قطاع الصحة في مصر.. نزيف لا يتوقف

الكثير من التساؤلات تُثار حول قطاع الصحة في مصر اليوم. تعج الدعاية الحكومية ووسائل إعلام النظام بأحاديثٍ وتصريحاتٍ عن استعداداتٍ استثنائية وتجهيزاتٍ فائقة المستوى بالمستشفيات العامة لعلاج المصابين بفيروس كورونا واحتواء المرض. وتأتي هذه الدعاية الحكومية وسط انتقاداتٍ منتشرة من أطباءٍ وممرضين على وسائل التواصل الاجتماعي لعدم توفير الوزارة حتى تلك الوسائل التي تحمي الكادر الطبي نفسه من انتقال العدوى.
لنلقي إذن نظرةً عامة على وضع قطاع الصحة في مصر اليوم.
حقائق وأرقام
كشف تقرير التنافسية العالمي للعام 2019 عن هبوط مصر في مستوى الصحة من المركز 99 (من أصل 141 دولة) في العام 2018 إلى المركز 103 في العام 2019. لا يبدو التقرير مفاجئًا، فالإحصاءات تتحدَّث عن نفسها وتبرز التدهور الحاد الذي يصيب قطاع الصحة في مصر على مدار الأعوام.
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، انخفض عدد مستشفيات القطاع الحكومي، الذي يُفتَرَض به أن يعالج الأغلبية من الشعب المصري، من 1146 مستشفى عام 2008 إلى 691 عام 2018، بينما ارتفع عدد مستشفيات القطاع الخاص من 686 عام 2008 إلى 1157 عام 2018. بحسبة بسيطة نجد أن عدد المستشفيات الخاصة قد زاد بنسبة 41% في نفس العشر سنوات التي انخفض فيها عدد المستشفيات الحكومية بنسبة 40%.
أما عن تجهيزات المستشفيات الحكومية وإمكانياتها، فحدِّث ولا حرج. لعلَّ عدد الأسرَّة المتوافرة بها يشير لما وصلت إليه الأوضاع في قطاع الصحة الحكومي. انخفض عدد الأسرَّة في المستشفيات الحكومية من 71 ألف سرير عام 1998 إلى 41 ألفًا في العام 2011، ليصل في العام 2018 إلى 36 ألفًا فقط. هذا التدهور الشديد صاحبته انتعاشةٌ كبرى في الجهة المقابلة، إذ زاد عدد الأسرَّة في المستشفيات الخاصة باهظة التكاليف من 15 ألف سرير عام 1998 إلى 29 ألفًا عام 2011، ليصل في العام 2018 إلى 35 ألف.
وبصورةٍ عامة، يبلغ مُعدَّل الأسرَّة في مصر 1.6 سرير لكل ألف مواطن (في الولايات المتحدة 10، وفي السويد 12 لكل ألف مواطن). أما عن أسرَّة الرعاية المركزة على وجه التحديد، فبحسب شريف وديع، مستشار وزيرة الصحة للرعاية الحرجة والطوارئ، تقل مصر كثيرًا عن المُعدَّل العالمي، المُقدَّر بسرير واحد لكل 7 آلاف مواطن، في حين يُقدَّر في مصر بسرير واحد لكل 17 ألف مواطن.
تفصح هذه الأرقام عن تراجع عنيف في حجم ونوعية المستشفيات الحكومية مقابل انتعاشٍ في المستشفيات الخاصة في إطار السياسات الاقتصادية العامة للنظام، حيث الانسحاب من تقديم الخدمات وإتاحتها للمستثمرين والشركات؛ أي تحويل هذه الخدمات إلى سلع تخضع لقوانين السوق ويحصل عليها فقط القادرون على الدفع.
العاملون بقطاع الصحة
الأوضاع لا تقل سوءًا بالنسبة للأطباء والعاملين في مجال الصحة، الذين فاض بهم الكيل من الأوضاع الوظيفية السيئة، حيث غياب بيئة العمل الملائمة، وعجز الوزارة عن توفير المسلتزمات الطبية والتجهيزات الطبي بالمستشفيات، الأمر الذي يضع الأطباء والعاملين بالتمريض في مواجهةٍ مُباشِرة مع أهالي المرضى لتحمُّل ذنبٍ ليس لهم يدٌ فيه، علاوة على ضعف وسائل الوقاية لحماية الكادر الطبي من العدوى، وضآلة الأجور وبدل العدوى (بدل العدوى للأطباء من 19 إلى 30 جنيهًا، ولم يزد منذ العام 1995، في حين يبلغ 3 آلاف جنيه للقضاة).
كلَّ هذا دَفَعَ آلاف الأطباء للاستقالة من العمل بوزارة الصحة، إما للعمل في القطاع الخاص وإما للعمل بالخارج. وتتزايد الاستقالات من عامٍ لآخر، فقد استقال 1044 طبيب في العام 2016، و2549 في 2017، وفقًا لنقابة الأطباء، بينما قالت وزارة الصحة في بيانٍ أصدرته يناير الماضي إن الاستقالات بلغت 2600 في 2018، وتصاعدت إلى 3500 في 2019.
وبحسب دراسةٍ أعدَّها المجلس الأعلى للجامعات والمكتب الفني لوزيرة الصحة، بعنوان “احتياجات سوق العمل من المهن الطبية خلال الخمس سنوات المقبلة بدءًا من عام 2020″، فإن عدد الأطباء البشريين المُسجَّلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة، باستثناء أصحاب المعاشات منهم، يبلغ 212 ألف و830 طبيب، يعمل منهم 82 ألفًا فقط (38%) في قطاعات الصحة الحكومية والجامعية والخاصة. هذا يعني أن 62% من الأطباء المُسجَّلين يعملون خارج مصر بعد استقالة أغلبهم من العمل الحكومي هزيل الأجر. وتشهد مصر عجزًا حادًا في مُعدَّل الأطباء الذي يبلغ حاليًا 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن (المُعدَّل العالمي 23 طبيب لكل 10 آلاف).
حاول آلاف الأطباء على مدار سنواتٍ سابقة الوقوف ضد هذا النزيف المتواصل في قطاع الصحة، من أجل ظروف عملٍ مناسبة وخدمة صحية يستحقها المواطن، وصولًا إلى زيادة مُخصَّصات الصحة إلى 15% من الموازنة العامة للدولة. نظَّم الأطباء الوقفات الاحتجاجية والمسيرات، وحتى إضرابين في عاميّ 2012 و2014. في المقابل، لم يتردَّد النظام في إطلاق أبواقه الإعلامية لتشويه حركة الأطباء والتحريض ضدهم واصفًا احتجاجاتهم بـ”الفئوية”. النظام نفسه هو الذي تصدَّى لمحاولات تحسين الرعاية الصحية في مصر.
الميزانية وأولويات النظام
هلَّل الكثيرون من أنصار النظام في العام 2013 لمادة الصحة في الدستور الجديد آنذاك. لم ينص الدستور على الحق في الصحة، وحَذَفَ عبارة “غير القادرين” من الديباجة، وحدَّد موازنة الصحة بألا تقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي (وليس من الموازنة العامة للدولة). غير أن النظام لم يلتزم حتى بتلك الشروط المجحفة التي وضعها بنفسه، إذ كشف تقريرٌ أصدره البنك الدولي بعنوان “مرصد الاقتصاد المصري، يوليو 2019” عن تراجع مُخصَّصات الصحة في موازنة العام المالي الجاري إلى 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي.
تتباهى وسائل الإعلام الموالية للنظام بأن ميزانية وزارة الصحة تبلغ 73 مليار جنيه (4.7 مليار دولار بالسعر الحالي) في العام المالي الجاري 2019/2020، وبحدِّ زعمهم فإن هذه هي الميزانية الأكبر في تاريخ الوزراة إذا ما قورِنَت بالسنوات السابقة. لكن هذه ليست سوى خدعة رخيصة من زبانية النظام الذين يتجاهلون عن عمد الهبوط المُروِّع لقيمة الجنيه المصري بعد تعويمه أواخر العام 2016. فقد كانت مُخصَّصات وزارة الصحة في ميزانية 2015/2016، أي قبل التعويم، تبلغ 58 مليار جنيه، أي 7.4 مليار دولار (7.8 جنيه لسعر الدولار آنذاك). وهذا ببساطة يعني أن مُخصَّصات الصحة للعام الحالي انخفضت بنسبة 36% تقريبًا عمَّا كانت عليه في 2015.
تتعارض أولويات الدولة المصرية في الإنفاق مع مصلحة الملايين في خدمات صحية لائقة. يكفي أن ننظر إلى المليارات التي ينفقها النظام في بناء العاصمة الإدارية على سبيل المثال، أو المليارات التي تُنفَق على وزارة الداخلية
أو صفقات السلاح التي اشتري بها السيسي شرعيته من دولٍ أجنبية أو على الأقل كان يضمن بها صمتهم إزاء جرائمه. فخلال السنوات نفسها التي شهد فيها قطاع الصحة هذا التدهور البالغ في مخصَّصاته المالية، صارت مصر ثالث أكبر مستورد للسلاح في العالم (في الفترة من 2014 إلى 2018)، بحسب معهد ستوكهولم للسلام. وبلغت حجم الصفقات العسكرية عام 2015 وحده، وفق تقديرات حكومية، 10.4 مليار دولار! في ظلِّ حكم السيسي، السلاح قبل الخبز وقبل العلاج.
هذا النظام، بأولوياته التي تُهمِّش مصلحة أغلبية المصريين وحقهم في الخدمات، وعلى رأسها الخدمات الصحية، هو العائق الرئيسي أمام مواجهة الوباء والوقاية منه.