بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

رسالة حول الموجة الحالية من فيديوهات وسائل التواصل الاجتماعي في مصر

نشهد هذه الأيام وفرةً من فيديوهات تفضح فساد النظام الحاكم. وكما هو حالنا جميعًا ممن يهتمون بالسياسة المصرية، لا تمثِّل هذه الفضائح فقط نقطة تحوُّل في الأحداث، بل تمثِّل أيضًا ظاهرةً مُرحَّب بها كثيرًا إذ حرَّكَت المياه الراكدة وألقت بظلالها على البعض تفاؤلًا وعلى البعض الآخر خوفًا. فبالنسبة لغير المنغمسين في السياسة المصرية إطلاقًا؛ جذبت هذه الفيديوهات انتباههم من نواحٍ شتى تمتد من التعاطف المخلص إلى الذهول من الحقائق المُفصَّلة والشيِّقة. ويشاهد بعضنا هذه الفيديوهات -من المهتمين بالسياسة- آملًا أن تحمل إشارةً لنوعٍ من الوعي السياسي والحركة، بينما يشاهدها البعض الآخر للضحك والتندُّر. لكننا نتفق أننا جميعًا لا ندري ما الذي يجري الآن تحديدًا، ومن هنا يمكننا التخمين.

يمكن وبشدة أن يكون محمد علي كشخص موضع نقاش حاد، من حيث بداياته ودوافعه وشبكة الدعم الذي يتلقاه، فكلُّ ذلك يمكن مناقشته طويلًا دون التوصُّل إلى نتيجةٍ حقيقية. لكن من جانب آخر يبدو أن فيديوهاته أقل قابلية لإثارة الخلاف حولها. فهو رجلٌ من داخل قطاع المقاولات عملَ مع الجيش لفترةٍ تزيد عن عِقد من الزمن وتشهد عليها وعلى صحة روايته مشروعاتٌ قائمة بالفعل؛ ليشجِّع ما كشفه من فضائح آخرين على الظهور.

يظهر بعض هؤلاء المتشجِّعين بشكل مباشر ومتسق، مثل مسعد أبو فجر، فيما سلك آخرون مسلكًا مختلفًا، مثل وائل غنيم. والثلاثة ينتمون للحظة التي نجد فيها أنفسنا في مواجهة مع مسائل نعلمها دون التصريح بها لنشاهدهم يذكرون اسم الديكتاتور الحاكم بالذم ويصخبون بشتى ألوان القدح السياسي.

على مدار ستة أعوام، شرع النظام القمعي في سحق أيِّ معارضة، واختطفت الدولة الاستبدادية مساحاتنا السياسية، وزرعت الخوف وفرضت علينا الهزيمة. استغلت الدولة هزيمتنا بكلِّ ما في وسعها، لنجد أنفسنا مرة أخرى ممزقين بين الجوع والخوف على علمٍ تام بأن الجوع إذ يسود؛ يسود معه الانقسام ويكتوي الجميع بإرهاب الدولة.

في سياق تاريخ السنوات القليلة ما بعد الانقلاب، ليست هذه الفيديوهات مجرد مادة للمشاهدة، بل أنها تجسِّد لحظة استفاقة من غفوةٍ كابوسية شهدنا فيها القتل المريع والتعذيب والاعتقال غير القانوني والاختفاء القسري وانسحاق شعب كامل أمام الفقر. لكن ماذا نفعل حيال هذه الفيديوهات، والأهم ماذا نفعل حيال هذه اللحظة؟

لابد ألَّا ننسى أن محمد علي أو غيره مِمَّن شاهدناهم في الأيام الماضية هم فقط يفضحون النظام، لكن لا وصاية لهم على مستقبلنا الاقتصادي ولا السياسي، بل ولا يملكون سلطةً على أيِّ مجالٍ خارج حدود صناعتهم أو الخلفيات التي يتحدَّثون عنها. ربما يكون مَن يفضح النظام في مجال الإنشاءات خبيرًا بهذه الصناعة، لكنه لا يملك أيَّ سلطة فكرية أو معنوية ليقود بلدًا أو حركة اجتماعية (ما لم يكن جديرًا بذلك). إذن فإن مَن “ينشرون الغسيل الوسخ” للنظام لا يملكون بالضرورة حقًا يخوِّلهم أن يدعون لحراك أو يطالبوا الشعب بالتظاهر لإسقاط ديكتاتور من خلال وسم متصدر للشبكات الاجتماعية (في وقت قياسي خلال أيام معدودة). لا يمكن لشخص لم يكن جزءًا من نضالنا الطبقي ولا يملك ظهيرًا سياسيًا أن يأمرنا بالمخاطرة بحياتنا في الشوارع بينما يقرر لنفسه المنفى اختيارًا. وفي الوقت نفسه، باعتبار أنهم يكشفون أسرار النظام، فلا يجدي معهم أن يُسألوا لماذا عملوا لسنوات عدة في صناعاتهم. وهذه بالضبط هي طبيعة كاشف الأسرار وفاضحها؛ فهو شخصٌ من الداخل. وهو ليس معارضًا كأمرٍ مُسلَّم به؛ إذ له مصالح شخصية وأخرى مشتركة (أحيانًا).

في ضوء ما سبق، علينا أن نشكر محمد علي وأمثاله حقًا لشجاعتهم ومعلوماتهم المفيدة، لكن علينا أيضًا أن نصر على الاحتفاظ بـ:

– الحق في الحذر من مصادر دعوات النزول للشوارع دون أن ندرك تمامًا ما نفعله بالضبط.

– الحق في الاستفسار عن الدوافع وراء كاشف الأسرار، ولكن ليس للحد الذي يشغلنا عن المعلومات القيِّمة التي تُنشَر.

– الحق في وضع الأمور في سياقها والتحقق منها وتحليلها وأن نستخدم المعلومات –نحن كمجتمع– استخدامًا يناسب المصلحة العامة وليس الخاصة، سواء كانت المصلحة الخاصة معلومة أو مجهولة.

بالأخذ في الاعتبار ما يجب فعله في هذه اللحظة، يتضح أن شيئا ما يحفز وعينا السياسي الجمعي. فهذه اللحظة قد بدأت والآن تتقد بالغضب. والضغط الاجتماعي يتصاعد ويقترب من نقطة غليان ما.

لكن علينا أن نتعلَّم من أخطائنا الماضية، وأن نجهِّز أنفسنا بشكل أفضل لما قد يظهر لاحقًا، وبصرف النظر عن التساؤلات المطروحة في كلِّ مكان، لابد ألا نسمح لها بتشتيت غضبنا أو توجيهه صوب وجهةٍ أخرى غير السلطة الحاكمة. لنأخذ فقط من المعلومات ما يفيد في إشعال شرارة حقيقية لنقاش يؤدي لأرضية مشتركة. فعلى كل ذي عقل وخبرة أن يمدنا بالأدوات اللازمة لتحليل المعلومات وإرشادنا نحو كيفية تعظيم هذه اللحظة التي ظهرت وتوسيع المساحة التي من خلالها يمكننا الاشتباك سياسيًا مرة أخرى.

لقد تفاعلنا مع هذه الفيديوهات بشكل أو بآخر وتحفَزنا حيال ما كشفته من معلومات لكن علينا أن نقوم بالمزيد. علينا أولًا أن نشجِّع وندعم كاشفو الأسرار، لكن دون تمجيدهم أو تقديسهم. لسنا شعبًا مكتوب عليه أن يحكمه الفراعنة لذلك علينا ألا نصنعهم. وبينما علينا أن نشارك بشكل عام في فعل سياسي، علينا في الوقت نفسه ألا نشارك في فعل لا نفهمه بحق تحت أي ظرف. نحن نحيا أوقاتًا عصيبة وعلينا أن نعرف المخاطر التي يمكن أن نتورط بها وأن نحسبها جيدًا؛ فالسياسة أفكار وتوجُّهات وليست فقط مهام يومية.

التفكير السياسي العاقل يمكنه أن يرينا أن الدولة لها دور وحيد كعضو من طبقة حاكمة يستخدمه المستغِلون ضد المستَغَلين، ويمكنه التنبيه على دور السلطة السياسية الذي يُخضع أيًا من أطراف القتال. يمكنه أن يؤشر لبدء صراع يشتبك فيه السياسي والاقتصادي (على سبيل المثال إذا خرج علينا محمد علي بفيديو في جو من الرضا عن الأحوال الاقتصادية لما اهتم به أحد). والأهم من ذلك أن التفكير السياسي يساعدنا في فهم أن وضعنا الاجتماعي الحالي ليس مؤسسًا وفق إرادة إلهية ما، لكنه من صنع الإنسان بناء على العلاقات الاقتصادية. فالنظم الاجتماعية ليست راسخة وقد تغيرت عبر التاريخ. فنحن نبني النظم الاجتماعية ونهدمها عبر الثورات. الأغلبية المُستَغَلَّة المقهورة التي تقف الآن مكتوفة الأيدي تتحول بالثورة إلى قوة واقعية جدًا قادرة على تغيير النظام.

يكشف التفكير السياسي الواعي عن اللحظة. ربما تمر لكنها موجودة. قد تطول إن تم توجيهها أو تُفقد دون توجيه. وهي لحظة تهم الحاكم كما تهم المحكومين. دائمًا ما تواجه المعلومات بالأكاذيب، وعلينا ألا نقع فريسة لمثل هذا الأسلوب. وحتى بافتراض أن جهة ما خططت لهذه اللحظة فإن ذلك لا يقلل من كونها غير محددة المسار بعد، ولا يزال في مقدورنا أن نحدد هذا المسار من خلال فهمها والتفاعل معها من أسفل.