بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

حول الفساد والجيش وفيديوهات محمد علي

بسرعة البرق انتشرت مقاطع الفيديو التي ينشرها محمد علي، المقاول الذي تحول من التعاون مع المؤسسة العسكرية إلى التمرد عليها والتشهير بها.

انتشار هذه المقاطع على هذا النحو، رغم طبيعة الحديث المرسل الذي تضمنته وغياب أي توثيق للمعلومات، القليلة بالفعل في مقاطع الفيديو، إن دل على شيء فإنه يدل على أنها لاقت هوى كبير لدى قطاع واسع فقد بالفعل الثقة في السلطة، ولم يعد يتوسم فيها غير كل فساد.

وإذا كانت المعلومات المتناثرة التي وردت في مقاطع الفيديو تفتقد للدقة والتوثيق، فإن ما يمكن تأكيده من خلال الوثائق الرسمية أكبر بكثير مما ورد في تلك المقاطع.

تجلت أقوى مظاهر الفساد في الفترة الأخيرة من حكم مبارك في تولي رجل أعمال النظام أحمد عز رئاسة لجنة الخطة والموازنة في البرلمان، وكان هو نفسه محتكر صناعة الحديد. فكان وجوده في لجنة الخطة والموازنة يمنحه الفرصة لخلق فرص أكبر لاستثماراته عبر توريد الحديد لمشاريع الدولة التي تقرها لجنة الخطة والموازنة، في تضارب للمصالح كان سابقة من نوعها وقتها. ولكن ما وصل إليه نظام السيسي لم تقترب منه أحلام نظام مبارك، فالمجموعة العسكرية الحاكمة، لم تعد تسعى للاستفادة من مشروعات الدولة للحصول على أرباح، ولكنها حولت موازنة الدولة بالكامل لخدمة أرباحها.

يبدو ذلك من النظرة الأولى للموازنة العامة للدولة في العام المالي الجاري 2019/2020، والتي ارتفع فيها بند الاستثمارات الممولة من الحكومة من 100 مليار جنيه إلى 140 مليار جنيه، أي 40% دفعة واحدة، وكما يوضح بيان الموازنة نفسه تعد تلك النسبة هي الأكبر منذ عشر سنوات. هذا البند بالذات هو الأنبوب التي تتدفق منه أموال الموازنة إلى الهيئة الهندسية وجهاز الخدمة الوطنية وجهاز المشروعات والتابعة جميعا للقوات المسلحة.

يبدو ذلك أوضح إذا ما لاحظنا أن النسبة الأكبر من الاستثمارات تذهب لقطاع الشئون الاقتصادية، وهو القطاع الذي يشمل الطرق والكباري والأنفاق والمشروعات الكبرى، والتي تستولي عليها بالطبع المؤسسة العسكرية وتبلغ حصته من الاستثمارات 30.5% من إجمالي الاستثمارات، والقطاع الذي يليه هو قطاع الإسكان والذي تتولاه أيضا المؤسسة العسكرية وتبلغ نسبته 26.9% من إجمالي الاستثمارات، أي أن أكثر من نصف بند الاستثمارات البالغ 140 مليار جنيه تتحول لمشاريع تشرف عليها وتجني ثمارها المؤسسة العسكرية. واللافت للنظر، أن البند الثالث في الاستثمارات من حيث النسبة هو الخدمات العامة الذي يحصل على 19% من حجم الاستثمارات في الموازنة العامة. وهذا البند يشمل فيما يشمل رئاسة الجمهورية ومجلس النواب وغيرها، وقد يفسر هذا التضخم في استثمارات الخدمات العامة هذا الإنفاق على استراحات ومقرات الرئاسة في العاصمة الجديدة والعلمين والمواكب الرئاسية والفعاليات التي تنظمها الرئاسة ليتحدث فيها الرئيس.

هذا البذخ في الإنفاق على المشروعات التي تتولاها المؤسسة العسكرية يقابلها تقشف في الإنفاق على الاستثمارات في القطاعات التي تخدم عشرات الملايين من المصريين، فنصيب التعليم من الاستثمارات في الموازنة العامة 10.3% فقط، ونصيب الصحة 6.4%، هكذا تتحول الموازنة العامة للدولة إلى خدمة مصالح جنرالات المؤسسة العسكرية دون أدنى اعتبار لمصالح عشرات الملايين. فمشاريع الإسكان التي تنفق عليها الدولة ما يقرب من 40 مليار جنيه في عام واحد، لم تراعي الاحتياجات الحقيقية لمجتمع به أكثر من 10% من الثروة العقارية معطلة بالفعل، حيث يبلغ عدد الوحدات السكنية الخالية حوالي 12 مليون وحدة، أي أن أزمة السكن لا ترجع إلى عجز في عدد الوحدات، وقد تكفي تشريعات جادة، مثل فرض ضرائب على الوحدات المغلقة، وتحسين تطبيق الضرائب العقارية وتوجيهها النسبة الأكبر للتنمية بدلا من كونها مجرد نظام للجباية، وهي كلها قوانين تطبق بالفعل في دول رأسمالية، وتصل لحد الحق في اقتحام الوحدات المغلقة من قبل المشردين والإقامة فيها. ولكن ما تسعى الموازنة العامة للدولة إليه ليس توفير السكن للمحتاجين ولكن توفير أرباح طائلة لجنرالات المؤسسة العسكرية عبر إسناد مشروعات ضخمة للمؤسسة.

تبدو ظاهرة محمد علي منطقية في هذا السياق، فالمشروعات الضخمة التي تسندها الدولة للمؤسسة العسكرية، لا تقوم بها المؤسسة بنفسها، ولكنها تقوم بدور السمسار الذي يسند تلك المشروعات لمقاولين من الباطن، ولكن ضمن علاقة إذعان بين مقاول يتربح على الفتات الذي تلقي به المؤسسة، ومؤسسة تملك كل السلطة ولا يستطيع أحد أن يلزمها بشيء، خاصة في غياب أي شكل من أشكال الرقابة. وهنا لا يمكن إلا أن نتذكر ما حدث لرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة، عندما أصدر تقرير انتقد فيه استيلاء أجهزة سيادية على أراضِ الدولة.

ما جاء بمقاطع الفيديو ليس سوى قمة جبل الجليد، فإذا كان ما حصل عليه مقاول الباطن من أرباح طائلة تحولت لقصور وفيلات وسيارات فارهة في سنوات قليلة من تعامله مع المؤسسة العسكرية، مجرد فتات المؤسسة، فما حجم ما حصل عليه الجنرالات، وإذا كانت موازنة دولة يزيد عدد سكانها 100 مليون نسمة يتم إداراتها وفقا لمصالح حفنة من الضباط فما هي حجم الكارثة التي يمكن أن تواجهنا مستقبلًا.