بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عن أزمة كورونا وحال الأطباء والصحة في مصر

مستشفى مصر كورونا

مع كلِّ يومٍ جديد نسمع عن إصابة العشرات من الطواقم الطبية بفيروس كورونا الجديد في مصر، فمن معهد الأورام إلى مستشفى الصدر بدكرنس إلى معهد القلب، وغيرهم الكثير، هناك ارتفاعٌ كبير جدًا في أعداد الإصابات في الفريق الطبي. وقد أعلنت نقابة الأطباء 43 إصابة و3 وفيات بين الأطباء حتى الآن، ويُقدَّر حجم الإصابة في الفريق الطبي عمومًا بحوالي 15% من مجمل حجم الإصابات (المُعلَنة) بالإصابة بكورونا حتى اليوم.

في المقابل، نجد تحميل الفريق الطبي المسئولية عن الإصابة، كما جاء في بيان هيئة الصحة بالبرلمان وفي منشور مديرية صحة كفر الشيخ، وعقاب الطبيب الذي يشكو من غياب مستلزمات مكافحة العدوى كما حدث مع طبيب الشرقية الذي قامت مديرية الصحة بالشرقية بنقله تعسفيًا، بل وتهديد الأطباء بالمخابرات العامة في حال انقطاعهم عن العمل للمطالبة بأدوات مكافحة العدوى كما حدث في معهد القلب، وتهديدهم بالفصل كما حدث في معهد الأورام، وما خفي كان أعظم.

كما نجد أنه أيضًا على المستوى الشعبي هناك تفاوت في رد فعل الأهالي من الأطباء، بين تقدير لدور الأطباء كما في فيديو التصفيق لطبيب أسوان، وفي المقابل نجد انعدام تقدير كما حدث عندما رفض سكان قرية بكفر الدوار دفن والدة طبيب مصابة بالكورونا، وتهديد سكان العمارة الطبيبة التي تسكن لديهم بالاتصال بالشرطة في حال عدم تركها للعقار كما حدث في بورسعيد وسوهاج.

فما الذي يحدث؟ وما السبب في هذا العدد الكبير من الإصابات؟ وما سبب تباين رد الفعل الشعبي من الأطباء والفريق الطبي؟

الحقيقة أن أعضاء الفريق الطبي، مع المريض بالطبع، يدفعون اليوم فاتورة أعوام طويلة من إهمال منظومة الفقراء الصحية في مصر، وثمن تصدير أزمة الصحة للفريق الطبي عبر إعلام الدولة.

بعد ثورة يناير ناضل الأطباء والفريق الطبي من أجل تحسين المنظومة الصحية وكان شعار “الحق في الصحة” وشعار “الصحة حق وليس منحة” في القلب من هذا النضال، فكانوا يطالبون برفع أجور الأطباء دائما بالتوازي مع زيادة موازنة الصحة إلى المعايير العالمية، ومن أجل هذا قاموا بثلاث إضرابات كبرى في 2011 و2012 و2014، كما قاموا بعدد ضخم من الاحتجاجية المختلفة للمطالبة بهذين المطلبين ضمن مطالب أخرى، بحيث تحول دور الأطباء في تلك الفترة إلى رافعة مجتمعية للقطاع الصحي بالكامل، ونجحوا في حصار النزعات الانتهازية التي كانت تطالب بفصل مطلب زيادة الصحة عن باقي مطالب الأطباء لفترة طويلة بعد الثورة، وهذا بالمناسبة هو أحد أهم الأسباب التي تذكي من غضب الحكومة الدائم على الأطباء.

كان الهدف من المطالبة بتحسين دخول الأطباء بالأساس هو السعي لتوفير راتب محترم للطبيب يضمن له التفرغ لأداء مهنته والبحث العلمي في مجاله وتطوير خبراته الطبية، بدلًا من العمل بأكثر من مكان لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة له ولأسرته، ولتوضيح الصورة يجب أن نلقي نظرة على حال الطبيب الذي لا يكاد يلامس راتبه حاجز ال170 دولار شاملا كل البدلات، وحتى بعد الزيادة الهزيلة التي أقرها السيسي في مارس الماضي برفع بدل المهن الطبية 75% لن تتجاوز الزيادة ال400 جنيه أي حوالي 25 دولار فقط، وتجدر الإشارة هنا إلى أن بدل المهن الطبية أساسًا كان قد تم إقراره في 2014 بعد نضال كبير من الأطباء وإضراب لكل العاملين بقطاع الصحة استمر لـ60 يومًا.

كما يحصل الأطباء على بدل عدوى يقدر بـ19 جنيه شهريًا في نفس الوقت الذي يصل فيه بدل العدوى لوكيل النيابة الشاب الى 3 آلاف جنيه، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك حكم محكمة في 2015 بصرف بدل عدوى للأطباء قيمته 1000 جنيه (كان هذا قبل قرار تحرير سعر الصرف) وترفض الحكومة تنفيذ هذا الحكم، ليس هذا فقط بل وقامت وزارة الصحة بالطعن عليه! أما عن رواتب التمريض فهي أيضًا ضعيفة وتصل في أقصى الأحوال وفقا لتصريحات نقابة التمريض 1300 جنيه للممرض حديث التخرج وحد أقصى 3000 للممرض القديم.

وعن أسلوب القيادة والإشراف المتبع فحدث ولا حرج عن حجم التعسف في التعامل مع الفريق الطبي مثل إقرار البصمة والتعسف في نقل الأطباء وتكليفهم بمهام صعبة ودون مراعاة لظروفهم وأقرب مثال كان حادث انقلاب أتوبيس طبيبات المنيا، وتحكي إحدى الناجيات كيف تم تبليغها وزملائها بموعد الدورة قبلها بساعات فلم يجدوا حجزًا بالقطار مما اضطرهم للسفر بالميكروباص من المنيا إلى القاهرة على طريق خطير، بعد وصولهم تهديد من وزارة الصحة أن عليهم التصرف والحضور بأي طريقة، وأنه في حال عدم حضورهم الدورة التدريبية فى الموعد الذى تم تحديده سيتم مجازاتهم على عدم الانصياع للأوامر وتحويلهم للتحقيق، أو نقلهم تعسفيًا.

بالطبع نتج عن هذه الظروف المريرة هروب العديد من الأطباء والطاقم الطبي فارتفع عدد الأطباء المستقيلين من 1044 طبيبًا خلال عام 2016، ليصل إلى 2049 طبيبًا في 2017، وازداد إلى 2397 طبيبًا في عام 2018، هذا غير السفر للعمل بالخليج والهجرة لأوروبا وأمريكا، يصل عدد الأطباء المصريين العاملين بالخارج إلى 100 ألف طبيب منهم 65 ألف طبيب في السعودية وحدها، وهذا كله خَفَضَ من نسبة الأطباء العاملين في مصر إلى 80 ألف طبيب فقط يعملون في مستشفيات ووحدات مديريات الصحة والمستشفيات والمعاهد التعليمية، وذلك من أصل 213 ألف طبيب مسجل، كما بلغ إجمالي عدد أعضاء هيئة التمريض القائمين بالعمل بالقطاع الحكومى 187 ألف ممرض فى 2016 من أصل 243 ألف طاقم تمريض مسجل، بينما ترك العديد منهم العمل أو يعمل بالخارج بعد تسجيل إجازة بدون راتب، مما أدى إلى عجز شديد في عدد مقدمي الخدمة الصحية.

في قطاع الأطباء انخفض العدد إلى 10 أطباء تقريبًا لكل 10 آلاف مواطن في حين أن النسبة العالمية للحد الأدنى اللازم من الأطباء هو 23 طبيب لكل 10 آلاف مواطن وفي أوروبا تصل النسبة الـ32 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، كما انخفض عدد طواقم التمريض لتصل النسبة إلى عدد السكان في مصر 22 ممرض لكل 10 آلاف مواطن تقريبًا بينما النسبة العالمية للحد الأدنى من عدد طواقم التمريض لتقديم خدمة مقبولة هي 45 لكل 10 آلاف مواطن.

وكل هذا أدى الى تصريح وزيرة الصحة هالة زايد بأن لدينا أقل نسبة أطباء في العالم ودعوة البرلمان لتمديد سن المعاش، والكلام عن استصدار قانون يمنع الأطباء من السفر، وهذا المشروع توقف لا لشئ إلا أن الأطباء والفريق الطبي العاملين بالخارج يدفعون (بالدولار) للدولة حوالي 1000 دولار سنويًا نظير التأمينات والمعاشات وتجديد الإجازة بدون راتب، كما أن تحويل مدخراتهم إلى داخل مصر لا تقل عن 3 مليارات دولار سنويًا، بحسب تصريحات الدكتور أحمد حسين عضو مجلس نقابة الأطباء السابق، كما تم استصدار قانون جديد لأطباء الامتياز في سبتمبر 2019 الذي رفع مكافأة طبيب الامتياز إلى 2200 جنيه مقابل أن يقوم طبيب الامتياز (المتدرب) بالعمل في المستشفيات الحكومية لعامين بدلا من عام واحد لسد العجز، وبالطبع رغم صحة قرار رفع المكافأة، إلا أنه غير مصرح لأطباء الامتياز العمل في المستشفيات دون إشراف، ولكن القرار هو محاولة للتغطية على فضيحة نقص أعداد الأطباء بالمستشفيات، ويجب الإشارة هنا إلى التوظيف السياسي لهذا القرار فرغم أن القانون صادر من سبتمبر 2019 إلا أن السيسي أعلن عنه مرة ثانية في الثالث من أبريل الماضي لاستخدامه سياسيا في أزمة كورونا الحالية.

أما المحور الثاني فكان مطالبة الفريق الطبي بزيادة موازنة الصحة ووصولها إلى المعايير العالمية وهي 15% من الموازنة العامة للدولة حيث تصل الموازنة الحالية إلى 4% فقط يصرف ثلثها تقريبًا على رواتب العاملين والمستشارين بديوان عام الوزارة، وما يتبقى لا يكفي بأي حال لتغطية حاجة المستشفيات من المستلزمات الطبية وغيرها من احتياجات المرضى والفريق الطبي وأدوات مكافحة العدوى، مما يخلق حالة من النقص والعجز الشديد في هذه المستلزمات، وكثير منا ذهب إلى مستشفى حكومي وتعرض لموقف النقص الحاد في المستلزمات وطلب الفريق الطبي من مرافق المريض شرائها من الخارج، وهو ما يخلق حالة غضب شديد من المترددين على حال الصحة في مصر ينفجر بالطبع في وجه مقدم الخدمة الذي لا ذنب له، ويزيد من هذا الغضب في صدور متلقي الخدمة الصحية الفقير لجوء المستشفيات الحكومية الى تمويل صندوق تحسين الخدمة من خلال تفعيل وتوسعة أقسام العلاج بأجر على حساب الأقسام المجانية، وفقا لقانون تنظيم العمل بالمستشفيات، وأحيانا رفع أسعار التذاكر بالقسم المجاني.

ونقطة أخرى هامة وهي أن غياب مستلزمات الوقاية ومكافحة العدوى والعجز الدائم في توفيرها يجعل المستشفيات بؤرًا لانتشار العدوى، وبيئة خصبة لإصابة وموت الأطباء خاصة بالفيروسات التنفسية والإلتهابات السحائية، وقد سقط العشرات من الأطباء ضحايا العدوى بمكان العمل مثل الدكتور أحمد عبد اللطيف والدكتور أسامه راشد والدكتورة داليا محرز وغيرهم في فترة ما قبل الكورونا، فإصابة الأطباء بالعدوى وتحول المستشفيات إلى بؤر انتشار لها خبر قديم سابق على انتشار الكورونا بسنوات.

ولمزيد من التوضيح فهذه بعض الإحصاءات التي تبين الوضع الصحي في مصر، فبينما النسبة العالمية للحد الأدنى لعدد الأسرة إلى عدد السكان هي 36 سرير لكل 10 آلاف مواطن تصل النسبة في مصر إلى 16 سرير لكل 10 آلاف مواطن، أما عن أسرَّة الرعاية المركزة على وجه التحديد، فعلى عكس تصريح أحد أعضاء لجنة مكافحة كورونا بوزارة الصحة للتلفزيون عن توفر أسرة الرعاية المركزة، فالحقيقة أن مصر تقل كثيرًا عن المُعدَّل العالمي من حيث تواجدها، فبينما المعدل العالمي هو سرير واحد لكل 7 آلاف مواطن، يُقدَّر العدد في مصر بسرير واحد لكل 17 ألف مواطن، وكل هذا أدى إلى تراجع تصنيف مصر في تقرير التنافسية العالمي للعام 2019 في مستوى الصحة من المركز 99 (من أصل 141 دولة) في العام 2018 إلى المركز 103 في العام 2019.

فالواقع يقول أن لدينا عجزٌ شديدٌ جدًا في عدد مقدمي الخدمة الصحية، كما أن هناك تدنٍ شديدٍ في مستوى الخدمة الصحية المقدمة، وهذا ناتج عن غياب صحة المواطن الفقير عن أولويات النظام الحاكم في مصر المهتم ببناء قصور رئاسية لرفاهيته، وبناء السجون لمعارضيه، ودعم حاشيته من رجال الأعمال والجنرالات، فنحن ندفع فاتورة سنين من عسكرة الدولة ودعم رأسماليتها على حساب حقوق المواطن الفقير في الصحة والتعليم والبحث العلمي، سنوات من تحميل المريض المصري أعباء ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي ودعم رجال الأعمال، ما نراه اليوم هو تعبير عن المسافة الكبيرة الموجودة بين الدعاية للإصلاح الاقتصادى والتبشير بثماره وبين الواقع المرير الذي ينتجه، وكما أن هذه الفاتورة ثقيلة، فيجب أن يتحمل تكلفتها كاملة كل من استفاد من ثمار هذا الإصلاح الاقتصادي طوال السنوات الماضية.