بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

رؤيتنا (تقرير سياسي دوري تصدره حركة الاشتراكيين الثوريين) – 30 سبتمبر 2018

السيسي لن يطرح سوى المزيد من الفقر والتقشف للشعب المصري
من يقرأ الأخبار حول صفقات الغاز الأخيرة مع إسرائيل يمكن أن يشمئز من نظام يتحالف اقتصاديًا مع من يقتل الفلسطينيين كل يوم. ولا شك أن التعاقدات الأخيرة يجب أن تقاومها وتفضحها حركة المقاطعة في مصر. فالصفقة التي أُعلِنت الخميس الماضي بعد شراء إسرائيل حصة في خط الأنابيب الرابط بين الدولة الصهيونية ومصر، وبعد لقاء بنيامين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي الذي استمر لمدة تقارب الساعتين في نيويورك، هي أمرٌ خطير يجب مواجهته.

يشكل هذا التعاون الاقتصادي المجال الثالث للتحالف بين النظام المصري وإسرائيل بعد العمل المشترك لحصار الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة وبعد التعاون العسكري في مواجهة الجماعات المسلحة في سيناء.

ولكن هناك جانبًا آخر من القصة يجب الانتباه إليه. فنظام السيسي يدَّعي أن مثل هذه الصفقات ستحول مصر إلى مركزٍ لتسييل وإعادة تصدير الغاز عالميًا وأن ذلك سيعود بالرخاء على الشعب المصري.

بغض النظر عن نجاح أو فشل مشروع الغاز، الذي لا يزال يحتاج لسنوات من الاستثمارات في البنية التحتية، فهذا الادعاء ليس فقط كاذبًا، بل أن ما ينتظر الجماهير الفقيرة في مصر لن يكون إلا المزيد من زيادة الأسعار وتقليص الدعم والخدمات. لماذا؟ أولًا لأن الاقتصاد المصري هو أحد الاقتصادات “الناشئة” التي تتأثر سلبًا (مثل تركيا والأرجنتين وجنوب أفريقيا وباكستان) مع صعود قيمة الدولار الأمريكي ورفع سعر الفائدة عليه. فالاقتصاد المصري اليوم يعتمد على الاستثمارات التمويلية والقروض من الخارج بالدولار الأمريكي، وارتفاع سعر الفائدة على الدولار (تم رفعه الأسبوع الماضي إلى 2.5٪ ومن المُتوقَّع رفعه بين أربعة وخمس مرات خلال العام القادم) يعني هروب الأموال من الاقتصادات الناشئة مثل مصر وعودتها إلى الاقتصاد الأمريكي (أكثر من 17 مليار دولار أمريكي مستثمرة في الدين المحلي في مصر). وهو ما يعني أيضًا أن تكلفة خدمة الديون بالدولار ستستمر في الصعود خلال الشهور المقبلة. في الميزانية الحالية لعام 2018/2019 من المُتوقَّع أن تشكل خدمة الدين وحدها أكثر من 40% من إجمالي المدفوعات للحكومة المصرية و70% من حصيلة الضرائب.

ومن جانب آخر، تظل محاولات تنشيط الاستثمارات المحلية فاشلة بسبب ارتفاع سعر الفائدة على القروض بالجنيه المصري. ففي ظل وصول سعر الفائدة على العملة الأرجنتينية إلى 60% والتركية إلى 24%، لن يتمكن البنك المركزي المصري من تخفيض سعر الفائدة عن الـ16.75% للإيداع و17.75% للإقراض الحالية. هذا إذا لم يُجبَر على رفعها من جديد.

في ظل هذه الظروف، وفي ظل عبودية النظام الحالي لرأس المال الأجنبي والمحلي، لا يمكننا أن نتوقع سوى أن يجبر هذا النظام الأغلبية من عمال وفقراء مصر على تحمُّل عبء “المصاعب الاقتصادية”، فلنا أن نتوقع المزيد من ارتفاع الأسعار والمزيد من إلغاء الدعم على كافة السلع والخدمات والمزيد من الوعود الكاذبة حول الرخاء والخروج من عنق الزجاجة.

والسؤال المُلِح لقوى المعارضة المصرية هو: هل نستمر فقط في فضح أكاذيب النظام؟ في حين أنه يفرض على الشعب المصري دفع فاتورة مشاريعه من مدن في الصحراء ومشاريع وهمية في شراكة مع رأس المال الخليجي والإسرائيلي؟ هل نستمر فقط في التعليق الغاضب حول الإفقار والإذلال والتجويع لصالح الأغنياء وكبار الضباط؟ أم نبدأ في تنظيم معارضة فعَّالة لسياسات النظام الاقتصادية وطرح برامج بديلة قائمة على إعادة توزيع الثروة والسلطة من دولة السيسي ورجال أعماله إلى الغالبية العظمى من سكان مصر من عمال وفلاحين؟

جيرمي كوربن وعودة اليسار
عندما جاءت مارجريت تاتشر للحكم في بريطانية في 1979، بدأت على الفور في تفكيك دولة الرفاه والهجوم على النقابات العمالية وتطبيق أحد أول وأعنف برامج الليبرالية الجديدة في العالم حينذاك. وبعد هزيمتها للحركة العمالية بعد إضراب المناجم في 1984، ورغم أنها أُقيلَت بعد نجاح مظاهرات مناهضة الضريبة الموحدة التي حاولت فرضها (ضريبة الرأس)، كان يبدو بالفعل أن مقولتها عن أنه “لا بديل” للسوق الرأسمالية قد هيمنت بالفعل على المجتمع البريطاني، وجاء انهيار الاتحاد السوفييتي ليدشن مزيدًا من تراجع اليسار بمعناه الواسع.

كان حزب العمال تاريخيًا يتبنى سياسات تدافع عن دولة الرفاه وعن مجانية الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وملكية الدولة لوسائل النقل والطاقة. ولكن هجمة تاتشر في الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات فتح الطريق لسيطرة جناح يميني في حزب العمال بقيادة توني بلير، الذي حوَّل الحزب (سُمِّيَ بحزب العمال الجديد) نحو تبني نفس سياسات تاتشر اليمينية. وأصبح حزب العمال تحت قيادة بلير حزبًا نيوليبراليًا بكل معنى الكلمة؛ ينافس المحافظين في طرح السياسات اليمينية. وفي سياق هذا التاريخ فإن صعود جيرمي كوربن، أحد أقطاب أقصى اليسار لقيادة نفس هذا الحزب هو حدث جلل، ليس فقط لليسار البريطاني ولكن لليسار عالميًا.

جيرمي كوربن ليس ثوريًا، وبرنامجه لا يدعو للإطاحة بالرأسمالية سواء بطرق برلمانية أو ثورية. لكن، في سياق هيمنة الليبرالية الجديدة منذ عقود حتى في قيادة حزبه، أحدث ما يطرحه برنامجه زلزالًا في الساحة السياسية والاجتماعية البريطانية لا يقل حجمًا في حالة وصوله للسلطة عن زلزال بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). فحزب العمال تحت قيادة كوربن يدعو مثلًا لإعادة تأميم السكك الحديدية وشركات الطاقة والمياه، والمجانية الكاملة للتعليم في كل مراحله، ومضاعفة الخدمات الصحية المجانية، والتوسع في الحضانات الحكومية المجانية. وهو يدعو لتمويل ذلك بزيادة الضرائب على الدخل للخمسة بالمئة الأغنى من السكان، ورفع الضرائب على الشركات من 19% إلى 26%. وعلى الرغم من أن هذه السياسات محدودة ولا تهدد الرأسمالية، فهي تصيب الطبقة الحاكمة بالهلع.

كان رد فعل اليمين المهيمن في حزب العمال هو أن هذه السياسات ستتسبَّب في هزيمة الحزب في الانتخابات وأن كوربن وسياساته “غير قابل للانتخاب”. ولكن الحزب تحت قيادته فاجأ الجميع بحصوله على أكبر زيادة في الأصوات منذ عام 1945.

هذا هو مربط الفرس والسبب الحقيقي لهلع الطبقة الحاكمة، وهو تحوُّل الوعي لدى قطاع واسع من السكان في اتجاه معاكس للسياسات الاقتصادية المهيمنة منذ ثمانينيات القرن الماضي. والسبب الرئيسي لهذا التحوُّل هو آثار الانهيار الاقتصادي العالمي في 2008 وسنوات من السياسات التقشفية. فهناك اليوم ملايين خاصة من الشباب مستعدين لتأييد برامج وأفكار يسارية راديكالية (انضم نصف مليون شاب وشابة لحزب العمال منذ تولى كوربن قيادته).

ولكن الوضع السياسي الحالي غاية في التعقيد. فالغضب تجاه السياسات النيوليبرالية مثلما يدفع بالملايين للنظر مجددًا لليسار فإنه يدفع بملايين آخرين نحو أقصى اليمين وتوجيه غضبهم نحو كبش فداء مثل اللاجئين أو المسلمين. فرغم أن الكثير ممن صوَّتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فعلوا ذلك لمعارضتهم للسياسات التقشفية المرتبطة بذلك الاتحاد، فكثير منهم أيضًا فعل ذلك تحت تأثير الأفكار العنصرية والمعادية للإسلام واللاجئين.

من جانب آخر، يواجه جيرمي كوربن ومشروعه ثلاث تحديات أساسية. التحدي الأول يتمثل في محاولات اليمين في حزب العمال الإطاحة به. وقد رأينا محاولات وصمه بمعاداة السامية بسبب مواقفه المؤيدة للفلسطينيين (يدعو برنامجه لوقف تصدير السلاح لإسرائيل)، ومن قبل بأن وصوله للحكم سيعني انهيار الاقتصاد وأنه متطرف، إلخ. لكنه حتى الآن تمكَّن من صد هذه الحملات لما له من تأييد شبابي واسع النطاق. ولكن ما مِن شك أن مثل هذه الحملات ستزداد شراسةً كلما اقترب من الحكم.

التحدي الثاني يتمثل في الضغوط التي سيتعرض لها في حالة فوزه بالانتخابات. فأجهزة الدولة الرأسمالية (بما فيها بالطبع الجيش والقضاء والشرطة والمخابرات) والشركات الكبرى ستفعل كل ما تستطيع لشله ولمنع تطبيقه لإصلاحاته ولإفشاله بكل الوسائل القانونية وغير القانونية. ولن يتمكن كوربن من الوقوف في وجه هؤلاء والمضي قدمًا في إصلاحاته إلا من خلال أوسع تعبئة ممكنة خارج البرلمان من إضرابات عمالية ومظاهرات جماهيرية، بل والتصعيد في إجراءاته المناهضة للرأسمالية. هل سيتمكن كوربن من ذلك أم سيبدأ في تقديم تنازل تلو الآخر ويتراجع عن برنامجه الراديكالي؟

أما التحدي الثالث فهو العزلة العالمية التي سيواجهها، فحكومات أوروبا اليمينية لها مصلحة أكيدة في إفشاله لوقف انتقال عدوى الاشتراكية لباقي القارة، وطبعًا الإدارة الأمريكية ستعاديه من اللحظة الأولى وستواجه سياساته الخارجية الراديكالية بحصار اقتصادي ودبلوماسي. وهنا أيضًا سيواجه اختيارًا صعبًا: إما التراجع عن السياسات الراديكالية والتقيد بالسياسات البريطانية التقليدية تحت القيادة الأمريكية، أو المضي قدمًا والاعتماد على تعبئة التضامن الأممي المتعاطف مع سياساته.

كل هذه المخاطر والتحديات ليست متعلقة فقط بالحالة البريطانية. فهي تثير سؤال إستراتيجي بالنسبة لليسار عالميًا: هل يمكن تجاوز الرأسمالية أو حتى تحديها بشكل راديكالي من خلال طريق إصلاحي وبرلماني؟ أم يجب الإطاحة الثورية بالرأسمالية ودولتها لمجرد البدء في تجاوز الرأسمالية؟

تاريخ القرن العشرين كله يشير إلى الإجابة الثانية، لكن هذا لا يعني بالطبع عدم تأييد ودعم تجربة كوربن البريطانية، فهي تمثل تحديًا غير مسبوق في هذا القرن لكل ما تمثله الرأسمالية من ظلم وإفقار وتدمير للبيئة وكل ما يمثله اليمين من عنصرية وكراهية وقومية مقيتة.