رؤيتنا (تقرير سياسي دوري تصدره حركة الاشتراكيين الثوريين) – 23 أكتوبر 2018

نحو الانتفاضة الفلسطينية الثالثة
في ظل انشغال الإعلام العالمي بجريمة النظام السعودي في قنصلية إسطنبول وتبعاتها السياسية والاقتصادية، أحيا الفلسطينيون الجمعة الـ30 لمسيرة العودة في تحدٍ ثوري لواقع الاحتلال والحصار وعلى الرغم من سقوط أكثر من 200 شهيد وآلاف الجرحى حتى الآن.
تظل المقاومة الفلسطينية عبر العقود وفي أشكالها المختلفة مصدرًا للرعب للأنظمة العربية وعلى رأسها النظامين السعودي والمصري لما تشكله من إلهام وتشجيع لمقاومة الجماهير العربية لأنظمتها المستبدة.
مسيرات العودة هذه قد اندلعت بعد ثمان سنوات من الحصار الاقتصادي المميت وثلاث حروب مدمرة شُنَّت على القطاع منذ 2007. وقد ظل الاحتلال الصهيوني، يُستَخدَم قطاع غزة كحقل تجارب لما يريد تنفيذه في الضفة الغربية، وهو مزيج بين أكبر درجة من التحكم مع أقل درجة ممكنة من المسئولية. وكل ذلك تحضيرًا لما يجري تخطيطه لدولة صهيونية موحدة مع جزر فلسطينية معزولة ومحاصرة.
وعلى الرغم من أن الظروف في الضفة الغربية لم تصل بعد للحالة الكارثية في قطاع غزة، فهي أيضًا أوضاع لم تعد محتملة لغالبية سكان الضفة. لم يعد سكان الضفة يحتملون فساد وفشل محمود عباس والسلطة الفلسطينية وقد أصبح مكروهًا ومرفوضًا من غالبية جماهير الضفة. ففي استطلاعات الرأي الأخيرة عبَّرَ أكثر من 60٪ من سكان الضفة أنهم يريدون استقالة أو إقالة محمود عباس و75٪ يرون أن أوسلو وعملية السلام هي السبب في المآسي الفلسطينية الحالية.
كانت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى هي دهس سيارة إسرائيلية لمواطنين فلسطينيين في مخيم لاجئين في 1987. أما الانتفاضة الثانية فقد اندلعت بعد دخول آريل شارون لباحة مسجد الأقصى في عام 2000. وربما تكون الشرارة هذه المرة في ما يشبه إعلان حالة الحرب من قبل دونالد ترامب والإدارة الأمريكية على الشعب الفلسطيني، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وقطع المساعدات الاقتصادية للاجئين الفلسطينيين، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وتعيين ديفيد فريدمان سفيرًا أمريكيًا، وهو صهيوني متطرف ومؤيد لتوسع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. وطبقًا لقناة التلفزيون الإسرائيلية فقد حذر رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي، جادي أيزنكوت، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن احتمالية اندلاع انتفاضة جديدة في الضفة الغربية يتجاوز 80%.
وفي كل الأحوال علينا الاستعداد لانفجار جديد للغضب الفلسطيني في غزة وفي الضفة. وهذا الغضب سيُواجَه بعنفٍ صهيوني غير مسبوق، بدعم وتأييد كامل من الإدارة الأمريكية. مسيرات العودة هي بمثابة بروفات أولية للانتفاضة الفلسطينية القادمة. المقاومة الفلسطينية تعرف ذلك والصهاينة يعرفون ذلك جيدًا. أما الأنظمة العربية، التي تشارك إسرائيل في محاصرة الشعب الفلسطيني ومحاولة خنق المقاومة، فيُشكِّل ذلك الاحتمال مصدرًا دائمًا للرعب.
السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا علينا عمله هنا في مصر؟ أليس علينا إعادة إحياء كافة أشكال التضامن مع الشعب والمقاومة الفلسطينية؟ ألا يُشكِّل ذلك فرصة للخروج من حالة الركود والشلل السياسي التي نعاني منها؟
هل نحن على مشارف ركود عالمي جديد؟
في بدايات هذا القرن، ادعى كثيرٌ من مفكري اليمين الاقتصادي في الغرب أن النظام الرأسمالي العالمي قد تجاوز إلى الأبد تلك الأزمات الكبرى التي عصفت بالنظام العالمي في ثلاثينيات وسبعينيات القرن الماضي. جاءت أزمة 2007 – 2008 والركود الكبير لتضع تلك الادعاءات في سلة المهملات. وها نحن اليوم بعد عشرة أعوام على اندلاع تلك الأزمة ويبدو أننا على مشارف أزمة عالمية أعنف وأعمق من سابقتها. لماذا؟
أولًا هناك تغير مهم في وضع البنوك المركزية للدول الكبرى. فخلال العقود الخمس الماضية كانت هذه البنوك تتصدى لفترات الركود الاقتصادي بتخفيض سعر الفائدة بحوالي 5٪. ولكن اليوم وحتى بعد عشرة أعوام من الركود الكبير في 2008، فحتى البنك الفيديرالي الأمريكي في ظل الانتعاش الحالي ليس لديه تلك المساحة حتى يصل إلى الصفر. أما اليابان وأوروبا فلا توجد أي مساحة على الإطلاق حيث ما زال سعر الفائدة قريبًا من الصفر.
وثانيًا ما زالت تلك البنوك المركزية مُحمَّلة بديونٍ كبرى منذ الأزمة الماضية بسبب سياسات التيسير الكمي (ضخ الأموال في الاقتصاد). هذا الوضع يقلص من قدرة البنوك المركزية في إستخدام نفس السياسة في حالة دخول الاقتصاد في ركود حاد. على سبيل المثال هناك حد أقصى مفروض على البنك المركزي الأوروبي بعدم شراء أكثر من 33٪ من الدين العام لأي دولة. هذا الحد لن يكفي على الإطلاق في حالة إنهيار البنوك الإيطالية على سبيل المثال.
وثالثًا اعتمدت حكومات الدول الكبرى خلال الركود الكبير على درجة كبيرة من التعاون بين مختلف البنوك المركزية حول العالم لاتباع سياسات متناغمة ومواجهة موحدة. أما اليوم ومع تصاعد الحروب التجارية والتوترات الجيواستراتيجية وانتشار النزعات القومية الشعبوية سيكون من الصعب تنظيم أي رد فعل منسق وموحد بين الدول الكبرى في حالة ركود عالمي جديد.
ورابعًا أدت أزمة 2008 إلى سنواتٍ من البطالة والتقشف في مختلف أنحاء العالم. هذه الحالة أدت بدورها إلى تآكل التأييد السياسي لأحزاب الوسط على اليمين واليسار (أحزاب كانت قد تبنت الليبرالية الجديدة منذ التسعينات). وفي الفراغ الناشئ عن هذا التآكل صعدت أحزاب وحركات اليمين الشعبوي والفاشي المعتمدة على التعبئة العنصرية ومعاداة الأقليات والمهاجرين، خاصة المسلمين، والعودة لسياسات قومية حمائية ضيقة -أي العداء لليبرالية الجديدة والعولمة الرأسمالية من اليمين وليس من اليسار (ترامب في أمريكا، وحملة بريكست في بريطانيا، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وصعود اليمين المتطرف في السويد وإيطاليا والمجر وبولندا والنمسا، وأخيرًا صعود الديكتاتوريات الشعبوية اليمينية في بلدان الجنوب العالمي: تركيا، الفلبين، مصر، البرازيل).
لكن الأزمات مثلما تدفع قطاعات نحو اليمين فهي تدفع بقطاعات أخرى من الجماهير نحو اليسار. ولعل أبرز مثالين لهذه الظاهرة هما الحراك اليساري الشبابي حول جريمي كوربن في بريطانيا، وصعود حركة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا حول برني ساندرز.
لكن حتى الآن يبدو اليمين أنجح في استثمار الأزمة وعواقبها الاجتماعية. يُشكِّل ذلك خطورةً ضخمة وتحدٍ كبير لليسار عالميًا خاصة في حالة دخول الاقتصاد العالمي مجددًا في فترة ركود حاد.
وإذا كان ما طرحناه في النقاط السابقة صحيحًا فنحن، خلال العامين المقبلين، سنكون على مشارف أزمة عالمية جديدة ربما تكون أعمق وأكثر حدة من الركود الكبير في 2008. ومن يتصوَّر أن دولًا مثل مصر لن تتأثر بذلك يكون واهمًا. أحد أهم علامات الأزمة القادمة هو الفجوة في النمو بين الدول الصناعية الكبرى وما يسمى بالأسواق الناشئة. فارتفاع سعر الفائدة في أمريكا من صفر إلى 2.5٪، وارتفاع قيمة الدولار بنسبة 25٪ خلال العامين الماضيين، وارتفاع سعر البترول ليتجاوز 80 دولار للبرميل، كل تلك التطورات تدفع بالأموال والاستثمارات الأجنبية للهروب من الأسواق الناشئة والعودة للاقتصاد الأمريكي، وتزيد من عبئ الديون وفوائدها على الدول المديونة مثل مصر. وهو ما يعني أن الركود العالمي القادم ستظهر أعراضه في الأسواق الناشئة قبل الاقتصادات المتقدمة.
وفي الحالة المصرية سيحاول النظام اقتصاديًا أن يجعل الفقراء يدفعون ثمن الأمة بمزيدٍ من التقشف والتقليص من الخدمات العامة وتجميد الأجور. وسياسيًا سيستثمر النظام الطائفية والشوفينية ونظريات المؤامرة والخوف من الفوضى والانهيار والحرب الأهلية، وبالطبع الإرهاب والإخوان والمخاطر التي تواجه الدولة، أي أنه سيستخدم كل أسلحة اليمين الأيديولوجية للتعبئة ضد أي شكل من أشكال المقاومة الاجتماعية أو السياسية لسياساته الاقتصادية المعادية للفقراء. هذا بالطبع إلى جانب تعبئة أجهزته الأمنية والقضائية لقمع أي محاولات لتنظيم أي شكلٍ من المعارضة.
لن نمل من تكرار ما نراه المهمة الأساسية لكل القوى الديمقراطية واليسارية في مصر اليوم، وهي بناء المقاومة المنظمة لما هو قادم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي. أما كيف نفعل ذلك في ظل القمع الحالي، فنحن لسنا أول من اضطر للعمل في ظل ديكتاتورية كهذه. فقد تمكَّن اليسار والحركة العمالية من تنظيم مقاومة حتى للنازية والفاشية في ظل هتلر وموسوليني والديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية. علينا دراسة ذلك التراث النضالي والعمل على تطوير برنامج للمقاومة.