعدام الأخيرة في مصر هي خطوةٌ أخرى في تثبيت حكم الثورة المضادة والتمهيد لتغير الدستور ليستمر السيسي والعسكر في الحكم لعقودٍ قادمة. الوقوف ضد تنفيذ هذه الأحكام، وهي جرائم قتل تُضاف لمذابح عام 2013، ليس فقط موقفًا مبدئيًا ضد عقوبة الإعدام التي يجب أن يرفضها أي تيار يدافع عن الديمقراطية، بل أيضًا ضرورةً في هذه الحالة لكلِّ من يريد تحرير مصر من حكم السيسي والعسكر.