بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ليلى سويف و«أمهات ساحة مايو»: نضالٌ واحد من الأرجنتين إلى سجن طرة

أمهات ساحة مايو - الأرجنتين

لعدة أسابيع مضت، استمرَّت الدكتورة ليلى سويف في الذهاب والانتظار أمام سجن طرة، حيث يقبع ابنها علاء عبد الفتاح في زنازين الديكتاتورية العسكرية، في إصرارٍ صلب على طلبٍ بسيط، ألا وهو إدخال طعام وأدوية ورسائل لنجلها للاطمئنان عليه.

استمرَّ الرفض والتعنُّت من جانب وزارة الداخلية، مِمَّا دَفَعَ علاء لخوض إضرابٍ كلي عن الطعام لأكثر من 35 يومًا، في ظلِّ استغلال الداخلية أزمة كورونا لمزيدٍ من التعنُّت في إدخال الاحتياجات الأساسية للمعتقلين في زنازينهم. وبعد أكثر من 23 محاولة، تمكَّنَت ليلى سويف وأسرة علاء من إدخال بعض الطعام في السجن واستلام خطاب منه يفيد فيه بأنه قرَّر فكَّ الإضراب بعد علمه باستئناف جلسات النظر في تجديد الحبس أمام قضاة غرف مشورة وفي أيدِ محامين.

لعلَّ الإصرار البطولي لليلى سويف، سعيًا وراء حقوق ابنها المعتقل وتضامنًا مع الآلاف غيره في السجون، يُذكِّرنا بأحد أهم نضالات النساء على مرِّ التاريخ، وهو نضال أمهات ساحة مايو في الأرجنتين خلال فترة الديكتاتورية العسكرية الوحشية من 1976 إلى 1983، وما بعدها.

عُرِفَت هذه الفترة باسم “الحرب القذرة”، إشارةً إلى إرهاب الدولة تجاه المعارضين وكلِّ من ترى أنه يمثِّل تهديدًا على أمنها واستقرارها. وكحال الديكتاتوريات العسكرية، سواء في مصر الآن أو في البرازيل أو تشيلي وغيرهما من الدول سابقًا، شنَّت الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين خلال الفترة المذكورة حربًا لا هوادة فيها ضد المعارضين والنقابيين والحقوقيين، استخدمت فيها أقذر الأساليب وأكثر وحشية؛ من الاختطاف والإخفاء القسري إلى التعذيب والتصفية الجسدية.

بلغ عدد المختفين قسريًا في الأرجنتين خلال تلك السنوات 30 ألفًا، معظمهم من اليساريين والطلاب والنقابيين والنشطاء الحقوقيين، من كافة الأعمار، وكانوا يُعذَّبون ويُقتَلون في النهاية.

في 30 أبريل 1977، قرَّرَت مجموعةٌ من 14 أمًا أن يتجمَّعن في ساحة مايو، أمام قصر الرئاسة في وسط العاصمة بوينس آيرس، للمطالبة بمعلوماتٍ عن مكان وجود أبنائهن المختفين، بعد أن فشلت كافة محاولاتهن للحصول على إجاباتٍ عبر طَرق أبواب المسئولين والوقوف في أروقتهم.

كانت الأمهات تتجمَّعن في الساحة أسبوعيًا، دون هتافاتٍ أو لافتاتٍ في البداية، كتعبيرٍ عن التضامن مع كلِّ شخصٍ فَقَدَ ابنًا أو ابنة. ولأن التجمهر كان محظورًا، كما هو الحال في مصر اليوم، كنَّ يمشين فرادى أو في مجموعاتٍ صغيرة للغاية لتجنُّب الاعتقال، ولتمييز بعضهن في الطريق إلى الساحة، كنَّ يرتدين على رؤوسهن منديلًا أبيض، صار بعد ذلك رمزًا للحركة.

مع الوقت، بدأت الحركة تكبر، وتزايَدَ عدد الأمهات المشاركات، رغم إدراكهن خطورة تجمُّعهن، ورغم تهديدات الحكم العسري لهن بالاعتقال والإخفاء القسري مثلما حَدَثَ لأبنائهن. بدأت الأمهات يكسبن تعاطف وتأييد ومساندة الجماهير. كان للتراكم والمثابرة في الحركة دورٌ حاسمٌ في إنجاحها، إذ لم تتخلَّف الأمهات قط عن الذهاب إلى الساحة في أيِّ خميس؛ مهما كانت حالة الجو وبغض النظر عمَّا إذا توافَقَ اليوم مع إجازةٍ أو عيد.

لم يذهب هذا الإصرار سُدى. انتهت الديكتاتورية عام 1983 وتسلَّمَت السلطة حكومةٌ مدينة، وفي عام 1984 حوكِمَت قيادات الطغمة العسكرية السابقة. لكن ذلك لم يثنِ الحركة عن الاستمرار للحصول على إجاباتٍ عن أماكن أبنائهن (الذين في الحقيقة قُتِلَ معظمهم ولم يُعثَر عليهم أحياءً قط)، وفُتِحَ باب هذه القضية مُجدَّدًا عام 2005 لمحاكمة كافة المسئولين السابقين. استمرَّت حركة الأمهات طيلة تلك السنوات رغم أن معظمهن لم تر أبناءهن قط منذ اختفائهم، لكن الحركة صارت بمثابة تعبيرٍ احتجاجي ضد القمع في أيِّ مكانٍ في العالم.

تُعلِّمنا ليلى سويف، كما علَّمتنا من قبل أمهات ساحة مايو، أن حتى أبسط المطالب تتطلَّب نضالًا مُضنيًا وعزيمةً صلبة، وأن هذا النضال وهذه العزيمة هما الوسيلة الوحيدة لشقِّ طريقٍ من نورٍ في ظلِّ الظلام الدامس الذي تفرضه الديكتاتورية العسكرية في مصر، كما فرضته في الأرجنتين سابقًا.