بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

رؤيتنا (تقرير سياسي دوري تصدره حركة الاشتراكيين الثوريين) – 9 مارس 2019

التعديلات الدستورية: تحدي جديد وفرصة جديدة

على مدار أكثر من شهر، يبذل النظام المصري قصارى جهده في حملةٍ على مستوياتٍ متعدِّدة للترويج للتعديلات المُزمَع إجراؤها على الدستور بغرض تمديد حكم الديكتاتور العسكري. أطلق النظام نواب برلمان المخابرات، وقطيع صحفييه وإعلامييه، وحفنةً من الأحزاب السياسية المؤيِّدة له، كي يسوِّقوا شتى أنواع التبريرات لهذه التعديلات؛ بدءًا من دعاوى “الحفاظ على الاستقرار” وصولاً إلى ضرورة “مواصلة الإنجازات”، وغير ذلك من الذرائع المثيرة للسخرية.

وفي إطار حملات القمع والتنكيل المتصاعدة منذ أعوام عديدة، دشَّنَت الداخلية حملةً خاصة بمعارضي التعديلات الدستورية بدأت باعتقال أربعة أعضاء من حزب الدستور خلال الأسبوع الأخير من شهر فبراير، وربما تتواصل خلال الفترة المقبلة، في إطار سعي السلطة لتمرير التعديلات دون أدنى معارضة تُذكَر.

تعكس التعديلات الدستورية توافقًا بين أجهزة الدولة ورجال الأعمال الملتفين حولها والمؤيدين لها، على تمديد سلطة الديكتاتور والمزيد من إحكام السيطرة العسكرية على كلِّ شيء (باستثناء معارضة محدودة من جانب قضاة مجلس الدولة الذين تنتقص التعديلات من صلاحياتهم). كبار ضباط الداخلية وجنرالات الجيش بالطبع يؤيدون هذه التعديلات التي “تشرعن” المزيد من الصلاحيات لهم، وكبار رجال الأعمال كذلك يودون الحفاظ على الأوضاع التي تزيد فيها ثرواتهم (زادت ثروة نجيب ساويرس، على سبيل المثال، بمقدار 900 مليون دولار من 2016 إلى 2017، وناصف ساويرس بمقدار 2.9 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وتجاوزت ثروة الأخير ضعف ممتلكات دونالد ترامب خلال العام الماضي).

الكارثة الأكبر في هذه التعديلات هي مد فترة بقاء الديكتاتور في السلطة لفترتين إضافيَّتين، بعد انقضاء الفترة الراهنة -أي حتى العام 2034- وذلك بتعديل المادة 140 الذي يعود إلى نظام 6 سنوات للفترة الرئاسية. لكن التعديلات لا تقتصر فقط على “دسترة” بقاء الديكتاتور، بل تمتد أيضًا إلى ترسيخ سطوة المحاكمات العسكرية (تعديل المادة 204)، والمزيد من هيمنة الجيش على الحياة المدنية (تعديل المادة 200)، وإلغاء وجوب نظر مجلس الدولة في مشاريع القوانين وعقود الدولة أو أيٍّ من مؤسساتها (تعديل المادة 190)، وغير ذلك. ولا شك أن النظام من خلال هذه التعديلات يسعى إلى تركيز السلطات في يد الديكتاتور وجنرالات الجيش.

تعبِّر الدساتير والقوانين في أيِّ دولةٍ بصورةٍ عامة عن توازنات القوى بين الطبقات المختلفة في مرحلةٍ معينة. إذا رَجَحَت كفة الدولة وطبقة الأثرياء التي تنعم بحمايتها، تستخدم مواد الدستور وبنود القانون كيفما تشاء لمصلحتها هي، بل وفي كثيرٍ من الأحيان يمكنها أن تناقض مواد الدستور، طالما أنها تُحكِم السيطرة على حركة الجماهير. دستور 2014، على سبيل المثال، يحفظ -على المستوى الشكلي فقط- حق تشكيل الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الأهلية، وإنشاء النقابات، ومن المفترض أنه يكفل الحق في جميع أشكال الاحتجاج السلمي، ويحظر التفتيش أو المراقبة أو التنصُّت إلا بأمرٍ قضائي. لكن ما يحدث على الأرض هو العكس التام من ذلك؛ حيث الملاحقات والاعتقالات المفتوحة وحتى الإخفاء القسري والتصفيات الجسدية.

والآن يستعد النظام ليعصف بالدستور الذي وضعه بنفسه، ليتوافق مع متطلَّباته الجديدة. سبق أن فعلها مبارك من قبل، بتعديل المادة 76 الخاصة بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية، وسبق أن فعلتها أيضًا ديكتاتوريات عتيدة في التاريخ؛ في الأرجنتين تحت حكم فيديلا، وفي تشيلي في ظلِّ بينوشيه على سبيل المثال. لكن تعديلاتٍ كهذه لم تنفع هؤلاء الطغاة حين هوت أنظمتهم.

لم تسقط هذه الديكتاتوريات من تلقاء نفسها ولا بضربةٍ قاضية جاءت من الفراغ، بل من خلال البناء الدؤوب وطويل الأمد للمقاومة في معارك يندمج فيها السخط السياسي والاجتماعي. وحتى وإن لم تحرز المعارضة انتصارًا ذا شأن فيها، كانت تلك المعارك دائمًا خطواتٍ مهمة في طريق البناء. صحيحٌ أن تحديات القمع هائلة، لكن من المُرجَّح أن تتصاعد إذا مُرِّرَت هذه التعديلات بسلام كما يُخطِّط النظام. كلُّ تحدي جديد هو أيضًا فرصة جديدة للنضال، الذي لابد أن يبدأ الآن ويمثِّل نقطة انطلاقٍ لمعارضةٍ جادة ضد نظام الاستبداد والإفقار، بالأخص مع تصاعد الغضب الشعبي ضد الديكتاتور السيسي.

——————-

خمس رسائل من السودان والجزائر

موجةٌ جماهيرية جديدة لا تزال تتصاعد لأسابيع عديدة في الجزائر، وللشهر الثالث على التوالي في السودان. موجةٌ جديدة تثبت أنه طالما استمرت المشكلات السياسية والاقتصادية الهيكلية في أنظمة المنطقة -حيث الاستبداد والديكتاتورية وسياسات الليبرالية شديدة الارتباط بالفساد- ستستمر الجماهير في المقاومة وحتى الانتفاض والثورة لانتزاع مصالحها كلَّما توفَّرَت الظروف الطبقية والسياسية المناسبة لذلك. تحمل الانتفاضة الجماهيرية في السودان والجزائر رسائل مهمة لشعوب المنطقة، لعل هذه أهمها:

الرسالة الأولى: عصر الثورة الجماهيرية لم يغلق أبوابه بعد
على مدار أعوام عديدة، بذلت السلطات الديكتاتورية والثورات المضادة في المنطقة أقصى جهدها ليس فقط لإلحاق الهزائم بموجة الربيع العربي 2011-2013، بل أيضًا لترسيخ صورة أيديولوجية كئيبة عن الثورة -كخيار سياسي- بأنها لا تجلب إلا الوبال على الجماهير ولا تلقى مصيرًا سوى الهزيمة.

لكن عودة الجماهير إلى المشهد في السودان والجزائر يثبت أن الثورة لا تزال خيارًا سياسيًا للشعوب، بل هي الحل الوحيد لتجاوز مشكلات أنظمةٍ لا مجال لإصلاحها. في الجزائر، لا يمثل بوتفليقة سوى واجهةٍ تعمل من خلفها شبكاتٌ فاسدة من الجنرالات وكبار رجال الأعمال. وفي السودان، يقف البشير على رأس نظامٍ دموي يمارس سياساتٍ تقشُّفية قاسية بأمر صندوق النقد الدولي.

في الوقت الذي ينتفض فيه السودانيون والجزائريون، تتطوَّر الحركة الجماهيرية في المغرب باحتجاجاتٍ واسعة لقطاعاتٍ مهنية وعمالية قوية، وفي تونس بإضراباتٍ عمالية كبرى، وفي لبنان ضد تردي الأحوال المعيشية، ومن قبل ذلك في الأردن حين أرغمت الحركة الجماهيرية الملك في يونيو الماضي على التراجع عن القرارات الحكومة الاقتصادية، ومن قبل ذلك أيضًا بمسيرات العودة الكبرى في فلسطين، ويتصاعد الغضب الشعبي في مصر وغيرها من الدول ولا يزال يبحث عن مُتنَفَسٍ ينفجر منه.

لا تزال ذكرى ثورات المنطقة، رغم الهزائم التي مُنِيَت بها، قادرةً على بثِّ الإلهام وتقديم الدروس والخبرات، ولا يزال شبح الثورة يرعب طغاة المنطقة. إذا ما حقَّقَت الانتفاضة في السودان أو الجزائر انتصاراتٍ مهمة في الفترات المقبلة، ستشيع موجاتٍ من الثقة والأمل عبر المنطقة.

الرسالة الثانية: من السياسي إلى الاقتصادي والعكس
على عكس الصورة الشائعة التي تُصدِّرها وسائل الإعلام العربية، وحتى العالمية، فقد اندلعت الانتفاضة في السودان والجزائر لأسبابٍ أعمق كثيرًا من مجرد الشعارات المباشرة المطروحة التي تختزل وسائل الإعلام هذه الحركات الشعبية فيها. في السودان، جاءت شرارة الانتفاضة الجارية حين قرَّر النظام مضاعفة سعر الخبز ثلاثة أضعاف، لكن سرعان ما انعكس الاستياء الشعبي الواسع -منذ انطلاق الانتفاضة في 19 ديسمبر الماضي- في رفع شعار إسقاط النظام، ليعلن الشعب أن لا مجال لتفاوضٍ أو مساومةٍ مع نظام البشير الدموي، الذي أفقر شعبه على مدار ثلاثة عقود، بل أن “يسقط بس”. وفي الجزائر، توسَّعَت شعارات ومطالب الاحتجاجات سريعًا من رفض ترشُّح بوتفليقة لولاية خامسة إلى المطالب الاجتماعية بإنهاء أزمة البطالة (29% بين الشباب الأقل من 30 عامًا)، علاوة على الاحتجاج ضد الغلاء وتفشي الفقر والفساد (رُبع السكان تحت خط الفقر)، ولا تزال الحركة ترفع شعار “إسقاط النظام” وليس فقط رفض ترشُّح الرئيس الذي لم يظهر إلى العلن منذ 2013 بسبب مرضه.

بعبارةٍ أخرى، سَمَحَ اتساع الحركة الجماهيرية في كلا البلدين بالانتقال من الاقتصادي إلى السياسي (من سعر الخبز إلى إسقاط النظام في السودان)، ومن السياسي إلى الاقتصادي (من رفض العهدة الخامسة إلى المطالب الاجتماعية في الجزائر). اتساع الحركة يعني حربًا مفتوحة على الجبهة السياسية كما على الجبهة الاقتصادية والاجتماعية. وهذا هو أكثر ما يخيف السلطات الديكتاتورية. وتظل إحدى المهمات الرئيسية في الانتفاضتين أن تندمج هذه الجبهات اندماجًا جذريًا كاملًا في اتجاه إسقاط النظام ككل.

الرسالة الثالثة: مواجهة مناورات السلطة
تتصاعد الانتفاضة في السودان والجزائر رغم مزيجٍ من القمع المباشر والابتزاز والتشويه والتنازلات الخادعة. يصر البشير منذ اندلاع الانتفاضة على اتهام “أطراف خارجية” بتحريك الاحتجاجات، ويحذِّر المتظاهرين من الانصياع وراء “المؤامرة”، ولا يمل من التشديد على الحصار الاقتصادي المفروض على السودان من أجل ابتزاز الثوار. وبالتوازي مع بعض التنازلات الخادعة، كدعوة البرلمان للتراجع عن التعديلات الدستورية (الشبيهة بالتعديلات الدستورية في مصر من حيث مدِّ بقاء الديكتاتور في السلطة)، فَرَضَ البشير أيضًا حالة الطوارئ. لكن في الليلة نفسها، الجمعة 22 فبراير، ردَّ الآلاف على ذلك بمسيراتٍ تجاوز عددها الـ80 مسيرة في مختلف مدن السودان. ولا تزال المظاهرات والإضرابات مستمرةً بصورةٍ يومية في أرجاء البلاد. كسرت انتفاضة السودان أسطورة الخوف التي ظلَّ النظام يزرعها على مدار ثلاثين عامًا.

يناور النظام في الجزائر أيضًا بالتعهُّد الذي نُقِلَ عن بوتفليقة بالمكوث في السلطة لعامٍ واحد، ثم إجراء انتخابات مبكرة وإعداد دستور جديد وإصلاحات واسعة، في التفافٍ أشبه بـ”لم أكن أنتوي الترشُّح” للديكتاتور المخلوع مبارك.

انتفاضة الجزائر أيضًا حطَّمَت أسطورة “العشرية السوداء” (1992-2002)، التي ظلَّ النظام يبتز بها الشعب طيلة سنوات، مُتوعِّدًا بتكرار ويلاتها حال معارضة استمرار النظام أو المساس به. طيلة هذه السنوات العشر، شنَّ النظام الجزائري حربًا قذرة ضد الفصائل الموالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد أن ألغى الجيش نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 على خلفية فوزٍ مؤكَّد حقَّقَته الجبهة.

لقد وصلت الانتفاضتان إلى مرحلةٍ سيكون فيها الانخداع بهذه المناورات أو الاستجابة لهذه الابتزازات معناه حملة انتقام سياسي شرسة وواسعة من جانب النظام ضد كل المعارضين.

الرسالة الرابعة: البناء طويل المدى
لا تتولَّد الانتفاضات الجماهيرية الكبرى من الفراغ، بل تندلع تتويجًا لسنواتٍ من النضال الشاق والدؤوب ضد الأنظمة الحاكمة. في السودان، لم يكن الشعب مستسلمًا قط لسلطة البشير. انتفض عشرات الآلاف في سبتمبر 2012 ضد التدابير الاقتصادية القاسية للنظام، وفي سبتمبر 2013 أيضًا انتشرت المظاهرات في الكثير من المدن وقوبلت بعنفٍ وحشي قُتِلَ فيه نحو 200 متظاهر. واستمرت المظاهرات والإضرابات خلال السنوات الماضية في مواجهة تحديات جسيمة حتى انفجرت في الانتفاضة الراهنة.

في الجزائر أيضًا، هناك تاريخٌ من الإضرابات العمالية، التي كانت تتجمَّع في الأفق لسنوات، كان أبرزها الإضرابات التي شارك فيها عشرات الآلاف من العاملين بقطاعيّ التعليم والصحة العام الماضي احتجاجًا على سياسة الأجور.

ربما ما كانت العواصف الجماهيرية في الجزائر والسودان لتهب من الأصل، بهذه القوة والصمود، لولا تجمُّع هذه الرياح في الأفق طيلة السنوات الماضية. هذا المسار يؤكِّد مرةً أخرى أن الانتفاضات الجماهيرية الكبرى تحتاج نضالًا تراكميًا وطويلًا في مختلف المعارك مهما بدت محدودة ومهما بدا النصر فيها بعيد المنال. وهذا بالتحديد ما نحتاجه في مصر اليوم.

الرسالة الخامسة: دور الطبقة العاملة
في خضم الصمود البطولي للمتظاهرين في السودان والجزائر، يتدخَّل “تجمُّع المهنيين السودانيين”، الذي يتألَّف من 8 تنظيمات نقابية، ليقود مسيرات وإضرابات يومية ضد البشير. وفي الجزائر بدأت بعض النقابات العمالية في تحدي النظام برفض العهدة الخامسة لبوتفليقة.

لا شك أن المسيرات الجماهيرية الهائلة في البلدين تضطلع بدورٍ شديد الأهمية في التحدي والتصعيد، لكن النظام قد يتحمَّل هذا النوع من التحدي، والأخطر أنه قد يستمر في قمع المسيرات والمظاهرات الكبرى على امتداد فتراتٍ طويلة. وبالتالي تحتاج الانتفاضتان لتدخُّلٍ حاسم من قطاعاتٍ عمالية كبرى بوقف عجلة الإنتاج (أو بالأحرى وقف عجلة الاستغلال)، من خلال إضراباتٍ جماهيرية مفتوحة، لإحداث شروخٍ كبرى في النظامين. صمود المسيرات الجماهيرية وتصعيدها يلوي ذراع النظام، لكن لا تزال هناك حاجةٌ ماسَّة لضربةٍ قاضية في وجهه بتحرُّكٍ مُنسَّق من الطبقة العاملة، بوصفها طبقة وفي مواقع عملها، لشلِّ النظام وتركيعه.