أقباط مصر بين اضطهادهم في المنيا والمتاجرة بهم في العاصمة الجديدة

يحاول السيسي سنويًا أن يبرهن على مزاعمه بتحسين أوضاع المسيحيين في مصر عن طريق الزيارة السنوية إلى أثرياء الكنيسة مرة في كاتدرائية العباسية والأخرى في صحراء التجمع. ولكن استخدام مثل هذه الأدوات هذا العام لا يبدو مجديًا؛ فهذه المرة يواجه الديكتاتور العسكري موجةً واسعةً من الغضب إزاء إخفاقاته المُتعدِّدة، ليس فقط على الجانب الأمني بالنسبة للمسيحيين، وإنما كذلك على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والصحي.
لم يُحقِّق السيسي أيًّا من وعوده تجاه المصريين، وبخاصةٍ المسيحيين الذين دفعوا على جميع المستويات ثمن تأييدهم له، لاسيما مسيحيو الصعيد، والمنيا بصورةٍ خاصة. وحتى عندما حاول السيسي أن يتحدَّث عن أوضاع المسيحيين، فَضَحَ نفسه بعد أن قال “المسيحيين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ونموت علشانهم كمان”، وكأنه يتعامل مع جالية وليس جزءًا من شعب مصر يتفضَّل عليه بالحقوق.
زيارة كل عام.. وجرائم على مدار العام
ذَهَبَ السيسي هذا العام كالملك المُخلَّد مُجدَّدًا ليسرق الأضواء، محاولًا بثَّ الطمأنينة في نفوس المسيحيين على مستقبلهم في القادم القريب، وساعيًا لتجميل ما أفسده نظامه طيلة أعوامٍ عديدة من الحكم في طريقة التعاطي مع قضايا الأقباط، مُذكِّرًا إياهم أن الكنيسة التي تجمعهم الآن بُنِيَت من “أموال الدولة” بتكلفةٍ تجاوَزَت الثلاثين مليون جنيه، في وقتٍ تنهب الدولة فيه كل مليم من الفقراء لتوطيد سلطتها وترسيخ أجهزتها الأمنية.
كالعادة فضحت الوقائع مزاعم السيسي سريعا، فقد حشدت الدولة أجهزة الإعلام وكافة إمكانياتها لتقديم “إنجاز” السيسي في الصحراء الشرقية، بافتتاحه مسجد وكنيسة في عاصمته الجديدة، محاولًا تقديم نفسه كقاهرٍ للفتنة الطائفية وموحدٍ للأديان عبر “ممر الحضارات” الذي يربط بين مسجد “الفتاح” العليم، وكنيسة ميلاد المسيح، ولكن لم يكد ينتهِ الحفل حتى ظهر ما يعانيه المسيحيون بعيدًا عن الكاميرات والتغطيات الإعلامية، فتواطأت داخلية السيسي على منع المسيحيين في قرية في المنيا من الصلاة. ليست واقعة منع المسيحيين من الصلاة في قرية المنيا فريدة من نوعها، بل على العكس، مشاهد الاحتفال في العاصمة الإدارية هي الفريدة والشاذة في سياق اضطهاد منظم للمسيحيين، تشهد به وقائع وأحداث 2018.
على الصعيد الأمني، وهو ما يتفاخر نظام السيسي بإنجازاته فيه شهد عام 2018، استشهاد 38 قبطي في حوادث متفرِّقة، ما بين تفجيرات وحوادث عنف طائفي، ما يفضح مزاعم الأمن والأمان التي يدعيها إعلام السيسي، فلم تكن الحوادث جديدةً أو بطرقٍ غير مسبوقة. بدأ ذلك العام بمقتل مسيحيين على يد سلفي أطلق عليهم النيران في محل عملهم بشارع الدكتور في العمرانية في قلب القاهرة، وأسفر إطلاق النيران عن مقتل شقيقين، هما أشرف وعادل بولس. قبل الواقعة بيومٍ واحد، ترجَّل متطرِّف مُسلح في شوارع حلوان لمدة ساعتين، قَتَلَ خلالهما اثنين من المسيحيين أمام محل عملهم، ثم اتجه صوب كنيسة مارمينا بحلوان وقَتَلَ 8 أشخاص دون أيِّ تدخُّلٍ أو حماية في منطقةٍ المُفتَرَض أنها من أكثر المناطق من حيث الكثافة الأمنية بحلوان.
لم تتوقف الحوادث عند ذلك الحد، إذ قُتِلَ أحد أقباط العريش بناءً على هويته، لدى عودته من العريش بعد خيبةِ أملٍ في إيجاد وظيفةٍ في محافظاتٍ أخرى. إذ استُشهِدَ باسم شحاتة حرز في موقف العريش، بعد أن استوقفه ثلاثة مُسلَّحون هو وشقيقه وشخص ثالث كان برفقتهما، وسألوهم عن ديانتهم، وأطلق أحدهم النار على رأس باسم بعدما رأوا وشم الصليب على معصمه.
هكذا بدأ العام 2018، وتبعت ذلك سلسلةٌ من جرائم القتل والاعتداءات على الأقباط في ظلِّ غياب الأمن وتجاهل المسئولين. أصبح من المعتاد أن نقرأ عن خبر استشهاد مسيحي أو انفجار كنيسة. لم يتوقَّف نزيف الأقباط، إذ شهد العام نفسه، في يوم 2 نوفمبر، الهجوم على موكبٍ قبطي كان متوجِّهًا لزيارة دير الأنبا صموئيل المعترف بالمنيا، ليقع سبعة شهداء إثر إطلاق النار على الأتوبيسات التي كانوا تقلّهم. خَرَجَ المُتحدِّثون باسم وزارة الداخلية آنذاك ليُبرِّروا وقوع الحادث، في ما يشبه إلقاء اللائمة على الضحايا الأقباط، قائلين إن الطريق الذي سلكوه ليس مُؤمَّنًا، رغم أن هجومًا سابقًا وَقَعَ في المكان نفسه قبل ذلك بعام، في يوليو 2017، وراح ضحيته عشرون شهيدًا.
انتهت الجرائم الطائفية بحق الأقباط خلال العام الماضي بواقعة مقتل رجلٍ مسيحي، يُدعى عماد كمال صادق، وابنه ديفيد، أمام كنيسة نهضة القداسة الأولى بالمنيا في 12 ديسمبر الماضي، على يد أمين شرطة أطلق عليهما 5 طلقات نارية أودت بحياة الإبن على الفور، بينما ظلَّ الأب ينازع الموت أمام رجال الشرطة دون تدخُّلٍ أو إسعاف. نجد في تلك الواقعة ما يعكس لنا قتل المسيحيين بدمٍ بارد، للوثوق التام في أن ما مِن محاسبةٍ أو عقابٍ سيقع على الجاني، فلا ثمن لدم القبطي عند هذا النظام.
هذا السجل الحافل من الجرائم تُضاف إليه وقائع تهجير أسر مسيحية بأكملها من قراها، لينتهي الأمر في كلِّ مرةٍ بعقد جلسات صلح عرفية، بإشرافٍ وتواطؤٍ مباشر من السلطات الأمن المحلية التي تُقِرُّ التهجير وتشرف عليه.
ماذا عن الكنائس؟
لم يتحسن وضع بناء الكنائس بالرغم من زعم الحكومة المصرية العمل على تحسن الموقف وعملها على حل المشكلة فبالرغم من قيام الحكومة المصرية بعمل لجنة خاصة بتقنين أوضاع الكنائس في مصر والتي تعمل بحسب قانون بناء الكنائس رقم 80 لسنة 2016 إلا أن كل ذلك لم يثمر إلى نتائج ملموسة يمكن للكنيسة أن تعول عليه أمام شعبها مقابل ما تقدمة الكنيسة من خدمات للنظام العسكري.
فلم يحدث أي جديد بشأن افتتاح الكنائس القديمة أو التي واجهت بعض المشاكل نتيجة لنزاعات طائفية فبالرغم من تقديم عدد لا بأس به من الكنائس يقارب 35 كنيسة قديمة ليست جديدة الانشاء إلا أن الحكومة المصرية لم تستطع إلا فتح 7 كنائس وإغلاق الباقي بشكل نهائي حتى إعادة البت في القضية وهو ما يشير إلى فشل ذريع في تعاطي الحكومة المصرية مع المشكلة ولجنة تقنين بناء الكنائس.
زيارات عبثية من الديكتاتور العسكري
لم يجد السيسي ما هو جديد لكي يقدمه او يقوله بالنسبة للمسيحيين فقد اعتادوا على الوعود الواهية في كل عام المصحوبة بالتصفيق لأي شخص ذي صفة يحضر القداس، مع الوضع في الاعتبار أن كل من يحضر قداس العيد في الكاتدرائية هو شخص ذو شأن في الكنيسة لأن حضور تلك القداسات تكون بدعوات خاصة للمقتدرين من الأقباط أو أصحاب المعارف والوسائط، لم يجد السيسي سوى الحضور بنفسه إلى قداسات الأعياد لكي يبرهن على اهتمامه بشؤونهم؛ فبعد الفشل المستمر في السيطرة على حوادث القتل وعدم تقنين وضع الكنائس أو ترميمها لم يجد سوى الظهور الشخصي وبناء قلعة في صحراء التجمع لرجال الأعمال من المسيحيين والذين لم يصيبهم أي ضرر من الأساس نتيجة امتيازاتهم الاجتماعية، فقد قام ببناء كنيسة تحتضنهم في القاهرة الجديدة يصعب على الفقراء من المسيحيين هم وذويهم الوصول لها لأنك لن تجد شيء ينقلك منها أو إليها سوي السيارات الخاصة التي لا يحتكم معظمهم على تكاليفها. ويتم استقبال السيسي في كل مرة بأكاليل الورود لأنه بالفعل يعمل لصالح رؤوس الكنيسة وميسوري الحال من المسيحيين وتدفع سياسات حكومته نحو تأمينهم أكثر وأكثر، لكنه لن يستطيع تقديم ما هو أكثر.
زار السيسي الكنيسة منذ جلوسه على كرسي الرئاسة ست مرات، اثنان منهم كانتا لتعزية البابا تواضروس، شريكه وأكبر داعميه في كل سياساته، مرة بخصوص حادث قتل الأقباط في ليبيا والأخرى في حادث تفجير كنيسة طنطا والاسكندرية، أما عن الزيارات الأربعة الاخرى فكانت بمناسبة عيد الميلاد المجيد في السابع من يناير من كل عام بدأها السيسي في عام 2015 بزيارة مفاجأة حسب وصف الإعلام، أما الثانية والتي كانت في عام 2016 كان أشبه بلقاء للاعتذار عن تأخره هو والحكومة في ترميم الكنائس التي تم تدميرها في أعقاب الانقلاب العسكري في 2013 وما شهده صعيد مصر من حوادث اعتداء على الكنائس بشكل خاص وقد صرح السيسي خلال الزيارة “وعدتكم وأرجو تقبل التأخير في ترميم الكنائس، ومن سنن ربنا سبحانه وتعالى التنوع والاختلاف، ربنا خلقنا أشكالًا وألوانًا ودياناتٍ ولغاتٍ وعاداتٍ وتقاليد مختلفة، ولا أحد يستطيع جعل الناس كلهم شيء واحد، وتأخرنا عليكم في ترميم وإصلاح ما حُرِقَ من كنائس خلال عام 2013، وخلال هذا العام سيتم إصلاح كل ذلك، وأرجو أن تقبلوا اعتذارنا”.
في عام 2017 توقع الجميع غياب السيسي عن القداس لأنه كان العام الأكثر دموية في حق الأقباط من حيث أعداد الشهداء إلا أنه لم يبالِ، وذلك لعدم وجود ردة فعل من رأس الكنيسة أو الشعب الملتف حولها بل نال دعمهم في كل قرار وكانوا أول المصطفين في تأييده في كل شيء. ذهب السيسي في ذلك العام خالي الوفاض لا يجد ما يقوله خصوصًا بعد عدم حدوث أي تطور في ملف المسيحيين من حيث الاستهداف أو على مستوى الكنائس ليعدهم ببناء اكبر كنيسة في تاريخ مصر بالعاصمة الإدارية الجديدة “العام المقبل سيكون قد مرَّ 50 عاما على إنشاء الكاتدرائية والعام المقبل سيكون داخل العاصمة الإدارية الجديدة أكبر كنيسة ومسجد في مصر وسأكون أول المساهمين في بنائهما وسنحتفل بالافتتاح”.
أما عن 2018 فقد وجد سبب واضح لأول مرة يجعل من حضوره إلى الكنيسة وإغراقه بالورود سبب حقيقي وهي بناء تلك القلعة الضخمة في صحراء التجمع ليتمتع بها رواد الكمبوندات والوحدات السكنية التي تتخطى أسعارها الملايين بينما يُقتل المسيحيون بدم بارد دون تعزية او محاكمة عادلة.
هكذا لم يقدم السيسي أي شيء جديد للمسيحين على أي مستوى سوى بناء كنيسة ميلاد المسيح في العاصمة الإدارية الجديدة، بينما تتعمق الطائفية واضطهاد الأقباط في مصر بفضل نظام يبسط سيطرته على المؤسسات الدينية، سواء الإسلامية أو المسيحية، مستخدمًا إياها في تدعيم هيمنته عبر استصدار فتاوى الأزهر وتصريحات البابا المؤيدة له، ليصبح تأييد السيسي هو مظهر الوحدة الوطنية الوحيد بين مسجد وكنيسة يحاول الديكتاتور تلميع نفسه بهما.